كيف اشتعلت الانتخابات التركية؟
قبل عقد مضى لم يكن من الممكن تخيّل أن تشهد تركيا مثل هذا التحالف؛ حزب إسلامي محافظ مع علمانيين في انتخابات البرلمان.
ولكن اليوم يتحدث تمل كاراملا أوغلو، زعيم حزب السعادة الإسلامي، عمّا يعتقد أنه فشلٌ لحكومة الرئيس رجب طيب أردوغان: معدل بطالة مرتفع، وعجزٌ تجاري متزايد، وسياسةٌ خارجية فوضوية، وتعثّرٌ في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وحالة طوارئ منذ الانقلاب الفاشل عام 2016، وقد ألحق كل ذلك ضرراً بجميع الحقوق والحريات الأساسية.
ولهذه الأسباب وغيرها سيترشح تمل كاراملا أوغلو، زعيم حزب السعادة الذي درس في مانشستر ببريطانيا، للرئاسة، وفي الوقت ذاته سيتحالف مع علمانيين متشددين في انتخابات البرلمان.
وتعقد تركيا انتخابات رئاسية وبرلمانية في 24 يونيو/حزيران الجاري. وفي حال لم يفز أي مرشح بغالبية مُطلَقة في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، ستُجرى جولة ثانية في 8 يوليو/تموز بين المرشحيْن المتصدريْن للسباق الرئاسي في الجولة الأولى.
وقد اشتعلت المنافسة على نحوٍ مفاجئ قبل أسبوعين من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، حسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
خصوم أردوغان يحاولون إضعاف قبضته على السلطة
ورغم أن أردوغان لا يزال السياسي الأوسع شعبية ونفوذاً في تركيا، فإن خصومه أبلوا بلاءً حسناً في استطلاعات الرأي، التي يشير أحدثها إلى أن هيمنة حزب العدالة والتنمية على السلطة التشريعية قد تُكسر هذه المرة، وفقاً لتقرير الصحيفة البريطانية.
في بيئةٍ يتحدث البعض فيها عن تراجع حرية التعبير وحملات على المعارضين، بالإضافة إلى تزايد مظاهر التديّن بالمجال العام في بلدٍ تقدّس مبادئه التأسيسية التوجّه العلماني- توحدت أصوات المعارضة بشكل غير متوقع.
فالإسلاميون الذين كانوا سابقاً حلفاء أيديولوجيين للرئيس، قد انضموا الآن إلى تحالف يحاول إضعاف قبضته على السلطة.
ورغم ذلك، فقد فشل حزب السعادة التركي، قبل بضعة أشهر، في التفاهم مع الرئيس السابق عبد الله غل للترشح للانتخابات الرئاسية، كمنافس للرئيس الحالي رجب طيب أردوغان.
ويعتبرون سياسياته سببا في زيادة الاستقطاب
“إنّ السياسات التي يتّبعها أردوغان أو حكومته تُضعف تركيا في جميع الجوانب والسياسات، سواء كانت سياسات اقتصادية أو خارجية، هكذا قال كاراملا لصحيفة The Guardian البريطانية.
وأضاف قائلاً: “فنهجه وخطابه يسبّبان استقطاباً في تركيا، إضافةً إلى أنه لا يحترم القانون إلى حدٍّ بعيد”.
وقد كان حزب كاراملا أوغلو ذات يوم تحت قيادة نجم الدين أربكان، الأب الروحي للحركة الإسلامية السياسية الحديثة في تركيا، وسبق له تولي رئاسة الوزراء، وكان مَثَلاً يقتدي به أردوغان.
ثم انشق أردوغان وغيره من الشخصيات الرئيسية في الحركة، ممن نُظر إليهم آنذاك باعتبارهم إصلاحيين، لتشكيل حزب العدالة والتنمية الذي حكم تركيا منذ عام 2002.
وأدى انشقاق أردوغان آنذاك إلى تقسيم حزب “السعادة”، بين “تقليديين” ملتزمين بمبادئ التأسيس لحركة “ميلي غروش” بقوا في إطار الحزب، و”إصلاحيين” قادهم أردوغان والرئيس السابق عبد الله غُل ورئيس الوزراء السابق بولنت أرينج وعدد آخر من القيادات الذين قاموا بتأسيس حزب “العدالة والتنمية” على أنه حزب محافظ ليبرالي، تخلى عن العداء للاتحاد الأوروبي والغرب، وأكد إيمانه بالعلمانية، وتمكن من استقطاب أطياف واسعة من اليمين القومي التركي.
