كائنات غامضة وظواهر حيرت العلماء.. ماذا تعرف عن العالم الأكثر عمقاً على كوكبنا؟
نعرف جميعاً أنّ نسبة المياه على كوكبنا تشكِّل 71% تقريباً من مساحته الكلية، ومن بين أنواع المساحات المائية تشكِّل المحيطات نسبة 96.5% من إجمالي المياه الموجودة على الكوكب.
وبرغم أن المحيطات أقرب إلينا من الفضاء الخارجي على سبيل المثال؛ إلا أن العلم لا يزال أقرب لاستكشاف أركان الفضاء البعيد منه إلى استكشاف الأركان الغامضة لأعماق المحيطات، إذ تظل حتى اليوم نسبة 99% من قيعان المحيطات غير مستكشفة.
في تقريرنا هذا نتعرف على أعماق المحيطات، ولماذا تظل حتى اليوم محاطة بهذه الهالة من الغموض والأسرار المثيرة للحيرة.
أعماق المحيطات المجهولة في مقابل الفضاء.. لماذا كل هذه العقبات؟
عندما نتحدث عن الفضاء واستكشافه، نتحدث عن عقباتٍ مثل مدى تحمُّل المركبات وكميات الوقود المستخدمة، وحسابات المعلومات التي تُبثّ إلى الأرض عبر هذه المركبة، بخلاف التجهيزات التقنية والإطلاق وتكلفة كل ما سبق.
لكنَّ أبرز العقبات التي تواجه استكشاف قيعان المحيطات العميقة هي عقبة فيزيائية لم تهزمها التكنولوجيا بالكامل بعد: ضغط المياه.
فمع كل 10 أمتار تحت الماء يزداد الضغط على الأجسام بمقدار وحدة ضغط جوي، أي أنّه على عمق 100 متر يكون الضغط 150 وحدة ضغط جوي، وعلى عمق كيلومتر يكون الضغط المائي 1500 وحدة ضغط جوي.
وبحسب علماء جيولوجيا المحيطات فإنّ أعمق نقطة تحت سطح البحر هي “خندق ماريانا” في شمال المحيط الهادي، ويصل عمقها إلى 8148 متراً، أي ما يقرب من 8 كيلومترات ونصف.
أي أن الضغط بالأسفل يصل إلى 12.750 وحدة ضغط جوي عادي. وبحسبةٍ بسيطة يمكننا أن نضع أعلى جبل في العالم -إيفرست الذي يبلغ ارتفاعه 8848 متراً- في خندق ماريانا وسيتبقى لنا على سطح المياه ما يقرب من 700 متر فقط!.
ولأنّ صنع مركبات تتحمّل كل هذا الضغط يتكلّف أموالاً طائلة، ربما دون فائدة مباشرة مقارنةً بالفائدة التي تأتي من الفضاء، يصعب الحصول على الدعم المادي السخي وتخصيصه لدراسة الأعماق البعيدة، ولهذا تعدُّ بعثات دراسة الأعماق قليلة بالمقارنة بدراسة الفضاء الخارجي.
بيولوجيا الأعماق تختلف عن بيولوجيا الأرض
على عمق ما يقرب من 3500 متر تبدأ منطقة الظلام، أو منتصف الليل ويطلق عليها علماء المحيطات اسم Bathypelagic Zone، وفيها يبدأ الضوء المتسلل من الشمس في الاختفاء، ويسود المحيط ظلامٌ دامس لا ينيره سوى الإضاءة المنبعثة من بعض الكائنات الحية الفريدة من نوعها والتي تشعّ أجسامها ضوءاً فسفورياً متبايناً في شدته، وهو المصدر الوحيد للضوء بالأسفل في هذه المنطقة.
وفي هذه الأعماق البعيدة تعيش مجموعاتٌ من الكائنات البحرية تتنوع ما بين الكائنات وحيدة الخلية والطحالب وأسماك وقناديل بحرية، جميعها يتعايش وبشكل مدهش بدون ضوء الشمس النافذ إلى المياه، والذي يعد بيولوجياً السبب الأول للحياة على الكوكب.
