كيف تخدع روسيا نظام الـ «GPS» العالمي لحماية بوتين؟
لاحظ باحثون في مركز دراسات في واشنطن حدوث أشياء غريبة كلما اقترب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أحد المرافئ؛ إذ يتوقف نظام التموضع العالمي (GPS) للسفن الراسية في المرفأ عن العمل، مما يضعها على بعد أميال كثيرة من المطارات القريبة.
ووفقاً لتقرير حديث صادر عن خبراء أمنيين يعملون ضمن مجموعة C4ADS، فإنَّ هذه الظاهرة تشير إلى أنَّ بوتين يسافر بجهاز متنقل لانتحال نظام التموضع العالمي (GPS)، وأنَّ روسيا، بشكل عام، تتلاعب بأنظمة الملاحة العالمية على نطاق أكبر بكثير مما كان معروفاً في السابق.
وبحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية «لا تزال روسيا رائدة في هذا المجال، وتكشف عن استعدادها ليس فقط لاستخدام هذه القدرات لحماية الشخصيات المهمة والمرافق ذات الأهمية الاستراتيجية، ولكن أيضاً للاستفادة من هذه التقنيات في تعزيز مغامراتها على الحدود في سوريا والحدود الأوروبية لروسيا».
حرب مركزّة حول شبكات الأقمار الاصطناعية
وقد قام الجيش الروسي، في محاولة منه لتقويض الميزة العسكرية الغربية في مجال الأسلحة الدقيقة، باستثمارات ضخمة في الحرب الإلكترونية، مما زاد بشكل كبير من قدرته على تشويش اتصالات العدو، وهو الأمر الذي من شأنه أن يجعل الأفكار الأمريكية عن الحرب المركزة حول الشبكات أمراً ممكن الحدوث.
وقال مايكل كوفمان، الخبير في شؤون الجيش الروسي بمنظمة CNA البحثية: «تحتاج الأسلحة الذكية إلى أشخاص أذكياء يخبرونها بأشياء ذكية. تحتاج إلى إحداثيات تحديد المواضع، وتحتاج إلى أنظمة ملاحة. وتتطلب سرعة العمليات وصولاً دائماً إلى البيانات على نحو فوري»، ويعتقد الجيش الروسي أنَّ الحرب الإلكترونية «جزء من حل مشكلة الهيمنة الأمريكية في مجال الأسلحة الدقيقة والهجوم الجوي».
استخدمت في سوريا وأوكرانيا أيضاً
واستخدمت روسيا هذه التقنيات أول مرة في أوكرانيا وسوريا، فكانت تشوش الرسائل اللاسلكية ونظام التموضع العالمي (GPS) وإشارات الرادار. وقد اشتكى القادة الأمريكيون في سوريا من «بيئة الحرب الإلكترونية العدوانية»، ويتخذ الجيش الأمريكي الآن خطوات لتحسين قدراته في هذه الحرب.
ويمتد التركيز الروسي على الحرب الإلكترونية إلى تفاصيل الأمن الشخصي لبوتين، إذ تبنَّت روسيا التحايل على (GPS) لحماية الزعيم الروسي من هجمات الطائرات من دون طيار. لكنَّ استخدام تكنولوجيا الانتحال هذه يمكن تتبعه أيضاً ويوفر نظرة غير مسبوقة على فاعلية وحجم قدرات الحرب الإلكترونية الروسية.
يستخدم الحراس الشخصيون لبوتين ما يبدو في ظاهره نهجاً غير متوقع لمنع محاولات الاغتيال من قبل الطائرات من دون طيار. إذ تنتحل أجهزة خداع نظام التموضع العالمي التي تسافر مع بوتين إشارات الـGPS المدنية، وتعطي المتلقي إحداثيات خاطئة للمطارات المحلية. وتختار هذه الأجهزة إحداثيات المطارات المحلية لأنَّ الطائرات التجارية من دون طيار عادة ما تأتي مبرمجة بآليات للسلامة تجعلها تهبط تلقائياً أو تتوقف عن العمل عند دخولها المجال الجوي لمطار ما.
