قصة عالم جيولوجي عراقي عمل لدي داعش في الموصل
كشف عالم جيولوجي عراقي عن قبوله عرضاً للعمل مع تنظيم داعش خلال سيطرته على مدينة الموصل عام 2014، وقال علي العفاري، الجيولوجي لدى وزارة الصناعة والمعادن العراقية، إن تنظيم داعش جمع العمال والمديرين الذين لم يكونوا قد فروا من المدينة وأرغمهم على العمل لصالحهم.
وبحسب صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، بعد استعادة بغداد السيطرة على الموصل، انتهى المطاف بالعالم العراقي سجيناً في أحد سجون مدينة أربيل، بعد اعتقاله من قبل جنود أمريكيين وأكراد عام 2016.
في انتظار وصول الإرهابيين
في الأسابيع التي تلت سقوط مدينته في قبضة تنظيم الدولة، جلس العالِم العراقي سليمان العفاري في مكتبه الحكومي المهجور وانتظر اليوم الذي سيأتي فيه الإرهابيون.
كان المسلحون ذوو الملابس السوداء، الذين سيطروا على الموصل في 2014، يشقون طريقهم عبر كل بيروقراطيات المدينة، فجمعوا العُمَّال والمديرين الذين لم يكونوا قد فرُّوا بعد من المدينة وأرغموهم على القيام بالأعمال لصالحهم.
وحين جاء الدور على العفاري، الجيولوجي لدى وزارة الصناعة والمعادن العراقية البالغ من العمر 49 عاماً آنذاك، كان يأمل ببساطة أن يدعه مديروه الجدد يحتفظ بوظيفته. لكن ما فاجأه هو أنَّهم عرضوا عليه وظيفة أخرى. إذ قال ممثلو داعش: «ساعِدنا على صنع أسلحة كيماوية».
لم يكن العفاري يعرف الكثير عن هذا الأمر، لكنَّه قَبِل المهمة. وبالتالي بدأ مهمته التي استمرت 15 شهراً في الإشراف على تصنيع السموم القاتلة لصالح أكثر المجموعات الإرهابية فتكاً في العالم.
قال العفاري، الذي أسره جنودٌ أمريكيون وأكراد عام 2016 ويقبع سجيناً الآن في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق المتمتع بحكمٍ ذاتي: «هل أنا نادم على ذلك؟ لا أدري إن كنتُ سأستخدم هذه الكلمة». ثُمَّ تجهَّم، وراح ينقف لحيته الخفيفة بأصابعه.
وأضاف: «كان (داعش) قد أصبح هو الحكومة، وكنا نعمل لصالحه. كُنا نريد العمل حتى نحصل على راتب».
وتنفيذ حكم الإعدام
وروى العفاري، البالغ الآن 52 عاماً وينتظر تنفيذ حكمٍ بالإعدام، حكاية توظيفه والحياة تحت حكم داعش في مقابلةٍ نادرة داخل مقر مديرية مكافحة الإرهاب الشبيهة بالحصن التابعة لحكومة إقليم كردستان.
ويُعَد العفاري، وهو رجلٌ دمث ومُهندم، من بين عددٍ قليل من المشاركين المعروفين في برنامج الأسلحة الكيماوية التابع لداعش الذين أُسِروا أحياء.
وتحدَّث بتفصيل الحقائق عن محاولات داعش الناجحة لتصنيع خردل الكبريت -وهو سلاح كيماوي من الجيل الأول تسبَّب في سقوط عشرات آلاف الضحايا أثناء الحرب العالمية الأولى- كجزءٍ من مسعىً طموح لم يُعرَف كاملاً بعد لتصنيع أسلحة وأنظمة إطلاق جديدة للدفاع عن أراضي داعش وإرهاب الأعداء.
وأكَّد مسؤولون أمريكيون وأكراد، شاركوا في مهمات تدمير مصانع أسلحة داعش وقتل أو أسر كبار قادة التنظيم، رواية العفاري وزادوا عليها.
وسلَّطت القصص الضوء على مشروع أسلحة كيماوية فريد في تاريخ الجماعات الإرهابية الحديثة، يضم معامل الجامعات، ومنشآت تصنيع، وكادراً من العلماء والفنيين.