ونظراً لوجود هذه الكائنات على أعماق بعيدة وتتكيف على العيش بدون ضوء الشمس؛ فإن احتمالية صعودها إلى طبقاتٍ أعلى، أو أقرب إلى السطح ضئيلة جداً بل وتكاد تكون مستحيلة، وهو ما يجعل دراستها علمياً أمراً غير سهل على الإطلاق، ويفتح هذا باباً جديداً لاحتمالية وجود نظم حيوية تختلف في طبيعتها عن النظم الحيوية المعروفة في علم أحياء السطح.
هذا بخلاف استيطان عدد مهول من القناديل البحرية النادرة والتي تشع ضوءاً متقطعاً ذا طبيعة منتظمة تشبه إشارات أو أكواد الاتصالات، وهو ما لم يستطع العلماء الخروج بتفسير مباشر له.
وعملية صيد هذه القناديل بالشباك تعدُّ واحدةً من المعضلات التي تواجه دراستها؛ لأنها عند اصطدامها بالشباك تتقطَّع وتتشرذم بالكامل وتَنفَذ عبر الشِّبَاك؛ حتى مع استخدام شباك صيد لينة ورقيقة للغاية، وهو ما يثير حيرة العلماء حتى يومنا هذا.
محميّة الأعماق ذات الصروح الزجاجية
في عام 2007 قامت بعثة علمية مكوّنة من نخبة علماء المحيطات في جامعات أمريكا والسويد وألمانيا واليابان باستكشاف منطقة تلال جاكيل Gakkel Ridges في المنطقة بين غرينلاند وسيبيريا وهي من أعمق مناطق منتصف المحيط الأطلسي.
وكانت البعثة نفسها قد عثرت باستخدام المسح الصوتي والسونار عام 2003 مجموعة من الجبال، والتلال المتداخلة، بخلاف أثر حراري لبقايا بركانية، وعندما بدأ الاستكشاف العلمي في 2007 باستخدام الروبوتات الغوّاصة تأكد وجود فتحات بركانية تقذف الحمم بشكل منتظم، وهذه الحمم ذات طبيعة “سيليكونية” تصنع تلالاً أشبه بـ “صروح” عجيبة من مادة زجاجية تحت الماء بعدما تبرد وتتجمد.
هذه التلال أو الصروح الزجاجية تحتوي على ما يقرب من 100 ألف ضعف الكائنات الحية الدقيقة في المحيط بأكمله، بخلاف مجموعة أخرى من الكائنات البحرية التي لا تتواجد في منطقة أخرى من المحيطات على كوكب الأرض، أي أن طبيعة تلك المنطقة ذات الصروح الزجاجية لسبب ما غير معروف تعد محمية بحرية نادرة تحتوي كائنات نادرة بدورها، والتي ساهمت دراستها في معرفة الكثير عن الأحياء البحرية الدقيقة وعلاقتها بالضوء وإنتاج الطاقة.
يوناجوني..هرم مدرج أم تكوين طبيعي
أمّا هرم يوناجوني فهو واحد من بين أكثر الظواهر غموضاً في عالم أعماق المحيطات، فهو البناء الوحيد في العالم تحت الماء الذي يتميّز بحوافٍ حادّة، وجوانب مستقيمة تدهش كل من يراها، وتدفعه للجزم بأن هذا الجرف الصخري المتدرِّج في شكل مصاطب متتالية؛ هو أقرب لصنع البشر منه إلى التكوين الطبيعي.
وفي عام 1985 قرب سواحل أوكيناوا اليابانية نزلت بعثة غوص بحرية إلى أعماق المحيط قرب جزيرة صغيرة تدعى يوناجوني، وتحديداً على أعماق تبدأ من 30 متراً حتى 200 متر وجدوا بناء هرمي حجري مدرج يمتد على مسافة 70 متراً.