وسعى أردوغان مؤخراُ للتفاهم مع “السعادة”، وذلك بعدما نجح حزبه “العدالة والتنمية” و”الحركة القومية”، المنضويان في إطار التحالف الجمهوري، في توسيع التحالف بضم حزب “الوحدة الكبرى” (المنشق عن الحركة القومية) في سبيل تشكيل جبهة يمينية واسعة تمهد للانتخابات، ولكنه لم يتمكن.
وأردوغان يرى نفسه مدافعاً عن المسلمين المظلومين
اليوم ينظر الرئيس التركي إلى نفسه باعتباره المدافع العالمي عن الإسلام، ويسعى إلى وضع نفسه في مكانة بطل القضايا الإسلامية، وزعيم حركة تضامنية مع المؤمنين المظلومين في العالم، وهو ما يفيده مع الناخبين المحافظين.
في المقابل، يقول كاراملا أوغلو إنّ رؤية حزبه لتركيا أقرب إلى العلمانية على النمط البريطاني، حيث يمكن للدين والدولة التعايش معاً بسلام، علاوة على الاقتصاد المكتفي ذاتياً، والسياسة الخارجية التي تقوم على الحوار والدبلوماسية، مع توثيق الروابط بالدول الإسلامية.
ويرغب في التخلي عن السعي وراء عضوية الاتحاد الأوروبي مقابل اتفاقٍ خاص، فضلاً عن التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والذي تراجع بالفعل تحت حكم أردوغان.
وفيما يتعلّق بالانتخابات، دخل حزب السعادة تحالفاً مع الكتلة الرئيسية للمعارضة العلمانية، وهي حزب الشعب الجمهوري. ورغم التباين الأيديولوجي الشديد بين الإسلاميين والعلمانيين، اتحد الطرفان لمعارضتهم الرئيس وحزبه الحاكم.
وقال كاراملا: “نحن لا نتشارك السياسات نفسها أو الفهم نفسه للحوكمة في الاقتصاد والسياسة الخارجية. لكن لدينا بعض المبادئ التي اتفقنا عليها، مثل فصل الحكومة عن القضاء… وحرية الصحافة، وإنهاء حالة الطوارئ”.
وتخفي غرابة الجمع بين الطرفين حملةً واسعةً لجذب ناخبين من قاعدة أردوغان المحافظة دينياً، والتي صوّتت له بثقة.
لكن منافسيه الليبراليين يظهرون التزامهم الديني
يقدِّم المنافسون الأقوى لأردوغان في السباق الرئاسي إشاراتٍ ضمنية للناخبين المتديّنين عن طريق التلويح بالتزامهم.
فتشير ميرال أكشنار، التي تتزعّم حزباً قومياً جديداً، هو الحزب الجيد İYİ Parti، إلى قضائها فريضة الحج إلى مكة، ورغم أنها لا ترتدي الحجاب، فإنها تحافظ على الصلاة بانتظام، كما يحضر محرم إينجة، مرشح حزب الشعب الجمهوري العلماني، صلاة الجمعة.
عبث ترشّح كاراملا أوغلو والمعارضة الصاخبة لسياسات حزب العدالة والتنمية، بالخطوط التقليدية للسياسة التركية، وأظهر رفضاً علنياً لصورة أردوغان باعتباره الممثّل الشرعي الوحيد للمتديّنين.
وغالباً ما يشير الناخبون المتديّنون إلى ورع أردوغان كعاملٍ لجاذبيته، بالإضافة إلى دعمه قضايا إسلامية مثل الحجاب، الذي أصبح مسموحاً به في الجامعات ومؤسسات الدولة في ظلّ حكم حزب العدالة والتنمية.
في كل الأحوال، أصبح تيار التدين سائداً بعد عقود من التشويه
وبالنسبة للعديد من الناخبين المحافظين، يشير صعود أردوغان إلى أن إظهار التديّن في المجال العام قد أصبح تياراً سائداً، وذلك بعد عقودٍ من تشويه صورة الدين وأتباعه، نتيجة موقف “الأتراك البيض”، وهم النخبة العلمانية التي سيطرت على الجيش وبيروقراطية الدولة والذين نظروا إلى مواطنيهم المتديّنين كجهلاءٍ وفقراء.
والآن، تحاول أحزاب المعارضة اجتذاب المحافظين بأعدادٍ كافية لقلب الموازين.
