كيف ألحقت الصين هزيمة محرجة بالهند دون رصاصة؟
تمثل الجولة الأخيرة في الصراع الصيني الهندي نموذجاً لقدرة بكين على الفوز بالمعارك وتحقيق مكاسب استراتيجية على الأرض دون الدخول في حرب، ويبدو أن الهند لن تكون قادرة على تعويض خسائرها.
سقطت المواجهة العسكرية التي عمرها 8 أشهر في جبال الهيمالايا بين الدولتين الآسيويتين العملاقتين، الصين والهند، من رادار الاهتمام العالمي، رغم أنها ليست فقط مواجهة بين أكبر دولتين في العالم من حيث السكان واثنين من أهم الاقتصادات الصاعدة في العالم، ولكنها أظهرت قدرة بكين على هزيمة جيرانها الآسيويين من خلال إجبار أكبر جيرانها على التسليم فعلياً بمكاسبها.
ويصف المعلقون المناوشات التي حدثت العام الماضي بين الهند والصين بأنها مأزق أو طريق مسدود، حسبما ورد في تقرير مجلة Foreign Policy الأمريكية.
قد يكون هذا صحيحاً حرفياً، لكن عاملين مهمين ينبغي أن يغيرا من إدراكنا للوضع الحالي. الأول هو أن الصين أساليبها مركبة ولديها أدوات غير مرصودة، خاصة بعد عام خرجت منه بنشاط من جائحة كورونا في حين تعثر اقتصاد الهند.
والثاني هو أن بكين أجبرت نيودلهي على التركيز على تأمين حدودها البرية، على حساب التحويل العسكري الاستراتيجي، ما أعطى الصين أفضلية واضحة طويلة المدى، لأن ما حدث سيكون له انعكاسات سلبية على قدرة الهند لتوجيه مواردها لمحاولة تقليل الفجوة مع الصين.
الصراع الصيني الهندي.. معركة دموية بلا إطلاق نار
بدأت الأزمة الحالية في مايو/أيار 2020، حين نقلت الصين جنودها من مناورة تدريبية إلى لاداخ، وأخذت الجيش الهندي على حين غرة في وسط الجائحة. واتضحت خطورة الموقف في منتصف يونيو/حزيران حين قُتل 20 هندياً وعدد مجهول من الجنود الصينيين في صدام عنيف لم تُطلق فيه رصاصة واحدة. استعمل الجنود على الجبهة (من بلدين يمتلكان أسلحة نووية) العصي والهراوات والحجارة لإحداث الإصابات والتسبب في مقتل الجنود من الطرف الآخر.
منذ ذلك الحين، أُجريت عدة محاولات لفض الاشتباك ونزع التصعيد على الحدود المتنازع عليها. لكن المحادثات السياسية والعسكرية، وآخرها عُقد في نوفمبر/تشرين الثاني، لم تسفر عن شيء. رفض الصينيون العودة إلى الوضع ما قبل مايو/أيار في لاداخ، وهم الآن يسيطرون على 600 ميل مربع إضافية.
نتيجة هذا الصراع الصيني الهندي الأخير، فإن الدبابات الهندية والصينية تتمركز على بعد بضع ياردات من بعضها البعض، بينما يظل 100 ألف جندي من الجانبين منتشرين على الحدود، على ارتفاعات تتراوح من 10 آلاف إلى 15 ألف قدم (من 3080 إلى 4572 متراً)، حيث يمكن أن تنخفض درجة الحرارة إلى سالب 30 درجة مئوية.
لماذا تبدو قدرة الهند على الرد محدودة؟
تعرف نيودلهي أن بكين تتمتع بأفضلية عسكرية ضخمة، لذا اختارت سبيل العقاب الاقتصادي عبر حظر التطبيقات صينية الأصل وحظر مشاركة الصين في التعاقدات الحكومية، لكن وسائل الضغط الهندية المحدودة على الصين جعلت هذه الإجراءات غير فعالة نسبياً في تغيير نتائج الصراع الصيني الهندي.