بفحص الصور والمقاطع الملتقطة وجد الباحثون أن شكل ونظام هذا الأثر الغريب يتشابه بدقة غريبة مع الأبنية الأثرية للأهرامات أو الصروح في حضارات مثل مصر القديمة والمايا القديمة والإنكا وغيرهم.
وبدأ جدل كبير استمر ما يقرب من 35 عاماً حول إذا ما كانت هذه آثاراً غارقة، أم ظاهرة بيولوجية طبيعية داخل المحيط.
بعض الدراسات ترى أن هذا الصرح من بناء الإنسان ويعود إلى ما يقرب من 10 آلاف سنة نظراً لأن الطبيعة الصخرية للبناء تشبه الطبيعة الصخرية لجزيرة يوناجوني قديماً. بينما يصر فريق آخر من العلماء على أن الصروح القريبة من سواحل اليابان ما هي إلا ظواهر طبيعية حدثت في فترات قديمة أثناء تحرك الألواح الأرضية بشكل حاد.
وحتى اليوم لا يزال الجدل دائراً بين أكثر من جهة علمية حول ماهية هذه التكوينات أو الصروح، وهو ما يلهم بمزيد من الأسئلة حول الأساطير القديمة التي تعلقت بغرق الآثار في قاع المحيط، ولعل أكثرها شهرة هي أسطورة القارة المفقودة أطلانتس والتي حيرت ولاتزال تحيّر العالم حتى اليوم.
الكراكين الأسطوري ليس كذلك تماماً
أعماق المحيطات البعيدة كانت ولا تزال من أكثر البيئات استخداماً من قبل كُتاب ومؤلفي الأعمال الخيالية والأسطورية؛ بداية من وحش “الكراكين” في الميثولوجيا الإغريقية نهاية بروايات الرعب الأمريكية مثل كائن “الكتولو” المرعب في روايات الأديب الأمريكي هـ.ب لافكرافت.
كلها تتشابه من حيث وصف البيئة الطبيعية: كائن بحري عملاق أشبه بالحبّار أو الأخطبوط، ويتجاوز حجمه الأحجام الطبيعية لتلك الكائنات.
لكنّ علماء الأحياء البحرية لديهم سجلات وأطروحات قد تنقل وجود تلك الكائنات المرعبة من عوالم الخيال إلى عالم الواقع، فعلى سبيل المثال تذكر سجلات تاريخية قديمة في نيوزيلندا طفو حبّار عملاق ورسوه على أحد الشواطئ بلغ طوله بحسب الوصف آنذاك 12 متراً. وذكر بعض السكان المحليين وقتها أن هذا الحبّار تسبب في غرق سفينة صيد متوسطة الحجم.
أما ما يخبرنا به علم الأحياء البحرية اليوم فهو أنه على أعماق 700 إلى 950 متراً تحت سطح المحيط تعيش فصائل من الحبار والأخطبوط يمكن أن تصل بحسب الدراسات التقديرية إلى طول 30 متراً، وهو ما قد يقرب الصور الأسطورية إلى الواقع، ويجعلنا في حيرة تجاه الكثير من المجهول في عوالم الأعماق.
بخلاف كل هذه الغوامض، لا تزال أعماق المحيطات بالنسبة للإنسان أكثر غموضاً مما يستطيع دراسته، وهو ما يجعلنا نتساءل أحياناً، لماذا لا يوجد الدعم الكافي من أجل مزيد من التطور في هذا الشق العلمي؟
وربما يجعلنا هذا أيضاً نطرح الإجابة التقليدية التي تأتي دائماً من الأوساط العلمية، ألا وهي الأولويات. فأولويات العلم الذي يخدم البشرية بشكلٍ عاجل مثل الطب وتكنولوجيا التصنيع وغيرهما أولى دائماً بالدعم المادي والأكاديمي من دراسة غوامض أعماق المحيطات.