ويقول المسؤولون الأمريكيون والعراقيون إنَّ الأسلحة التي صنعها داعش استُخدِمَت في عشرات الهجمات على الجنود والمدنيين في العراق وسوريا، التي خلَّفت معاً مئات الضحايا.
لكن داعش كان له رأي آخر
ويبدو أنَّ التقدَّم في البرنامج توقف في مطلع 2016، بعدما شنَّ القادة الأمريكيون والعراقيون حملةً عنيفة لتدمير منشآت الإنتاج وقتل أو أسر قياداتها. لكن لم تختفِ التهديدات تماماً. إذ يقول مسؤولون عراقيون إنَّ قادة داعش نقلوا المعدات، وربما المواد الكيميائية، من العراق إلى سوريا في 2016، وربما دُفِن بعضها أو خُبِّئ.
علاوة على ذلك، ووفقاً لمسؤولين غربيين وخبراء في الإرهاب، لا تزال المعرفة والمهارات التي اكتُسِبَت من العفاري والخبراء الآخرين في البرنامج موجودة بلا شك، ومُخزَّنة في ملفات حاسوبية، ووحدات ذاكرة فلاشية، وفي ذكريات المشاركين الأحياء في البرنامج الذين تناثروا بعد انهيار الخلافة التي أعلنها التنظيم.
قال هاميش دي بريتون غوردون، خبير الأسلحة الكيماوية الذي قاد فرق التحرُّك السريع بالجيش البريطاني وحلف شمال الأطلسي (الناتو): «هناك جهاديون في مختلف أرجاء العالم سيصلون إلى كل تلك الأشياء على شبكة الإنترنت المظلم (Dark Web)». وأضاف: «لا يزال أكبر تنظيم إرهابي في العالم مهتماً للغاية بالسلاح الإرهابي الأكبر».
إما قبول عرض عمل من داعش أو الموت جوعاً
اقتحم جيش الإرهابيين مدينة الموصل في يونيو 2014 مُستغلِّين عامل المفاجأة أثناء هبوب عاصفة رملية.
وفي غضون ستة أيام، هزمت قوة مكونة من 1500 مقاتل داعشي قوة حامية عراقية كانت أكبر بـ15 ضعفاً على الأقل، فاحتلت المطار والقواعد العسكرية المحيطة، ودفعت نصف مليون مدني للنزوح. خلع الآلاف من أفراد القوات العراقية زيهم العسكري وحاولوا الهرب، فإذ بهم يُعتقلون ويُذبَحون على يد المهاجمين.
سَلِمَ العفاري من الهجوم بالبقاء في المنزل يستمع إلى تقارير الأخبار وأصوات القتال. وفي نهاية المطاف، هدأ الوضع مجدداً، وخرج المواطنون في ثاني أكبر مدن العراق ليجدوا راياتٍ سوداء تُرفرِف في الساحة الرئيسية بالمدينة وإرهابيين يديرون أقسام الشرطة والوزارات الحكومية.
في البداية، بقي معظم موظفي الحكومة العراقية في منازلهم، وظلَّت رواتبهم تُنقَل إلى حساباتهم المصرفية تلقائياً. لكن حين توقَّفت الرواتب، تُرِك الكثيرون أمام خيار إمَّا العمل لصالح خلافة داعش المُعلَنة حديثاً، أو تدبُّر العيش بدونها. من جانبه، قرَّر العفاري العودة إلى مقرِّ عمله واستعادة مكتبه ومُسمَّاه الوظيفي قبل أن يأخذهما شخصٌ آخر.
عبوات ناسفة وعربات انتحارية مصفحة
قال العفاري، مُستذكِراً قراره أثناء مقابلة استمرت 45 دقيقة بغرفة استقبال بمديرية مكافحة الإرهاب في أربيل فيما كان مسؤولان كرديان يشاهدان: «لم يرغموا أي أحد على العمل. كنتُ أخشى أن أفقد وظيفتي. من الصعب الحصول على وظائف حكومية، وكان من المهم أن أتشبَّث بها».
