قصة الجدري الذي انتصرت البشريه عليه
رغم أن البثور عمرها آلاف الأعوام فإنها مازالت تثير القشعريرة، تبدو وكأنها حية على جسد ميت، تزرع الخوف حتى لمجرد رؤيتها في الصور المنشورة لمومياء رمسيس الخامس ، كيف لا تثير الذعر وهي التي تمكنت من الفرعون العظيم.
يمتلئ التاريخ بقصص الأوبئة والجوائح التي اجتاحت العالم فأفنت مدناً وأزالت إمبراطوريات ومن بين هذه الأوبئة ثمة مرض بعينه يحتل مكانة خاصة في التاريخ ليس فقط للرعب الذي سببه للناس على مدار السنين ولكن لأنه أول مرض يسجل البشر انتصاراً يبدو نهائياً عليه حتى الآن.
إنه مرض الجدري المخيف.
المصريون القدماء استخدموه ضد أعدائهم
عرف مرض الجدري منذ العصور القديمة، إذ تُشير بعض البرديات المصرية القديمة إلى إصابة بعض الأشخاص بالطفح الجلدي المُميت، ما جعل بعض العلماء يرجحون إصابة تلك الحالات المذكورة بالجُدري، الأمر الذي يشير إلى انتشار عدوى هذا المرض عند المصريين القدماء.
كما تم اكتشافه في بعض الموميات المُحنطة أشهرها مومياء الفرعون رمسيسالخامس، التي وجد أنها مصابة ببعض البثور التي ترجح إصابة سابقة بالجُدري، حافظ التحنيط على أثرها.
بل إن الحيثيين الذي كانوا يعيشون في آسيا الصغرى (تركيا حالياً) اتهموا المصريين القدماء بنشر الوباء بينهم خلال الحروب بين الإمبراطوريتين.
أعظم إمبراطوريات التاريخ تتهاوى بسببه
لم يتوقف الأمر فحسب عند الحضارة الفرعونية، بل امتد ليشمل أيضاً الصين في القرن الرابع الميلادي، والهند في القرن السابع الميلادي، حتى آسيا الصغرى في القرن العاشر الميلادي ما يؤكد على أن الجُدري هو من أكثر الأمراض المُعدية، والأوبئة التي كان يُعاني منها العالم القديم والحديث.
ويعتقد كثير من المؤرخين أن الجدري كان السبب فيما يعرف بالوباء الأنطوني الذي تفشى بين عامي 165 ميلادية إلى 180 ، وقتل ما يقدر بين 3.5 إلى 7 ملايين شخص، بما في فيهم الإمبراطور ماركوس أوريليوس، وسرع من تراجع الإمبراطورية الرومانية.
المفارقة أن أحد الأسباب الرئيسيّة لتفشي المرض هو انتشار الحضارة وتوسع السفر والاستكشاف والحروب والإمبراطوريات، فقد استمر الجُدري في الانتشار على طول طرق التجارة بين القارات الثلاث، حتى وصل إلى أميركا الشمالية والجنوبية في القرن السادس عشر الميلادي، ويُعد الجُدري المُلام الأول في وفيات ضحايا الحروب نتيجة انتقال العدوى بين المستعمرين وأبناء البلاد المُستعمرة.
الفيروس الذي يسببه لا يحتاج إلى وسيط
مرض الجُدري هو من أخطر الأوبئة التي كان يعاني منها العالم لقرون، خاصة مع استطاعته الفتك بحوالي 30 % من إجمالي عدد المُصابين ، وحتى تلك النسبة التي كانت تنجو من الموت، لم تستطع النجاة لا من التشوهات الجلدية المترتبة على الإصابة بالفيروس، ولا العمى الذي أصاب بعض ضحاياه.
يَمرض الإنسان بالجُدري نتيجة التعرض لعدوى فيروس الفريولا، وهو أحد الفيروسات التي لا تتطلب وسيطاً للعدوى مثل الحيوانات أو الحشرات، ولكنها تنتقل مُباشرة من الإنسان المُصاب إلى الإنسان السليم عند طريق الرذاذ المُلوث، أو العدوى الجلدية.