ومع أن نيودلهي نفذت تحركات عسكرية جريئة في جانبها مما يسمى بخط السيطرة الفعلية في أواخر أغسطس/آب 2020، كانت حريصة على تجنب أي تصعيد عسكري خطير أو بدء حرب محدودة مع بكين. فالهند أسوأ اقتصادات جنوب آسيا أداءً في 2020، وهي ليست في وضع يؤهلها لتحمل تكلفة نزاع مسلح.
والحرب مع الصين ستجبر الهند على التخلي عن سياسة الاستقلال الاستراتيجي طويلة الأمد، إذ ستجد نيودلهي نفسها مجبرة على خيار غير مستساغ سياسياً، وهو التحالف علناً مع واشنطن.
وبعد استبعادها اللجوء لحل سريع عبر النزاع المسلح، يبقى خيارٌ وحيد للهند وهو المواجهة الحدودية الطويلة والممتدة ضد الصينيين. وتستهدف عمليات الانتشار العسكرية الثقيلة التي أجرتها نيودلهي في لاداخ احتواء خسائرها ومنع أي تغول صيني أعمق في الأراضي الهندية. لكن هذه العمليات لا يمكنها معاقبة الصين على تغولاتها ولا إجبارها على التخلي عن سيطرتها على الأراضي المكتسبة.
وهذه العمليات الضخمة من الجانبين، التي تركز على السيطرة على الأراضي، تعني أن كلتيهما لا تستطيعان الرحيل على المدى القصير. وأن الجيشين عالقان في نوبة حراسة طويلة في الجبال العالية، وسيحدد شتاء الهيمالايا القارس الخسائر النسبية في الجانبين.
نيودلهي يفترض أنها تتمتع بأفضلية في حروب المرتفعات
ويمكن القول إن الهند تتمتع بالأفضلية لأن جيشها عمل لعقود في ظروف قاسية معادية، مثل نهر سياشين الجليدي غير المأهول بالسكان، الذي قاتلت فيه الهند باكستان لمدة طويلة.
وهذه التجارب قد تجعل الهند في موقف جيد لكن ليس بدرجة كبيرة، لأن نشر الجنود في هذه المناطق يؤثر عليها أثراً بالغاً، وكذلك على المعدات وسلاسل التوريد. علاوة على ذلك فإن البنية التحتية والدعم اللوجستي، المطلوبين لتسهيل الأوضاع على الجنود أثناء عملية النشر، يتطلبان أعواماً للتشييد والاستقرار، كما يعرف مخططو الجيش الهندي من تجربتهم في كارغيل ودراس بعد حرب عام 1999 مع باكستان. وحتى في لاداخ، مع أن الجانبين منتشران في مناطق صعبة، فالهنود في مناطق أقسى على الجسد البشري بسبب طبيعة الأرض القاسية والارتفاعات الأعلى، وضعف البنية التحتية والدعم اللوجستي أكثر. لكن الصين لم تنفذ عمليات في بيئات قاسية منذ الحرب الكورية قبل سبعة عقود، والانتشار في لاداخ سيختبر واقعية التحول العسكري الذي تباهت به الصين في العقد الماضي.
خسارة الهند غير الظاهرة
أحد أبرز إنعكاسات الصراع الصيني الهندي قد تكون على الجبهة الباكستانية الهندية.
ويقول المسؤولون الهنود إن جيشهم سيعزز الدفاعات التقليدية على الحدود الشمالية مع الصين حتى مع استمراره في الحفاظ على التشكيلات الضخمة على الحدود الغربية مع باكستان.
وتذهب نحو 60% من ميزانية الدفاع في الهند إلى الحفاظ على جيشها المقدر بـ 1.35 مليون جندي.
وبسبب نتائج الصراع الصيني الهندي الأخير فإن كان على الهند الدفاع عن كل شبر من الأراضي المتنازع عليها على الحدود مع الصين، فهذا سيستهلك حصة أكبر من ميزانية الدفاع لأن الجيش الهندي سينتهي به المطاف بأنه يستهلك حصة أكبر من ميزانية الدفاع على حساب عمليات التطوير، لأن ضعف الاقتصاد الهندي يستبعد زيادة الإنفاق العسكري زيادة كبيرة.