كان حكام الموصل الجدد منجذبين حتماً لوزارة الصناعة والمعادن التي يعمل فيها العفاري باعتبارها بوابةً للمصانع والمناجم والبنية التحتية النفطية في شمال العراق، وهي أصول ذات قيمة هائلة بالنسبة لتنظيمٍ كان أكثر اهتماماً بإثراء نفسه وتوسيع قدراته العسكرية مقارنةً باهتمامه بالحكم.
وبعد فترة وجيزة، بدأت متاجر الآلات في المدينة العمل في تصنيع عبوات ناسفة متطورة قوية بما يكفي لتدمير الدبابات، وعربات انتحارية مصفحة مُصمَّمةً لاختراق تحصينات العدو قبل أن تنفجر.
كان العفاري مسؤولاً عن المقتنيات في قسم التعدين بالوزارة، وهي وحدة كانت لها جاذبية خاصة بالنسبة للإرهابيين.
وفي المقابلة، تحدَّث عن كيف زار مسؤولو داعش مكتبه بعد أسابيع قليلة من احتلال المدينة وقدَّموا له تكليفاً جديداً وقائمة توريدٍ لمعداتٍ معدنية متخصصة كان مطلوباً منه العثور عليها وتجميعها.
وكانت القائمة تضم خزانات من الفولاذ المقاوم للصدأ (ستانلس ستيل)، ومضخات، وصمامات، وأنابيب، كلها مُصمَّمة لتحمُّل المواد الكيماوية المُسبِّبة للتآكل ودرجات الحرارة المرتفعة.
كيميائيون وعلماء أحياء في خدمة داعش
قال العفاري إنَّ الغرض من استخدام الخزانات كان واضحاً ضمنياً. وزالت أي شكوك عالقة حين أصبح الجيولوجيّ مشاركاً في العمل مع علماء وخبراء آخرين، منهم كيميائيون وعلماء أحياء، وفني واحد على الأقل كان قد عمل في برنامج أسلحة الرئيس العراقي السابق صدام حسين.
وقال العفاري إنَّ الفريق، معاً، كان مُكلَّفاً بتصنيع خردل الكبريت، وهو عامل حرب كيماوية تشيع معرفته باسم غاز الخردل. ويهاجم خردل الكبريت، وهو عامل مُنفِّط تسبَّب في قتل أو تشويه عشرات آلاف الجنود في الحرب العالمية الأولى، الشعب الهوائية في الرئتين عند استنشاقه، وغالباً ما يتسبَّب في موتٍ بطيء ومؤلم.
اعترف العفاري في المقابلة أنَّ دوره كان يتمثَّل في تنظيم سلسلة إمدادٍ لغاز الخردل، وتجهيز مجموعة صغيرة من المختبرات والورش، امتدت من جامعة الموصل وحتى ضواحي المدينة.
ومن واقع محادثات العفاري مع مشرفي تنظيم الدولة بات مقتنعاً أنَّ السموم كانت تهدف لإثارة الخوف أكثر وردع العراقيين عن محاولة استعادة المنطقة التي سيطرت عليها الخلافة. ولا يزال بإمكان الكثير من العراقيين تذكُّر المعاناة التي سبَّبتها الهجمات الكيماوية العراقية على الأكراد في الثمانينيات.
قال العفاري: «كان من المهم (بالنسبة لداعش) القيام بشيءٍ قوي حتى يمكنهم استخدامه للترويع. كان الأمر متعلقاً أكثر بإثارة الخوف والتأثير على نفسية ومعنويات القوات التي تقاتلهم. لا أعتقد أنَّ نوعية الأسلحة كانت بمثل هذا المستوى الخطير في أي وقتٍ مضى».
وذكر العفاري أنَّ الوظيفة نفسها كانت متشابهة في نواحٍ عدة مع عمله حين كان مديراً بالحكومة العراقية.
فقال: «جاؤوا لي كي أساعدهم في ما يتعلَّق بالمعدات: الحاويات، والأشياء التي كانوا يحتاجونها من أجل الأسلحة الكيماوية. لديّ خبرة في الفولاذ المقاوم للصدأ، وكانوا هم يبحثون عن الفولاذ المقاوم للصدأ. لا خيار لديك إلا أن تصبح واحداً منهم».
