كيف انتشرت الأوبئة عبر التاريخ وكيف تصدوا لها؟
على مدى آلاف السنين تبنى البشر بعض الأفكار غير المنطقية بدرجة كبيرة حول كيفية انتشار الأمراض المعدية، كالطاعون والكوليرا. بعض هذه النظريات قد تبدو مضحكة، مثل فكرة إمكانية التقاط عدوى الطاعون القبرصي القديم من خلال التحديق في وجه شخص مصابٍ وحسب.
لكن حتى مع ضرب موجات الأمراض مراراً وتكراراً للمراكز السكانية، تطلب العلم قروناً حتى تمكن من فهم العالم غير المرئي للميكروبات بشكل علمي. وحتى اللحظة التي حدث فيها ذلك، حاول البشر القابعون تحت نير الجوائح تفسير الكميات الضخمة من الوفيات التي شهدوها بطرق مختلفة.
فقد استخدم البعض الملاحظات البسيطة، فيما لجأ آخرون إلى المعتقدات الحماسية، ورأى البعض الآخر الكارثة من خلال عدسة تحيزاتهم القائمة منذ زمن، وفسر غيرهم الجوائح من خلال نظريات غريبة وخرافية، فيما فسّرها آخرون من منظور ديني بحت. وإليك القليل من هذه التفسيرات عبر التاريخ:
الإنجيل والأساطير اليونانية: غضب إلهي
عندما توفيت أعداد ضخمة من البشر بشكل غير مفهوم، نظر الكثير من الثقافات المبكرة أولاً إلى الأمر على أنه غضب إلهي من “الإله أو الآلهة” حسب المعتقدات القديمة. ففي الأساطير اليونانية القديمة، التي كانت بمثابة حكاية رمزية لأحداث فعلية، كتب هوميروس في الإلياذة عن إمطار الإله أبولو الطاعون على الجيش اليوناني بسهامه خلال حرب طروادة، ما أسفر عن مقتل الحيوانات أولاً، ثم الجنود. وقد رمزت سهام أبولو للمرض والموت.
كما حوى الإنجيل الكثير من الإشارات إلى الطاعون، مشيراً إليها بوصفها غضب الإله، وهنا بعض الأمثلة من الأنجيل التي أوردها موقع History: “لأني هذه المرة أرسل جميع ضرباتي إلى قلبك وعلى عبيدك وشعبك لكي تعرف أن ليس مثلي في كل الأرض. فإنه الآن لو كنت أمد يدي وأضربك وشعبك بالوبا لكنتَ تباد من الأرض”، و”وإذ كان اللحم بعد بين أسنانهم قبل أن ينقطع حمى غضب الرب على الشعب وضرب الرب الشعب ضربة عظيمة جداً”، و”ويل لنا من ينقذنا من يد هؤلاء الآلهة القادرين، هؤلاء هم الآلهة الذين ضربوا مصر بجميع الضربات في البرية”.
الأوبئة عند المسلمين
يحتوي التاريخ الإسلامي على تراث كبير من الأحاديث النبوية والأشعار والكتب الأدبية التي تتحدث عن انتشار الأوبئة مثل الطاعون والتي صبت في النهاية إلى أن التقرب إلى الله سبيل الخلاص منها، ففي حديث رواه البخاري عن السيدة عائشة -رضي الله عنها- قالت سألتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الطاعون فأخبرني أنه “عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحدٍ يقعُ الطاعونُ فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد”.
كما تحدث الرحالة المغربي محمد بن عبدالله بن محمد اللواتي الطنجي الشهير بـ”ابن بطوطة” في رحلته المسمّاه “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” عن انتشار الطاعون في مصر والشام عام 49 هجرياً (669 ميلادياً) وسبل محاربة المسلمين له، إذ أمر نائب السلطان في العهد المملوكي أرغون شاه منادياً ليصوم الناس في دمشق ثلاثة أيام متوالية، وتابع في كتابه: “اجتمع الأمراء والشرفاء والقضاة والفقهاء وسائر الطبقات على اختلافها في الجامع، حتى غصَّ بهم، وباتوا ليلة الجمعة ما بين مصلٍّ وذاكر وداع، ثم صلوا الصبح، وخرجوا جميعاً على أقدامهم، وبأيديهم المصاحف، والأمراء حفاة”.
