كيف تؤثر جولة إسماعيل هنية الخارجية على الأوضاع في غزة والهدنة مع إسرائيل؟
للمرة الأولى منذ أكثر من عامين ونصف العام، يغادر رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، إسماعيل هنية، قطاع غزة في جولة خارجية لا تقتصر على مصر فقط، فأين يتوجه؟ ولماذا؟ وكيف يمكن أن تنعكس تلك الجولة الإقليمية على الأوضاع في قطاع غزة ومفاوضات الهدنة مع إسرائيل؟
صحيفة هآرتس الإسرائيلية نشرت تقريراً حول القصة، بعنوان: «زعيم حماس ينطلق في رحلاته الخارجية ويضع نصب عينيه مصر والخليج ودولة فلسطين»، ألقت فيه الضوء على جولة هنية من وجهة النظر الإسرائيلية.
إلى أين توجه هنية؟
منذ اختياره رئيساً للمكتب السياسي لحركة «حماس» في صيف عام 2017، لم يسافر إسماعيل هنية خارج قطاع غزة، باستثناء رحلات عمله بمصر. وفي حين يتمتع نائبه صالح العاروري بِحرية الحركة والسفر إلى أنحاء الشرق الأوسط، ويعيش خالد مشعل، سلف هنية، في قطر ويُسافر أينما شاء -أو أينما شعر بالأمان تحديداً- ظلّ هنية محبوساً داخل قطاع غزة.
وبعد أن عقد هنية وزعيم حركة الجهاد الإسلامي زياد نخلة محادثاتٍ في القاهرة، الأسبوع الماضي، مع رئيس المخابرات المصرية عباس كامل، واصل هنية رحلته إلى تركيا. ومن هناك، يُخطّط لزيارة قطر وماليزيا وإندونيسيا ولبنان وموريتانيا. ويأمل أيضاً أن يتسلّم دعوةً من الكرملين للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. في حين ليست زيارة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مُدرجةً على جدول رحلته، كما لم يتبيّن بعدُ ما إذا كان هنية سيزور إيران.
ماذا يعني ذلك بالنسبة لمصر؟
فهل مُنح هنية تصريح خروج يُظهر أنّ مصر سعيدةٌ بالمحادثات التي أجرتها «حماس» مع الجانب الإسرائيلي؟ إذ يقول بعض المُعلّقين المصريين إنّ وقف إطلاق النار المُؤقّت مع الجانب الإسرائيلي وصل إلى مراحل الاتفاق الأخيرة، ولم يتبقَّ سوى قليل من الأسئلة الفنية. في حين صرّحت بعض المصادر من داخل «حماس»، لصحيفة هآرتس، بأنّه لم يجر التوصّل إلى اتفاقٍ بعد، ولكن أهداف مصر والجانب الإسرائيلي هي الخروج بأكبر المكاسب المُمكنة من الهُدنة الطويلة، التي ستمتد لفترةٍ تتراوح بين ثلاثة وخمسة أعوام.
علاوةً على ذلك، تُحاول الدولتان إرساء قواعد لتبادل الأسرى والمفقودين، بحسب ما لمَّح إليه عددٌ من المتحدثين باسم «حماس». وإذا ثبتت صحة ذلك، فستأتي عملية التبادل في مصلحة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال حملته الانتخابية، وربما تكون أيضاً الورقة الرابحة السرية التي يُخفيها في جُعبته. وستتضمّن عملية التبادل هذه سجناء «حماس» الذين احتُجزوا في أعقاب صفقة جلعاد شاليط، إلى جانب سجناء «حماس» الذين ما يزالون رهن الاحتجاز في مصر (وأطلقت مصر سراح 25 سجيناً منهم خلال زيارةٍ لمُمثلي حماس والجهاد الإسلامي في شهر أكتوبر).
والهدف الرئيسي لرحلة هنية هو جمع أكبر قدرٍ مُمكن من التبرعات والالتزامات بالاستثمار في غزة، من أجل مساعدة «حماس» على إعادة تأهيل القطاع وبناء أُسس اقتصادٍ مُستدام. وهذا سيشمل بناء مناطق صناعية على الحدود مع مصر، يقع بعضها داخل الأراضي المصرية، حيث سيجري توظيف آلاف من سكان غزة.
هل هناك اتفاق على هدنة دائمة؟
ويبدو أنّ هنية حصل بالفعل على الضوء الأخضر من الجانب الإسرائيلي لبدء مرحلة التطوير، بمجرد التوقيع على الاتفاق بعيد المدى، ومن المحتمل أن يشمل ذلك التطوير إنشاء جزيرةٍ صناعية قبالة غزة، لتؤدي دور الميناء والبوابة لمرور البضائع، وهي طريقةٌ مُتّفقٌ عليها لتجاوز الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع، ولن يُمثّل المشروع حلاً على المدى القريب، في حال بنائه، ولكنه جذب بالفعل اهتمام مصر التي طلبت تفاصيله، لأنها ترغب في ضمان عدم حرمانها من نفوذها على غزة عبر معبر رفح الحدودي.