أسلحة جديدة مذهلة يصنعها تنظيم الدولة
في يوم 11 أغسطس 2015 –بعد 14 شهراً بالتمام من رفع الرايات السوداء فوق الموصل- أطلق مسلحون تابعون لداعش 50 قذيفة هاون على قريةٍ يسيطر عليها مقاتلو البيشمركة الأكراد جنوبي أربيل. انفجرت القذائف بصوتٍ مكتوم هادئ وأطلقت دخاناً أبيض وسائلاً زيتياً.
وفي غضون دقائق، سقط نحو 36 من جنود البيشمركة من الإعياء، كانوا يشكون من الغثيان وحُرقة في العينيين والرئتين. وظهرت بثورٌ مؤلمة على سيقان وجذعيّ ضابطين أصابهما السائل الناتج عن انفجار القذائف.
وأكَّد تحليلٌ مخبري أوليّ احتواء قذائف الهاون على خردل الكبريت. لكنَّ تحليلاً ثانياً استبعد ما كان قد أصبح اعتقاداً سائداً آنذاك؛ وهو أنَّ تنظيم الدولة استولى على السموم من سوريا، أو عثر عليها في بقايا مُهمَلة من برنامج الأسلحة الكيماوية العراقي الذي يعود لحقبة الثمانينات.
لكن لم يكن الأمر كذلك. إذ يشير التركيب الجزيئي لخردل الكبريت في القذائف التي أطلقها داعش بقوة إلى أنَّ السموم كانت محلية الصنع. كذلك كانت تلك السموم خاماً، وتفتقر إلى المكونات الرئيسية التي من شأنها منع السموم من فقدان فعاليتها سريعاً عند التعرُّض للهواء.
ما زرع مخاوف من تمكن داعش من الحصول على أسلحة أكثر تطوراً
وفي وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) والبيت الأبيض، أثار هذا الاكتشاف المخاوف من أنَّ التنظيم الإرهابي كان يشرع في تصنيع أسلحة كيماوية بدائية، وأنَّه ربما يحصل قريباً على أسلحة أكثر تطوراً.
وكان المسلحون قبل هجوم أغسطس 2015 قد استخدموا غاز الكلور –وهو مادة كيميائية صناعية شائعة تُستخدَم في تنقية المياه- مرتين أثناء المعارك مع الأكراد العراقيين.
وتوجد الآن أدلة على أنَّ تنظيم الدولة كان يختبر سموماً جديدة وأنظمة جديدة لإطلاق هذه السموم. وفي غضون أشهر، كان غاز الكلور وخردل الكبريت يُطلَقان على قوات البيشمركة في قنابل غاز، وقذائف، وقذائف هاون، وحتى صواريخ المدفعية.
وعلى مدار الأشهر التالية، أطلقت إدارة أوباما وحلفاؤها العراقيون والأكراد حملةً سرية، لكن قوية، للعثور على مراكز إنتاج الإرهابيين، وتدميرها، وقتل كبار القادة في البرنامج.
كانت المهمة مُعقَّدة بسبب حقيقة أنَّ الأهداف كانت في الغالب مراكز حضرية قرب تجمعات سكنية مدنية كبيرة. لكنَّ البيت الأبيض رأى أنَّ القضاء على برنامج داعش الكيماوي أولوية قصوى.
قال أحد المشاركين الأمريكيين في الحملة، والذي تقاعد الآن وتحدَّث شريطة عدم الكشف عن هويته: «أصبح الأمر جللاً. وكنا نبحث عن أي طرف خيطٍ أو قرائن تقودنا إلى مصادر تلك الأسلحة».
وفي عامي 2015 و2016، قتلت القوات الأمريكية شخصين على الأقل يُشتبه في أنَّهما كيميائيان تابعان لداعش.