هذا التفسير الديني كان نفسه تقريباً لدى اليهود والمسيحيين، إذ تابع ابن بطوطة وصفه: “خرج اليهود بتوراتهم، والنصارى بإنجيلهم، ومعهم النساء والولدان، وجميعهم باكون متضرعون إلى الله بكتبه وأنبيائه، وقصدوا مسجد الأقدام، وأقاموا به في تضرعهم ودعائهم إلى قرب الزوال، وعادوا إلى البلد، وصلوا الجمعة”.
بعد هذا التضرع خفّ الوباء وروى ابن بطوطة أنه حصد أرواح أعداد أقل بكثير، فتابع في كتابه: “خفف الله تعالى عنهم عندما انتهى عدد الموتى إلى ألفين في اليوم الواحد، وقد انتهى عددهم بالقاهرة ومصر إلى 24 ألفاً باليوم الواحد، وبالباب الشرقي من دمشق منارة بيضاء يقال إنها التي ينزل عيسى عليه السلام عندها حسبما ورد في صحيح مسلم”.
حركة الكواكب والهواء السيئ
على مر القرون، وصل الطاعون في موجة مدمرة بعد موجة، متَّخذاً أشكالاً عديدة، من الطاعون الدبلي (الذي يؤثر على الجهاز اللمفاوي) إلى الرئوي (الذي يهاجم الرئتين) إلى إنتان الدم (الذي يتسلل إلى مجرى الدم)، وربما يكون الحدث الأشد ضراوة هو ما وقع في منتصف القرن الرابع عشر مع حلول الموت الأسود، الذي أسقط أكثر من 20 مليون شخص في جميع أنحاء أوروبا وحدها.
في حين أنه يُعتقد بشكل واسع أن البراغيث الحاملة للبكتيريا هي السبب الرئيسي، وجد “الخبراء” في ذلك الوقت تفسيرات أخرى، خاصة في علم التنجيم، وصاغوا أفكاراً واسعة النطاق حول تشكيل “الأبخرة الضارة” أرضاً خصبة لازدهار الوباء.
ففي عام 1348 على سبيل المثال، طلب فيليب السادس، ملك فرنسا، من أعظم العقول الطبية بجامعة باريس إبلاغه بأسباب الطاعون الدبلي. وفي وثيقة مفصلة رُفعت إلى الملك، ألقوا اللائمة على “ترتيب الأجرام السماوية”.
إذ كتبوا تحديداً أنه في 1345 “بعد ساعة واحدة تلت ظهيرة يوم 20 مارس/آذار، وقع اقتران رئيسي بين ثلاثة كواكب (زحل والمريخ والمشترى) في كوكبة الدلو”. وأضافوا أنهم لاحظوا حدوث خسوف قمري في نفس الوقت تقريباً.
استمر علماء الطب في باريس -نقلاً عن الفلاسفة القدماء مثل ألبيرتوس ماغنوس وأرسطو- في الربط بين الكواكب والأوبئة: “بالنسبة للمشتري، فإنه يسحب الأبخرة الشريرة الرطبة والساخنة من الأرض والمريخ، ولأنه جاف وحار بشكل كبير، فهو يشعل تلك الأبخرة بعد ذلك، وينجم عن هذا البرق والشرارات والأبخرة الضارة والحرائق في الهواء”.
استمرت الرياح الأرضية في نشر الهواء الفاسد على نطاق واسع، وضرب “طاقة الحياة” لأي شخص يستنشقها في رئتيه. وقالوا: “هذا الهواء الفاسد، عند استنشاقه، يخترق القلب ويفسد جوهر الروح داخله، ويتسبب في تعفن الرطوبة المحيطة، وبالتالي تدمر الحرارة طاقة الحياة، وهذا هو السبب المباشر للوباء الحالي”.