نظرياً، فإنَّ الطائرات من دون طيار القريبة من بوتين سوف تتوقف عن العمل أو تهبط تلقائياً عندما تدخل ضمن نطاق جهاز الانتحال. والخوف من الاغتيال بالطائرات من دون طيار أمر واقعي، إذ نجا الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، العام الماضي، من محاولة لاغتياله تضمَّنت استخدام طائرات من دون طيار لاستهدافه بالمتفجرات.
آثار جانبية مدهشة
لكنَّ استخدام روسيا لتكنولوجيا الخداع نتجت عنه آثار جانبية مدهشة. ففي سبتمبر 2016، سافر بوتين إلى مضيق كيرتش مع رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف، لتفقّد التقدم المحرَز في بناء جسر بقيمة 4 مليارات دولار، يصل إلى البر الرئيسي الروسي والالتقاء بالعمال. وبينما كان الاثنان هناك، بدأت أنظمة تحديد الهوية الآلية للسفن القريبة، وهي أنظمة تعتمد جزئياً على نظام التموضع العالمي، في الإبلاغ عن مواقعها كأنها في مطار سمفروبل الدولي، على بعد حوالي 125 ميلاً.
بعد ذلك بعامين، عاد بوتين إلى كيرتش لقيادة قافلة من عربات البناء عبر الجسر المشيّد حديثاً. ومرة أخرى قدّمت السفن الموجودة في المنطقة معلومات غريبة عن مواقعها، لتظهر وكأنها في مطار أنابا في الداخل الروسي.
ومن خلال فحص بيانات المواقع البحرية، المتاحة للجمهور، استطاع الباحثون بمجموعة C4ADS تقديم أول تقدير للتأثير واسع النطاق لأنشطة الانتحال الروسية. إذ سجلت المجموعة بين شهر فبراير 2016، ونوفمبر 2018، 9883 حالة خداع أثرت على 1311 سفينة، وهو ما يشير إلى أنَّ الخداع الروسي أكثر انتشاراً وأكثر عشوائية على حد سواء مما كان متصوراً في السابق.
وقال كوفمان: «هذا أمر مثير للاهتمام حقاً، لأنه يساعدنا على فهم التأثير والنظر إلى من يتأثر بذلك جغرافياً. إنَّ التحدي الذي يكمن في الحرب الإلكترونية أنه لا يمكنك قياسها».
ويمثل هذا الرقم الحد الأدنى لعدد حوادث انتحال نظام التموضع العالمي (GPS)، لأنه يوثق نوعاً واحداً فحسب من الأنظمة المتأثرة. إذ يركز تقرير C4ADS على إشارات GPS البحرية، نظراً لسهولة توافرها، لكن من المرجح أيضاً تأثر الأنظمة المدنية الأخرى التي لا تبث مواقعها علناً.
وتشمل المواقع المتأثرة بانتحال GPS، التي وثَّقتها مجموعة C4ADS مناطق حول القرم وسان بطرسبورغ وموسكو، وفي أقصى الشرق في فلاديفوستوك وحول القواعد العسكرية في سوريا.
ووثقت مجموعة C4ADS استخدم أجهزة انتحال GPS المضادة للطائرات من دون طيار، في مقرات روسية رسمية ومباني حكومية غير رسمية، بما في ذلك قصر مبني على الطراز الإيطالي على البحر الأسود. ولطالما نفى الكرملين امتلاك بوتين لهذا القصر، لكنَّ وجود هذا النظام يشير إلى عكس ذلك. وكانت المجموعة قادرة كذلك على تحديد وجود جهاز منتحل لنظام GPS، يعمل بشكل شبه دائم على أرض القصر أو بالقرب منه.