وبحسب مسؤولين أمريكيين اثنين سابقين على اطلاعٍ بالعمليات، دُمِّرت بعد ذلك مراكز إنتاج في الموصل ومدينة هيت العراقية في ضرباتٍ جوية دقيقة مُخطَّط لها بعناية استُخدِمَت فيها ذخائر خاصة مُصمَّمة لإحراق أي سموم أو سلائف كيميائية موجودة في المواقع المقصوفة.
لكن الضربات الجوية أبطأت مشاريع داعش الكيميائية
وقال المسؤول المتقاعد إنَّ الضربات الجوية أجبرت داعش على نقل مرافق الإنتاج في مطلع 2016 وإخفاء العلماء المتبقين لديه، ما أبطأ تقدُّم البرنامج الكيميائي. وبحلول هذا الوقت، كان التنظيم الإرهابي في تراجع على عدة جبهات تحت ضغط القصف الجوي المستمر والهجمات البرية عبر غرب وشمال العراق.
واستمر استخدام الأسلحة الكيماوية من جانب تنظيم الدولة الذي شنَّ 76 هجوماً كيماوياً على مدار ثلاث سنوات، وذلك وفقاً لتفريغ بيانات أعدَّها في أكتوبر 2017 كولومب ستراك، محلل الشرق الأوسط البارز لدى مجموعة جينز للمعلومات التابعة لمؤسسة HIS Markit. لكنَّ مسؤولين أمريكيين يقولون إنَّ نوعية غاز الخردل لدى التنظيم ظلَّت رديئة، ما يوحي بأنَّ الإرهابيين لم يستعيدوا زخمهم قط بعد الضربات الجوية عام 2016.
ويبدو أنَّ رواية العفاري تدعم وجهة النظر هذه. ففي فبراير 2016، تاريخ آخر زيارة أجراها، رأى برنامجاً في حالة من الفوضى، ولا يزال يفتقر إلى المعدات الأساسية، واضطر للاعتماد على عمال غير مُدرَّبين بسبب نقص العلماء.
وقال العفاري عن المنشأة الواقعة داخل ما يصفها بأنَّها ورشة سابقة لإصلاح السيارات: «كانت بدائية وبسيطة للغاية. وكان هناك أشخاص أميِّون لم تكن لديهم أيّ من المهارات اللازمة. لا أعتقد أنَّ أي شيء كان يجري بالصورة الصحيحة».
الوقوع في الأسر
وفي يوم الزيارة، استقلَّ العفاري سيارته وبدأ يقود عبر الصحراء باتجاه مدينة تل عفر العراقية لزيارة والدته المريضة. لكنَّ كل حركةٍ له كانت مُراقَبة.
إذ تمكَّن عملاء الاستخبارات الأمريكية من التنصُّت على إشارة الهاتف المحمول للعفاري، وراقبوه لأيام، على أمل أن تسنح لهم الفرصة بأسره حياً.
كان الرجل العراقي يقود على طول طريقٍ صحراوي سريع، ولا يزال داخل عمق منطقة سيطرة تنظيم الدولة ، حين لاحظ في مرآة الرؤية الخلفية أربع مروحيات تقترب.
بدأت اثنتان من المروحيات مطاردة سيارته عند مستوى يُقارب مستوى الأرض، ما تسبَّب في مسح الطريق الترابي وإطلاق سحب من الغبار، في حين حامت المروحيتان الأخريان فوق السيارة مباشرةً.
وسمع العفاري دوي الرصاص العالي الذي ثقب إطاراته وأصاب صندوق محرك السيارة. توقفت السيارة، وقفز العالِم خارج سيارته في عاصفة من التراب ودوامات الهواء الناتجة عن المروحيات. وفجأةً ظهر كلبٌ من العدم وأطبق على ذراعه.
وفيما كان العفاري يروي القصة، شمَّر كُمَّ زي السجن الرمادي كي يكشف عن ندبة على ذراعه اليسرى، قال إنَّها ذكرى من لقائه مع الكلب العسكري. وأشار إلى ندبة أصغر عند نقطةٍ فوق كاحله الأيسر، يقول إنَّها بسبب إطار رصاصة خدش جلده.