لكن بعد هذا ببضعة قرون، أُعطيت هذه الأبخرة الفاسدة اسماً آخر: “ميازما”. اعتقد الناس أنه إذا كانت رائحة الأبخرة كريهة، فلابد أنها تحمل المرض. وهذا يفسّر لماذا ارتدى بعض الأطباء أقنعة منقارية الشكل معبأة بزهور عبقة الرائحة أثناء تفشي وباء الطاعون عام 1665 لحماية أنفسهم من العدوى.
دعونا لا نُعر انتباهاً للكاتب المسرحي والشاعر ويليام شكسبير الذي -مثله كمثل غيره من سكان لندن في بدايات القرن السابع عشر- كان لا يستحم كثيراً، وكان يعيش بين الفئران، والقاذورات، والبراغيث، ومزاريب الشوارع المليئة بالصرف الصحي. فقد اعتقد هو أيضاً أن الطاعون شيء في الغلاف الجوي. بل وقد استطرد في ذلك التفسير السماوي، فكتب أن مرض الملاريا، وهو وباء آخر ناجم عن بعوض المستنقعات على طول نهر التايمز، ينجم عن “تبخير” الشمس للمستنقعات.
نظريات المؤامرة: مجتمعات تنشر الأمراض
طالما ولدت الأوبئة التعصب وعدم الثقة، وأشعلت التحيزات طويلة الأمد؛ إذ ألقت المجتمعات المفجوعة اللوم على مجتمعات أخرى بوصفها مجتمعات خبيثة وغير نظيفة وناشرة للأمراض.
خلال العصور الوسطى في أوروبا، كان الطاعون مبرراً لارتكاب مجازر ضد اليهود بوصفهم أكباش فداء. فهاجمت عصابات مسيحية في العصور الوسطى الأحياء اليهودية مع كل موجة من المرض تقريباً، زاعمين أن المواطنين اليهود سمموا الآبار وتآمروا مع الشياطين لنشر المرض. في مذبحة واحدة، حُرق 2000 يهودي أحياء في مدينة ستراسبورغ في 14 فبراير عام 1349، وفق موقع History.
على صعيد آخر، أصبح تفشي الكوليرا في القرنين التاسع عشر والعشرين عبر أوروبا محل نظريات المؤامرة بين الطبقات، إذ اتهم الفقراء والمهمشون الصفوة الحاكمة بأنهم يعملون بلا رحمة لإعدامهم عن طريق نشر المرض وتسميمهم عمداً. وامتداداً من روسيا إلى إيطاليا والمملكة المتحدة، توالت أعمال الشغب وقتل أفراد من الشرطة، والحكومة، والمؤسسات الطبيعة، ودُمرت المستشفيات والقاعات.
التلغراف ورسائل البريد والنقود أصل الوباء!
في ظل غياب اليقين العلمي، طالما ألهمت الجوائح الأشخاص لفهم الإجابات التي ترتكز على ما يلاحظونه حولهم في التو. فمع اندلاع الإنفلونزا الروسية عام 1889، تطورت نظريات غريبة بشكل سريع إلى شائعات منتشرة على نطاق كبير، إذ تكهنت صحيفة The New York Herald بأن الإنفلونزا تنتقل عبر خطوط التلغراف، ذلك بعد أن انتشرت العدوى بين عدد كبير من مشغلي خدمة التلغراف.
فيما افترض آخرون أن الإنفلونزا ربما تكون قد انتقلت من أوروبا عبر الرسائل البريدية؛ نظراً لأن سعاة البريد التقطوا العدوى. وفي ديترويت، عندما بدأ صرّافو البنوك يمرضون، استنتج بعض الناس أنهم التقطوا العدوى بسبب تناول النقود الورقية. ومن بين المتهمين الآخرين الذين تناولتهم الإشاعات بأنهم المتسببون في الجائحة: الغبار، والطوابع البريدية، وكتب المكتبة. لكن في النهاية، بدأ العلم يرى الأمور غير المرئية، وشرح سبب وفاة آلاف الأشخاص بعيداً عن نظريات المؤامرة هذه.