على الرغم من تصنيف فيروس الفريولا على إنه مُتوسط العدوى، إلا أن الخطورة الحقيقة لذلك الفيروس تنشأ من كون بعض الحالات المُصابة به تُظهر أعراضاً مرضية خفيفة، تُصعب من مهمة اكتشافه، ما يؤدي إلى خلل في عملية عزل المرضى، وانتشار موسع للمرض.
وأعراضه تبدأ خفيفة ثم تظهر بشاعتها
تظهر أعراض الإصابة بمرض الجُدري غالباً على هيئة حمى خفيفة تبدأ في الازدياد حتى تصل حرارة جسم المريض إلى 40.5 درجة مئوية، نتيجة تضاعف الفيروس في الغدد الليمفاوية والطحال ونخاع العظم، لينتهي الأمر بوصول الفيروس إلى كُريات الدم البيضاء ومنها إلى الأوعية الدموية الصغيرة بالقرب من سطح الجلد.
علاوة على ذلك يُعاني المريض من الصداع الشديد وآلام الظهر، وأحياناً آلام في البطن يُصاحبها غثيان وقيء.
تستمر تلك المُعاناة مع المريض حوالي خمسة أيام قبل أن ينتقل إلى مرحلة متقدمة في الأعراض، حيث يظهر الطفح الجلدي بداية في الفم، وينتشر إلى الوجه والأجزاء السفلية من الأطراف، حتى إنه في بعض الحالات يمتد المرض إلى العين ليُسبب العمى.
هنالك بعض الحالات التي تتطور إلى ظهور طفح جلدي أحمر عميق في الجلد وتلك الحالات لا تستمر على قيد الحياة لمدة أكثر من أسبوعين في الغالب.
ساهم المرض في تدمير حضارات وفي تغيير خريطة العالم
إذا كان الاستعمار هو الذي رسم خريطة العالم، فإن الجُدري كان صاحب كلمة كبرى ومرجحة في مسار التاريخ وصياغة هذه الخريطة، فعندما ينحاز الجدري إلى إمبراطورية ضد أخرى تكون الهزيمة من نصيب الإمبراطورية التي اختارها هذا المرض عدواً ويكون الاختفاء مصيرها في أحيان كثيرة.
فقد حمل الإسبان هذا المرض في أجسادهم إلى العالم الجديد الذين كان سكانه ليس لديهم مناعة ضده لأن القارتين الأميركيتين كانتا خاليتين منه.
والنتيجة ساهم الجُدري في محو إمبراطورية الأزتك (المكسيك حالياً) من التاريخ، بعدما وصل الوباء إلى البلاد مع الغزاة الإسبان في عام 1519، ليقضي على ما يُقارب من 3 ملايين شخص من السكان الأصليين، ولتُصبح الإمبراطورية فريسة سهلة أمام العدو.
ثم انهارت المزيد من الدول والحضارات في العالم الجديد بنفس سيناريو إمبراطورية الأزتك؛ منها إمبراطورية الأنكا في غرب أميركا الجنوبية.
ويعتقد أن 90 % من الخسائر البشرية للسكان الأصليين للأميركتين بعد اكتشافهما جاءت بسبب هذا المرض وليس نتيجة للعمليات العسكرية للمستعمرين.
ولم يتوقف الوباء بل استمر يتحرك بضراوة شديدة ليقضي على حياة 60 مليونشخص في القرن الثامن عشر في أوروبا، حتى ظن العالم أنه لا مجال لخسائر بشرية أكثر، ولكن عاد الوباء في هجمات وحشية أخرى في القرن العشرين ليودي بحياة 300 مليون شخص على مستوى العالم.
وأسماء ضحاياه تضم طويلة من المشاهير
لم يفرق الجدري بين الأغنياء والفقراء، إذ أودى بحياة العديد من المشاهير بجانب نتائجه الكارثية على سكان العالم أجمعين.
فبسبب فوضى وباء الجُدري في أوروبا في القرن الثامن عشر، لقى العديد منالملوك والأمراء حتفهم منهم جوزيف الأول إمبراطور آلِ هابسبورغ حكام النمسا التاريخيين، والملكة ماري الثانية في إنكلترا، والملك لويس الخامس عشر في فرنسا وبيتر الثاني قيصر روسيا ، والإمبراطور شونزي ثالث أباطرة أسرة كينغ التي حكمت الصين.