وقال العفاري متحدثاً عن قوات العمليات الخاصة الأمريكية المُخوَّذة والمُدجَّجة بالأسلحة التي هرعت إليه بعدما استلقى على الأرض: «لم أكن أخشى من أنَّهم قد يقتلونني. فلم أنظر لنفسي قَط باعتباري شخصاً مهماً. وعلى أي حال، في هذه اللحظة كان تركيزي مُنصبَّاً على الكلب».
فهو أسير مفيد للغاية
أبرز أحد الجنود صورةً –صورة بطاقة تعريف- وسأله باللغة الإنجليزية ما إن كان هو الرجل الموجود في الصورة. فردَّ العفاري: «نعم». ثُمَّ وُضِع كيسٌ على رأسه وشعر العفاري أنَّه يُسحَب للصعود على متن إحدى المروحيات. وحين أُزيل الغطاء، كان محاطاً بجنود أمريكيين وأكراد في معسكر اعتقال عراقي مجهول على بُعد عدة أميال.
ويقول مسؤولون لدى مديرية مكافحة الإرهاب الكردية إنَّه اتضح أنَّ العفاري أسيرٌ مفيد للغاية، إذ أمدَّهم بأسماء ومواقع منشآت أسلحة تنظيم الدولة الكيماوية والأشخاص الذين عملوا داخلها.
وقال مسؤول رفيع بوحدة مكافحة الإرهاب الكردية: «استفدنا كثيراً جداً من معلوماته، لأنَّه كان يتمتع بالقدرة على الوصول لكافة المواقع». وتحدث المسؤول، الذي شارك في استخلاص المعلومات من العفاري، شريطة عدم الكشف عن هويته لمناقشة المعلومات الاستخباراتية. وقال إنَّ «الكثير من الأماكن قُصِفَت» في الأيام التالية.
ويقول مسؤولون وخبراء أسلحة أمريكيون إنَّ الفضل يُنسَب اليوم لهذا القصف في منع تنظيم الدولة من تطوير سموم أكثر تطوراً. ويقول الخبراء إنَّه على الرغم من موارد التنظيم الهائلة، جرى عملياً إضعاف تقدُّمه.
ورغم ذلك مخاوف الأمريكيين لم تنته
قال هربرت تينسلي، وهو خبير أسلحة بجامعة ميريلاند الأمريكية أنتج رفقة زميليه ماركوس بيندر وجيليان كويغلي ملفاً تعريفياً واسعاً عن برنامج الأسلحة الكيماوية التابع تنظيم الدولة لصالح وزارة الأمن الداخلي الأمريكية: «هم فقط لم يصلوا إلى درجة جيدة جداً في البرنامج. فعلى صعيدٍ تكتيكي، يمكننا القول إنَّهم كانوا ناجعين في استخدام الأسلحة الكيماوية لإحباط تقدُّم العدو. لكن على الصعيد الاستراتيجي، بدوا على نحوٍ كبيرٍ للغاية كالهواة».
لكنَّ مسؤولين وخبراء آخرين يقولون إنَّ داعش حصل على المعرفة والمهارات العملية التي من شبه المؤكد أنَّها لا تزال موجودة حتى بعد خسارة التنظيم للأراضي التي يسيطر عليها في العراق وسوريا.
فقال مسؤولو مكافحة الإرهاب الأكراد الذين شاركوا في التحقيق مع العفاري إنَّ العالم تحدَّث عن وحدة إنتاجٍ مُتنقِّلة للأسلحة الكيماوية بُنيَت على مقطورة مُسطَّحة بشاحنةٍ كبيرة.
واضاف المسؤول إنَّ واحداً من مثل هذه المختبرات المتنقلة دُمِّر أثناء غاراتٍ جوية في الموصل، ولا يزال من غير الواضح كم بُني من هذه المختبرات، وما إن كان بُني منها بالأساس.
وقال إنَّ المشاركين الأحياء في البرنامج تناثروا بعد عمليات القصف هذه. وقال المسؤول: «كي أكون صريحاً، اختفى بعض هؤلاء الأشخاص، ولا يزالون مختبئين. نعتقد أنَّهم في سوريا، لكنَّنا لسنا متأكدين».