وتُفضّل مصر أن تكون مُسيطرةً على كل دخولٍ وخروجٍ من وإلى غزة، لأسبابٍ اقتصادية وأمنية. وفي الوقت الحالي، ستسعد القاهرة بترتيباتها التعاونية مع «حماس» بشأن تأمين حدود سيناء، وقريباً، سيجري تشييد مركز مراقبةٍ آخر، علاوةً على زيادة الدوريات الأمنية المصرية والفلسطينية على جانبي الحدود.
لماذا غزة أرضٌ ذات سيادة؟
المُثير للاهتمام هو أنّ هناك نوعاً من التعاون بين الجانب الإسرائيلي و «حماس»، يتعامل فيه الجانب الإسرائيلي مع «حماس» بوصفها الحكومة المسؤولة عن أمن غزة، حتى في غياب ذلك النوع من التعاون الأمني بين الجانب الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. وهذه وضعيةٌ لن تُعجب السلطة الفلسطينية. ففي حين تتعامل إسرائيل مع أراضي السلطة الفلسطينية كأنّها ملكها -حيث تقطع الطرق وتهدم المنازل وتُنفّذ المداهمات الليلية وعمليات الاعتقال- لكنّها لا تتصرّف بهذه الطريقة في غزة.
ويُمكن القول إنّ الجانب الإسرائيلي يتعامل مع غزة بوصفها دولةً ذات سيادة، إذ إن كل عملية دخولٍ إلى أراضٍ -براً أو جواً- يُمكن أن تُؤدّي إلى رد فعلٍ عنيف، في حين أنّ تلك التصرفات من الجانب الإسرائيلي بالضفة الغربية تُعَدُّ روتينيةً ولا تُهدّد أمن مواطني إسرائيل. لذا فإن إسرائيل تحافظ على توازن الردع مع غزة على غرار التوازن القائم مع حزب الله بلبنان، في حين تُعَدّ أراضي السلطة الفلسطينية بالضفة الغربية ملعباً للجانب الإسرائيلي إلى حدٍ كبير.
لكن ماذا عن اعتراف «حماس» بإسرائيل؟
ويأتي هذا التعاون بالطبع على حساب الأيديولوجية، إذ يتعيّن على «حماس» أن تُفسّر أسباب تفاوضها مع دولة ترسّخت في عقيدتها بوصفها عدواً أبدياً، وكيف تتلاءم الاتفاقية مع مذهب المقاومة «بكل السبل». وقدّم محمود الزهار، القيادي البارز بحركة «حماس»، إجابةً تحت ضغطٍ شديد حين أوضح في مقابلة، أنّ «وقف إطلاق النار واحدٌ من سُبل المقاومة، إذ سيسمح لنا بالتقاط الأنفاس وإعادة التنظيم وتكديس الأدوات اللازمة لنضال التحرير… ولن نمنح الاحتلال هدنةً أبديةً على الإطلاق». وبهذه الإجابة، أقرّ الزهار بأنّ «حماس» تحتاج فترة تهدئةٍ أيضاً. ولم يذكر طول تلك الفترة، لكنّه أكّد أنّها لن تدوم إلى الأبد، وهو ما يعني أنّ هذا ليس اتّفاق سلام أو اعترافاً بدولة إسرائيل، ولهذا فهو لا يتعارض مع أُسس النضال.
وكان رد فعل السلطة الفلسطينية، وقيادة حركة «فتح» تحديداً، على تلك الخطوة هو النقد والسخرية. إذ صوّروا موافقة هنية على إنشاء مستشفى ميداني أمريكي في غزة على أنّه استسلامٌ للأوامر الأمريكية والإسرائيلية مثلاً، واتّهموا «حماس» بمباركة إنشاء قاعدةٍ أمريكية تحت ستار المستشفى.
كيف جاء رد فعل حركة «فتح»؟
ولم يتوقّف رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتية، عند الانتقاد فقط، بل أعلن أنّ السلطة الفلسطينية ستبدأ تشغيل مستشفى بتمويلٍ تركي، بعد عامين من التأجيل، ومن أجل أبعاد هذا الإعلان؛ عليك أن تتذكّر أنّ العلاقات بين السلطة الفلسطينية وتركيا لم تكُن وديةً قط، وذلك على الأرجح بسبب دعم تركيا الكبير لـ «حماس». إذ يُفضّل الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يُحتسب له الفضل، وألا يسمح لـ «حماس» بالاستفادة سياسياً من افتتاح المستشفى. ومن المصادفة أنّ قرار افتتاح المستشفى «التركي» يُماثل اعتراف السلطة الفلسطينية بأنّها هي المسؤولة عن الحيلولة دون افتتاح المستشفى حتى الآن، وليس الجانب الإسرائيلي.
