كيف أصبحت الشبكات الاجتماعية وسيلة لـ”ترتيب” الأحداث وتشكيل الذاكرة العراقية؟
في خيمة صغيرة من القماش الملون التي تكتسي أرضيتها بالسجاد الرخيص، يجلس مواطنون عراقيون ويستمعون إلى أغان لفنانين هواة. يدور الحديث عن أغان كتبت بشكل خاص لهذا المسرح، “مسرح ميدان التحرير” في مركز بغداد. وهي تتحدث عن حياة الشهداء الذين استشهدوا في معارك الشوارع التي جرت وما زالت تجري في بغداد ومدن أخرى في العراق منذ أكتوبر.
وبحسب صحيفة “هآرتس” العبرية، خارج الخيمة هناك مكبرات صوت تمكن الجمهور في الخارج من الانضمام للغناء. في المساء تتحول الخيمة إلى قاعة سينما، تعرض فيها أفلام وثائقية تصف معارك وأحداثاً أخرى جرت في المدينة أمام عيون الضيوف الدامعة. في منطقة أخرى في الميدان، فتح الشباب مكتبة إعارة صغيرة، يمكن لعابري السبيل استعارة الكتب منها ووضع كتب فيها غير مهمة بالنسبة لهم.
أحد نتائج الصراع الأخرى هو متحف الشهداء الذي أقيم في الميدان. وتتراكم معروضاته من خلال المواجهات. ثمة حقائب بقيت على الشارع، قمصان ملطخة بالدماء سقطت أثناء المطاردة وصور وأشياء أُحضرت من بيوت القتلى، وكل ذلك يخلد ذكرى الذين قاتلوا وماتوا. منظمو المتحف يأملون بنقل جميع المعروضات إلى مبنى منظم بعد انتهاء المواجهات. وحتى ذلك الحين، هم يطلبون من عائلات القتلى أن ينقلوا إليهم أغراضاً وكتباً أو صوراً كانت عزيزة على قلوب القتلى.
لن يكون استعراض النشاطات الفنية في ميدان التحرير كاملاً دون ذكر الأفلام القصيرة المرافقة لكل حادثة. في عدد من الأفلام هناك ترجمة للإنجليزية على أمل إثارة الرأي العام العالمي. يظهر في أحدها شباب وهم يهربون من إطلاق نار قوات الأمن العراقية والمليشيات الشيعية. في الوقت الذي تسمع فيه الشعارات المعروفة مثل “منذ 16 سنة يحكمنا رجال الدين هؤلاء”، رجل عجوز يرفع عصاه في الهواء ويقول “اليوم أو غداً جميعنا سنموت”، “ذات يوم كان لدينا ديكتاتور واحد، أما الآن فهناك ألف”، “الناس يموتون من الجوع والحكومة تقتلنا”، “بإذن الله، بعد بضعة أيام سترون الـ آر.بي.جي على أكتافنا وسنحاربهم مثلما يحاربوننا”.
المصور ومحرر الفيلم يبين أنه لا يستطيع ذكر اسمه لأنهم “سيقتلونه خلال ثلاثة أيام”، ويريد من العالم التدخل لمنع المذبحة التي تجري ضد الشعب العراقي. تزدهر مكتبة الأفلام القصيرة، وكثير منها انتشرت مثل الفيروس مع وجود آلاف مشاهدات المتصفحين الذين ينضمون يومياً عبر “يوتيوب” والشبكات الاجتماعية.
عبثاً تحاول الحكومة أن توقف نشر الأفلام في الإنترنت. وإذا كان دور الشبكات الاجتماعية قبل تسع سنوات في ثورة الربيع العربي متواضعاً، وكانت المعلومات ودعوات التجنيد ينقلها المتظاهرون بواسطة الهواتف المحمولة، فإن الشبكات الاجتماعية الآن هي ساحات التمرد الأساسية. محطات الأقمار الصناعية التي كانت أبطال حركات الاحتجاج في السابق، لا يمكنها تغطية معظم الأحداث التي تحدث في الشوارع، فلا وقت لها ولا قدرة على أن توثق بنفس مستوى دقة المتظاهرين أنفسهم الذين يوجدون في الأحداث ويواصلون التصوير أثناء الهرب أو إطلاق النار.
السينما تعرفنا بالفجوة الكبيرة بين التغطية الإعلامية لأحداث الاحتجاج قبل 10 – 15 سنة وتغطية الاحتجاجات الآن. خلال عشرات السنين لم يتم إنتاج أفلام إثارة عن الحرب الأهلية في لبنان خشية فتح شروخ طائفية. وفي السنوات الأخيرة تم إنتاج عدة أفلام تناولت الصراع الطائفي هناك، منها “الإهانة” لزياد دويري، الذي كان مرشحاً لجائزة الأوسكار في السنة الماضية.
أما في العراق فقد تم هذه السنة إصدار أول فيلم روائي حول أحداث بغداد في العام 2006 – 2007. تتركز قصة الفيلم على شاب عراقي اسمه سلام، تحول إلى قناص خطير، ويقوم من مكمنه بقتل عراقي كان في طريقه لخطبة حبيبته.
كيف تحول سلام إلى قناص؟ كيف حاول الجيران مساعدة المصاب الذي توفي بعد ذلك متأثراً بجروحه؟ وما هي شبكة العلاقات بين الجيران الذين كان معظمهم من الشيعة والأقلية من السنة والفلسطينيين؟ كل هذه الأمور يحاول المخرج تناولها من وجهة نظر متأخرة تعتمد على ذكرياته الشخصية. “هل كانت هذه حرباً أهلية أم طائفية”، تساءل خيال في مقابلة أجراها مع موقع “العربية”. “ما هويتنا كعراقيين؟ وما هوية الدولة؟”. يعترف أنه لا إجابة عن هذين السؤالين. ولكنه يحاول على الأقل جعل المشاهدين يفكرون فيها. “نحن بحاجة إلى مزيد من الأفلام من أجل تحليل طبيعة المجتمع العراقي”، قال.
بعد مرور ثلاث سنوات على الأحداث في شارع حيفا، يتخبط العراق مرة أخرى في متاهة الهوية. ولكن خلافاً للسينما التي تسير ببطء، لا يوجد أي صبر للشبكات الاجتماعية. فهي التي “ترتب” الأحداث وتشكل الذاكرة. وبصفتها هذه، فإنها لا توفر المواد الخام الوثائقية فحسب، بل تحدد القواعد التي يمكن تمكن الفن العراقي أن ينظر إلى المجتمع العراقي ويعكسه.