ووجد الباحثون أيضاً استخدام هذه التكنولوجيا في القاعدة الروسية العسكرية في سوريا، التي هاجمتها الجماعات المسلحة بطائرات من دون طيار.
جيران روسيا يشتكون بمرارة من هذا التشويش
وليس ثمة أي مؤشر على أنَّ أجهزة انتحال نظام التموضع العالمي الروسية قد تسببت في ضرر مدني مباشر حتى الآن. ذلك أنَّ تشويش نظام التموضع العالمي قد أوقفطائرات الإسعاف عن العمل في شمالي النرويج العام الجاري، وقد اشتكى جيران روسيا بمرارة مؤخراً من هذا التشويش.
وأثناء تدريبات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في إسكندنافيا، العام الماضي، أبلغ الطيارون عن مواجهتهم مشكلات في أنظمة GPS الخاصة بهم. وقال رئيس الوزراء الفنلندي يوها سيبيلا، وهو طيار متمرس يسافر أحياناً بطائرته الخاصة في رحلات عمل حكومية: «هذه ليست مزحة، هذا أمر يهدد الأمن الجوي للناس العاديين».
وتتبعت المخابرات النرويجية فيما بعد هذا التشويش، وصولاً إلى الجيش الروسي. وليس الجيش الروسي وحده مَن يتدرَّب على تشويش إشارات نظام التموضع العالمي، إذ حذَّر الجيش الأمريكي، العام الجاري، من أنَّ تدريبات تشويش نظام التموضع العالمي من المرجح أن تؤثر على الأنظمة عبر مساحات واسعة من جنوب شرقي الولايات المتحدة. ومن غير الواضح على وجه التحديد ما هي الأنظمة التقنية التي تستخدمها أجهزة الاستخبارات الأمريكية لحماية القادة الأمريكيين من تهديدات الطائرات من دون طيار.
أنظمة يمكن اختراقها والتحايل عليها بسهولة
ويوضح مثل هذا النشاط مدى قابلية أنظمة GPS للتلاعب، إذ أشار الباحثون الأمنيون لسنوات إلى أنَّ مثل هذه الأنظمة يمكن انتحالها بسهولة، لكن ليس من الواضح إذا ما كانت الجهات المصممة لمثل هذه الأنظمة تتخذ أي تدابير لحمايتها.
وقد أصبحت أنظمة التموضع العالمي في كل مكان تقريباً في الاقتصاد الحديث، إذ تُستخدم في الهواتف الذكية والسيارات وأنظمة التحكم الصناعية. وتستخدم الشبكة الكهربائية الأمريكية، على سبيل المثال، نظام التموضع العالمي لأغراض عديدة.
ومع ظهور أجهزة الراديو المعرفة من قبل البرامج، أصبح انتحال إشارات نظام التموضع العالمي سهلاً ورخيصاً، على حد سواء. وبحسب مجموعة C4ADS، فإنَّ تكلفة المعدات المستخدمة لانتحال إشارة GPS حوالي 350 دولاراً، بعد أن كانت تكلف حوالي 10 آلاف دولار منذ بضع سنوات.
وقال مؤلف تقرير C4ADS لمجلة Foreign Policy، الذي تحدَّث شريطة عدم الكشف عن هويته، خشية انتقام روسي محتمل: «تمثل إمكانية الانتشار والتكنولوجيا المستخدمة في هذا النشاط تهديداً فريداً من نوعه؛ إذ يمكنك نظرياً أن تجهز جهات فاعلة غير مشروعة لتنفيذه في أماكن أخرى». وثمة دليل على أنَّ مثل هذه الأنشطة تحدث بالفعل، ففي عام 2015 حذَّر المسؤولون الحكوميون الأمريكيون من أنَّ الطائرات من دون طيار المستخدمة بطول الحدود الأمريكية المكسيكية، شهدت انتحال أنظمة التموضع العالمي الخاصة بها، وهو ما تم على الأرجح بفعل عصابات المخدرات.