علاوة على بعض الفنانين والأدباء مثل الممثلة البوليودية جيتا بالي عام 1965، والشاعر العربي الكبير أبو العلاء المعري صاحب رسالة الغفران الذي نجي من الوباء لكنه فقد بصره بسببه.
محاولة التصدي له بدأت بطريقة بدائية ولكنها قللت الوفيات
في مواجهة هذا المرض لم تتوقف مُحاولات الأطباء لإيجاد طُرق للسيطرة عليه أو حتى تقليل الخسائر.
إحدى تلك الطرق البدائية التي اعتمدها الأطباء هي التلقيح المُباشر، عن طريق عزل جزء من مادة القروح في المُصابين وتعريض الأصحاء لها، عن طريق خدش الذراع بالمادة أو استنشاقها من خلال الأنف.
وعادة ما كانت تظهر أعراض المرض مثل الحمى والطفح الجلدي على هؤلاء الناس الذين تعرضوا لمادة الجدري. ومع ذلك، فقد كانت نسبة الوفيات بينهم أقل من الأشخاص العاديين الذين لم يتعرضوا وصودف وجودهم في أماكن تفشي المرض.
واللقاح الأول جاء من حلّابة أبقار وجربوه على طفل صغير
الصدفة كانت وراء اكتشاف الطبيب الإنكليزي إدوارد جينر على أول لقاح ضد مرض الجُدري في يونيو عام 1800، ليُصبح هذا الاكتشاف هو باكورة مساعي العالم في القضاء نهائياً على المرض.
فقد لاحظ جينر أن الآنسة سارة نيلمس حلّابة البقر التي أصيبت بالجدري سابقاً أصبحت محصّنة ضدّ الجدري وذلك لأنها كانت قد أصيبت بحمى جدري البقر (cowpox).
فاستنتج جينر أن أخذ مواد من جلد المصابة وحقنها بشخص آخر لإصابته بنفس المرض سوف يولد مناعة مستقبلية ضد مرض الجدري وذلك لأن هذا المرض (جدري البقر) هو مشابه ولكنه أقل خطورة.
وبالفعل قام بتجربة على ابن البستاني الخاص به، إذ أخذ مادة من قرحة الجدري من على يد نيلمز وقام بحقنها في ذراع فيبس ابن البستاني البالغ من العمر 9 أعوام وبعد مرور أشهر، كشف جينر عن وجود حالات تفشي لوباء فيروس الجدري، لكن فيبس لم يَصْب بالجدري وطور جينر اللقاح مستنداً على هذه النتائج.
لقد انتهت الحرب ولكن الإهمال أسقط الضحية الأخيرة
بعد اكتشاف إدوارد جينر اللقاح، ألزمت عديد من الدول مثل الدنمارك سكانها بالتطعيم الإجباري ضد الجُدري بهدف القضاء على الجُدري، إلى أن تمكنت دول العالم دولة تلو الأخرى من التخلص من المرض.
ثم أطلقت منظمة الصحة العالمية حملة تحصين عالمية ضد فيروس الجُدري عام1967، وظهرت نتائج مُبشرة في ذلك العام حيث انخفض معدل الوفيات بالمرض إلى حوالي مليوني حالة من بين 15 مليون حالة تم تسجيلها للإصابة بالجُدري، ليستمر السعي والأمل حتى سجلت منظمة الصحة العالمية انتهاء الجُدري من العالم نهائياً ولم يُصب أي شخص بالجُدري بشكل طبيعي منذ عام 1977.
ولكن في عام 1979 كانت جانيت باركر المصورة الطبية البريطانية هي آخر شخص يموت بسبب الجدري بعد أن وصلها الفيروس بطريق الخطأ في معمل أبحاث بجامعة بيرمنغهام البريطانية كانت تعمل به، وتسببت الحادثة في انتحار رئيس قسم الميكروبيولوجي في كلية الطب بالجامعة.