في البحث عن الحقيقة الكردية.. قراءة في فكر «عبدالله أوجلان» (3)
يؤكد السيد عبدالله أوجلان أنَّ للأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني دوراً كبيراً في ايصال الحقيقة للشعب والعالم من خلال مسيرته النضالية والتي من غيرها لا يمكن للحزب ايصال الثورة التي يتبناها إلى مبتغاها.
ومن هنا يمكن القول أنه كانت هناك الكثير من الأحزاب التي ظهرت لكنها كانت مفتقرة للنظرية الفلسفية والتاريخية لحقيقة النضال الذي ستخوضه من أجل نجاح نضالها. إلا أن حزب العمال الكردستاني كان الحزب المختلف عن باقي الأحزاب الكردية المتواجدة على الساحة من هذه النقضة الهامة والتي هي النضال من أجل إثبات الوجود الكردي من خلال القراءة الحقيقية للتاريخ الكردي والاعتماد على هذه الحقائق والابتعاد عن التنظيرات الاستشراقية الغربية التي أجحفت في تاريخ هذا الشعب. إذ، يقول السيد أوجلان أنه ومن خلال “مسيرةُ نضالِ الأعوامِ الثلاثين الأخيرةِ متجسدةً في حزب العمال الكردستاني PKK، قد جرى خوضُها – فقط وفقط – من أجلِ قضيةِ الوجودِ بالنسبةِ للكرد.
أي أنّ هذا الكفاحَ كان بمعنى من المعاني بغيةَ حَسمِ سؤالِ: الكردُ موجودون أم لا؟. فبينما كان أحدُ الطرفَين يُلِحُّ بشكلٍ انتحاريٍّ أعمى على قولِ “الكردُ موجودون”، كان الطرفُ الآخرُ يقولُ “لا، هم غيرُ موجودين”. بل والأنكى والباعثُ على الخجل، هو أنّ المسألةَ الأوليةَ على صعيدِ التنورِ والتثقفِ الكرديِّ خلال العقودِ الستةِ التي تَسبقُ الأعوامَ الثلاثين الأخيرة، كانت تتجسدُ أيضاً في الانهماكِ بإثباتِ وجودِ الكرد.
ما من شائبةٍ في أنّ شروعَ فردٍ أو مجتمعٍ ما في الجدالِ بشأنِ وجودِه، يُعَبِّرُ عن خطرٍ فادحٍ ومنزلةٍ منحطة للغاية، مُشيراً بدورِه إلى الخطِّ الرفيعِ الفاصلِ بين الحياةِ والموت. وما من موجودٍ أو كيانٍ اجتماعيٍّ في التاريخِ أُسقِطَ في هذا الوضع، أو نادرٌ جداً عددُ الكياناتِ الاجتماعيةِ التي تَعَرَّضَت لهكذا وحشيةٍ فظيعة. بمعنى آخر، لَم يُسقَطْ أيُّ كيانٍ اجتماعيٍّ إلى حالةِ الخجلِ من الذاتِ والقبولِ بإنكارِ الذاتِ بقدرِ ما هم عليه الكرد، أو نادرةٌ جداً الكياناتُ الاجتماعيةُ التي شَهِدَت هكذا انحطاطاً وسفالة. من جانبٍ ثانٍ، فأنْ تَكُونَ كردياً، يعني أنْ تَكُونَ شيئاً أَشبَه بأنقاضِ حشدٍ أو تجمعٍ بلا مَوطِن، ولا يساوي قرشاً واحداً، بل يبقى خاليَ اليدَين من المال، وعاطلاً عن العملِ بكثافةٍ كبيرة، ويَعمَلُ مقابلَ أيَّما أَجر، ويصارعُ دوماً من أجلِ الحياة، وينسى احتياجاتِه الثقافية، ويَدأبَ بلهفةٍ لأجلِ تلبيةِ احتياجاتِه المادية، ويَبقى مع ذلك بلا نان NAN (بلا خبز) في موطنِ الـ”نان” (الوطن الأم لثورة الزراعةِ النيوليتية).