فعلى سبيل المثال، تأمل المعارضة أن يصوّت الناخبون المحافظون في المناطق الكردية لهم هذه المرة بدلاً من حزب العدالة والتنمية؛ وذلك بسبب تحالف أردوغان الانتخابي مع القوميين، والعمليات العسكرية التركية ضد الميليشيات الكردية في سوريا، وحملة القمع ضد الأكراد المعارضين، وكذلك بسبب فشل وعد الرؤية الاستيعابية للأكراد التي تبنّاها حزب العدالة والتنمية في عهد أردوغان، حسب وصف التقرير.
وهذه قصة الفرصة الضائعة للسلام مع الأكراد
والأكراد تاريخياً كانوا يعانون دوماً الحرمان من حقوقهم الثقافية في تركيا، وقبل سنواتٍ مَنحتهم حكومة أردوغان بعض حقوقهم الثقافية مثل السماح بتدريس اللغة الكردية في المدارس العامة، وقوبلت هذه التوجهات بإشادة من قِبل وسائل إعلام غربية آنذاك.
كما سعى أردوغان لتحقيق السلام مع الأكراد عكس التوجهات السابقة للدولة التركية، وقد أعلن أردوغان وهو رئيس وزراء في 28 ديسمبر/كانون الأول 2012، عن محادثات مع رئيس حزب العمال أوجلان في السجن من أجل التوصل إلى سلام.
وفي 21 مارس/آذار 2013، أطلقت مفاوضات جديدة بين أوجلان -في سجنه بجزيرة أميرالي في بحر مرمرة- ومسؤولين بالاستخبارات التركية، وأعلن حزب العمال الكردستاني رسمياً حينئذ وقفاً لإطلاق النار مع تركيا.
ولكن في 22 يوليو 2015، انتهت عملية السلم الأهلي في تركيا بعد قيام حزب العمال الكردستاني بقتل اثنين من رجال الشرطة في بيتيهما، وعادت الاشتباكات بين الجانبين مرة أخرى على خلفية الخلاف بشأن الأكراد السوريين.
إذن تراهن المعارضة على أن إردوغان سيفقد أصوات الأكراد
السؤال الأهم بالنسبة للمعارضة: “هل يتراجع الناخبون الأكراد الذين صوتوا في الانتخابات السابقة لحزب العدالة والتنمية عن التصويت له؛ بسبب تحالفه مع حزب الحركة القومية؟”.
يعد هذا أحد رهانات المعارضة، ولكن اللافت أن أغلبية الناخبين الأكراد صوتوا في الاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية بــ”نعم”، وأيّدوا الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، على الرغم من أن تلك التعديلات قام بصياغتها وتمريرها في البرلمان حزب العدالة والتنمية بالتحالف مع حزب الحركة القومية.
كما أن حزب الدعوة الحرة (هدى-بار) أعلن دعمه لأردوغان، وهو حزبٌ معظم أنصاره من الأكراد المتدينين.
وإذا كان تحالف أردوغان مع الحركة القومية يعد نقطة سلبية بالنسبة للأكراد، فإن التحالف الانتخابي المعارض يضم الحزب الصالح الذي تتزعمه ميرال آكشنير، وهو حزب أسّسه منشقون من حزب الحركة القومية. كما أن آكشنير سبق أن تولت وزارة الداخلية، وكانت حقبتها مليئة بالانتهاكات ضد الأكراد.
من جانبها، تقول هدى كايا، العضوة في البرلمان عن حزب الشعوب الديمقراطي الذي يتبنّى القضية الكردية، والذي شارك في حملةٍ لتأييد حق ارتداء الحجاب ودعم حزب العدالة والتنمية في السابق: “نحن نشهد تصدّعاً في قاعدة حزب العدالة والتنمية”.
وتتهم الحكومة التركية حزب الشعوب الديمقراطي بأنه فرع تابع لحزب العمال الكردستاني المسلح، وقد حظي الحزب عند تأسيسه بمباركة عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال للكردستاني، وتحالف معه في الانتخابات، حسبما ورد في تقرير لموقع قناة الجزيرة.
وتضيف كايا: “إنّ أكثر الكلمات الحية في ذاكرتنا هي عندما قال أردوغان إنّ كل أفراد الشعب التركي هم مواطنون بنظري، سواء صوّتوا لي أم لا. لقد علّقنا آمالنا على صدق هذا الوعد… لكن كل الوعود، والمساواة، والحقوق والحريات، ووضع المجتمع الكردي، هو أبعد ما يكون عن ذلك”.