في المقابل، فإن الميزانية الدفاعية للصين تبلغ أربعة أضعاف ميزانية الهند تقريباً، واقتصادها أكبر بست مرات- وهذه الفجوة اتسعت أكثر في أثناء الجائحة. والجيش الصيني هو أكبر قوة برية قائمة في العالم، وعدد الأفراد العسكريين في الخدمة يبلغ مرة ونصف عدد نظرائهم في الهند. وكما تعترف وزارة الدفاع الأمريكية، فقد جمعت الصين الموارد والتكنولوجيا والإرادة السياسية على مدار العقدين الماضيين لتقوية جيشها وتحديثه من كل الأوجه تقريباً.
بالمقارنة بالهند، يمتلك الاقتصاد الصيني والجيش والإرادة السياسية الصينية قدرةً أكبر على حمل عبء الانتشار المطور للجنود وصيانة أعداد كبيرة منهم في ظروف لاداخ بالغة القسوة.
استراتيجية الصين بدأت في أماكن أخرى
تستغل الصين حجمها وتفوقها العسكري لتحقيق مكاسب استراتيجية دون حرب، وهذا طبق قبل الصراع الصيني الهندي الأخير.
فقلد كانت استراتيجية الصين بعد غزوها الكارثي لفيتنام عام 1979 هي الفوز دون قتال.
عبر الخداع والإخفاء والمفاجأة استخدمت الصين القوة المحدودة بشكل متكرر حيث استطاعت الاستيلاء على شعب مرجانية وجزر صخرية متعددة في بحر الصين الجنوبي في أعوام 1988 و1995 و2012.
والآن ها هي تكرر ذلك مع الهند، فاستولت على مواقع مواقع مميزة في لاداخ بعد أن غيرت الخريطة الجيوسياسية لبحر الصين الجنوبي دون إطلاق رصاصة أو تكبد أي تكاليف على صعيد السياسة الدولية، حسب وصف تقرير نشر في موقع Hindustantimes الهندي.
بعد التعديات الأخيرة على الهند، فإن جيش التحرير الشعبي الصيني يقف في مكانة جيدة. إن العودة الكاملة إلى الوضع السابق كما سعت إليه الهند تبدو بعيدة، وأحد أسباب الإشارات الهندية المختلطة. علاوة على ذلك من خلال التعدي على مناطق إضافية خلف حدود فك الارتباط السابقة، سلحت الصين نفسها بفاعلية أكبر لفرض الوضع الراهن المعدل، بما في ذلك من خلال تطبيق مبدأ “الحيازة تسعة أعشار القانون”.
فك الارتباط (انسحاب القوات المتنافسة من مناطق قريبة)، إن لم يكن خفض التصعيد (إنهاء الأعمال العدائية من خلال تسريح القوات)، ينسجم جيداً مع مصلحة الصين في فرض أمر واقع على الهند.
كما يرى معلقون هنود فإن إزالة التهديد بشن هجوم مضاد هندي أو انتزاع أرضٍ متبادل سيساعد الصين على الفوز دون قتال.
وهذا يفسر سبب قبول الصين بفك الارتباطـ لكن بشروطها. يتضح هذا في وادي جالوان، حيث انسحبت الهند من أراضيها وأنشأت “منطقة عازلة” على جانبها من خط السيطرة الفعلية.
هذه الخطوات، على الرغم من كونها مؤقتة، تخلق وضعاً جديداً مفيداً للصين يمكن لجيش التحرير الشعبي أن يسعى إلى فرضه لأنه يبقي الهند خارج المنطقة التي تطالب بها الصين حديثًا- وادي جالوان.
ويرى هؤلاء المعلقون أن الخطر، كما هو الحال في Doklam، قد لا ينتهي فك الارتباط الحالي بشكل جيد بالنسبة للهند. وبدلاً من إظهار القوة والعزيمة، أبدت الهند الحماس لإنهاء المواجهة، على الرغم من تعبئة قواتها المسلحة لحرب محتملة.