بشكلٍ عام، للنضالِ الاجتماعيِّ علاقتُه مع البحثِ عن الحقيقة. فنضالٌ اجتماعيٌّ يجهدُ لحلِّ قضيةٍ اجتماعيةٍ ما، لن يستطيعَ إحرازَ النجاحِ ما لَم يُعَبِّرْ عن حقيقتِها الاجتماعية. ونسبيةُ الحقيقةِ الاجتماعيةِ لها مزاياها المعياريةُ الزائدةُ إلى آخرِ حدّ. بينما ارتباطُها بالمكانِ والزمانِ وثيقٌ ووطيد. ولَئِنْ ما قُيِّمَ الأمرُ من زاويةِ الحقيقة، فسيُرى أنّ حادثةَ PKK لَم تقتصرْ فقط على بَرهنةِ الوجودِ الكرديِّ البالغِ حافةَ التصفيةِ والزوال، بل وأَوجَدَته أيضاً بنسبةٍ مهمة. لذا، ما كان له أصلاً أنْ يَكُونَ حركةً تحرريةً بالمعنى الكلاسيكيّ. فلا وضعُ الوجودِ أو الكيانِ الذي ارتَكزَ إليه، ولا الوعيُ الذي تَحَلَّى به كانا يسمحان له بذلك.
لقد أَوجَدَ PKK الكردَ ميدانياً. ذلك أنّ كردايتيةَ القرنِ العشرين كانت كردايتيةً تقتضي جعلَها موجودةً قبل تحريرِها. وما أُحرِزَ النجاحُ فيه كان تصييرَها موجودة. فإذا كان شيءٌ ما يُعاني من قضيةِ الوجود، فما ينبغي القيام به أولاً هو تأمينُ وجودِه، وليس تحريرَه. ووضعُ الكردِ كان يستلزمُ إيلاءَ الأولويةِ تماماً لإبرازِ الوجود. ذلك أنّ مصطلحاتٍ من قبيلِ التحررِ والحريةِ والمساواة، لن تكتسبَ معناها إلا بالنسبةِ إلى موجوداتٍ حلَّت قضيتَها الوجودية”.
السبات الفكري الذي كان يتحلى به الكرد عبر التاريخ يمكن اعتباره السبب الرئيس في الحالة التي يعيشها الكرد في راهننا، لأنه حينما يكون الفكر نائماً لا يمكن الوصول إلى الحقيقة بالنسبة لشعب يعاني الإبادة بكل تجلياتها. لهذا يصرّ السيد أوجلان على أن الفكر يعب دوراً محورياً في المعرفة التاريخية للوصول إلى الحقيقة، ويقول في هذا الصدد “التحلي أولاً بالتنورِ بشأنِ قضيةِ الوجودِ الكرديّ، شرطٌ أوليٌّ قبل خوضِ النقاشِ بصددِ القضيةِ الكرديةِ وسُبُلِ حلِّها. والتنورُ يعني التعرفَ على الحقيقةِ المتعلقةِ بالوجودِ المعنيّ. أما الحقيقة، فهي هدفٌ لا يُطالُ من دونِ خوضِ كفاحٍ عتيدٍ في سبيلِها. والحقيقةُ ليست الواقعَ المُعاش، بل هي حالتُه الواعية. والواقعُ بلا حقيقة، واقعٌ نائم. والواقعُ النائمُ لا مشكلة لديه.
الحقيقةُ هي حالةُ اليقظةِ للواقعِ النائم. وحالةُ النومِ لدى الكردِ كانت غائرةً وأدنى إلى الموت، بحيث كان واضحاً وضوحَ الشمسِ أنّ خوضَ الحربِ في سبيلِ الحقيقةِ سيَغدو مُعقَّداً وشائكاً وعصيباً للغاية. ومثلما أني لَم أفقدْ شيئاً البتةَ من هَيامي وعنفواني، رغم كلِّ الظروفِ الشاقةِ في سجنِ إمرالي؛ فانشغالي بحقيقةِ الشعبِ الكرديّ، بعدَ حالتي التي كانت قائمةً قبل خمسٍ وثلاثين سنة، يَبدو وكأنه يُسَلِّطُ النورَ على ربيعٍ أكثر معنى من دورِ التنويرِ الذي أداه الكردُ في فجرِ الحضارة. إني منتبهٌ إلى كونِ هذه وجهةَ نظرةِ رومانسية. ويَبدو فيما يبدو أنّ وجهةَ النظرِ الرومانسيةَ هذه نداءٌ ودعوةٌ لبراعمِ الحقيقةِ الأكثر نضارةً بكثيرٍ من رَمادِ الحقيقةِ الهَزَليةِ التهكميةِ التي لا تَبعثُ على الأمل. والحقائقُ المعنيةُ بالواقعِ الكرديِّ وقضيتِه، إنما هي شاهدةٌ على ازدهارِ آمالِها في الحريةِ لأولِ مرة”.