ومسألة المستشفى مُجرّد مثالٍ على التنافس حول الشرعية بين «حماس» و «فتح»، في أعقاب قرار عباس إقامة الانتخابات البرلمانية على الأراضي الفلسطينية، وهو القرار الذي وافقت عليه «حماس»، ولكن هناك خلافٌ قائم حول ما إذا كان يجب عقد الانتخابات قبل إتمام المصالحة بين «فتح» و «حماس»، أم أنّ الشقاق لن يُؤثّر في عملية التصويت، إلى جانب الأسئلة الفنية والحاجة إلى سماح الجانب الإسرائيلي لسكان القدس الشرقية بالتصويت.
وأعدّت «حماس» بالفعل ملفها للعمل العام والمدني في قطاع غزة والضفة الغربية على حدٍّ سواء، وهنا يكمُن الهدف الآخر لرحلة هنية إلى البلدان العربية والإسلامية. إذ ستُزوّده بفرصةٍ لتقديم نفسه بوصفه الزعيم الوطني للبلاد، وليس مجرد قائد منظمة، وربما تسمح له أيضاً بالتغطية على عباس، الذي يُعتبر الزعيم الرسمي والمُعترف به لفلسطين.
هل هناك صراع فلسطيني على الزعامة؟
لدى هنية مهمةٌ أخرى بالغة الأهمية في رحلته الطويلة، إذ يتعيّن عليه أن يضمن استمرار حالة اللجوء التي يحظى بها شعبه في قطر، وأن يحاول العثور على وسطاء للتوسّط في المصالحة بين «حماس» والسعودية والإمارات. إذ يصل هنية إلى الخليج في وقتٍ تدرس خلاله تلك الدول فرص المصالحة مع قطر.
محمود عباس
وبدأت علامات المصالحة تتجلّى قبل ظهور المنتخب السعودي لكرة القدم في مباريات بطولة كأس الخليج العربي التي أُقيمت بالدوحة. وتواصلت بإعلان وزير الخارجية القطري محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، الذي قال خلاله إنّ قطر لا تُؤيّد الإسلام السياسي و/أو حركة الإخوان المسلمين. وأضاف أنّ قطر تُساند الشعوب كافة، وليس الأحزاب السياسية، وانطوى ذلك على ما يزيد على التلميح بأنّ قطر مُستعدّةٌ للموافقة على واحد على الأقل من المطالب التي قدّمتها السعودية والإمارات ومصر، وهي الدول التي تعتبر «الإخوان المسلمين» جماعةً إرهابية.
ولم يتبيّن بعدُ ما إذا كانت قطر تنتوي مطالبة نشطاء «الإخوان المسلمين» المُقيمين على أراضيها بمغادرة البلاد، ومن المشكوك فيه أن يُمثّل ذلك تهديداً لقيادات «حماس» في قطر، الذين تتواصل أنشطتهم المدنية في غزة بتمويلٍ قطري. ولكن في جزءٍ من صراع السعودية ضد إيران؛ من المُحتمل أن تُقدّم قطر لهنية إنذاراً أخيراً حول علاقات «حماس» مع إيران، وهذا جزءٌ من المطالب الـ13 التي قدّمتها السعودية إلى قطر للحدّ من علاقاتها مع إيران.
وربما تكون علاقة «حماس» بإيران تراجعت كثيراً خلال السنوات الأخيرة، لكن قيادات «حماس» في لبنان يواصلون إقامة علاقاتٍ مع إيران وحزب الله. وإذا كان هنية يأمل أن يُعيد «حماس» إلى قلب العالم العربي ويصير الزعيم الشرعي المُعترف به، من جانب دولٍ أخرى بخلاف مصر وقطر؛ فربما عليه أن يتّخذ قراراً استراتيجياً فيما يتعلّق بإيران، على غرار القرار الذي اتّخذه خالد مشعل بقطع العلاقات مع سوريا عام 2012.
ولكن عكس مشعل، فإنّ هنية مُقيّد بمواقف حركة الجهاد الإسلامي، التي ترتبط عبر حبلها السري بإيران. لذا فإنّ أيّ إضرارٍ بالعلاقات بين تلك الجماعات سيضر بإنجازات هنية الدبلوماسية، وذلك يشمل فرص استمرار وقف إطلاق النار مع إسرائيل. وستكشف إجابة هذه المُعضلة عن الفارق بين هنية رجل الدولة وهنية زعيم المنظمة، ويبدو أنّ تعاظم إنجازاته الدبلوماسية، وزيادة احتمالية خسارته، سيُؤدّيان إلى تقليص احتمالات انخراطه في مغامرةٍ عسكرية.