في البحث عن الحقيقة الكردية (الحلقة 11)
لطالما ارتبطت الديمقراطية مع الشعوب التي عاشت بعيداً عن المجتمعات المدنية المتشكلة عبر التاريخ، هذه الشعوب التي ما زالت حتى راهننا تتمسك بثقافتها القبائلية والعشائرية للحفاظ على وجودها وتقاليدها وأخلاقها التي هي بمثابة قوانينها المجتمعية الديمقراطية عبر آلاف السنين. وأن ربط الديمقراطية بالتحول إلى دولة ما هي إلا زيغ كبير من مفرزات عقلية الاشتراكية المشيدة التي رعاها لينين واستمر بها ستالين حينما نادوا بـ “دكتاتورية البروليتاريا”، على أنه الحل الأمثل للوصول إلى مجتمع اشتراكي، طبعاً كان ذلك على حساب الديمقراطية، وأيضاً ما زالت تنادي به صاحبة العقلية الليبرالية التي تربط الديمقراطية بشكل أساسي في بناء الدولة.
هذا الربط بين الديمقراطية والدولة هو أساس المشاكل البنيوية التي تعاني منها كافة المجتمعات في كل مكان. إذ، أنه ليس هناك أية رابطة بينهما لا من قريب ولا من بعيد. الثقافة المجتمعية المبنية أساساً على التعايش السلمي بين مختلف الثقافات هي الأساس الحضاري الذي عبرت منه المجتمعات نحو برّ الأمان.
ويمكننا القول أنه النتيجة الطبيعية للعلاقات والتناقضات بين الثقافتين القبيلة والعشائرية من جهة وبين الثقافة المدنية لعبت دوراً محورياً لظهور الأقوام البدئية للكرد، ألا وهم الهوريين. الذين كان لهم الدور الهام في بناء العلاقات مع الأقوام الأخرى مثل الحثيين وتغلبهم على البابليين والآشوريين.
الهوريين الذين كانوا في مناطق الهلال الخصيب وميزوبامتاميا العُليا في المنطقة الواقعة ضمن سلسلة جبال طوروس – زاغروس أنشأوا مجتمعاً فريداً من نوعه في ارتباطهم بهذه الطبيعة والذين أخذوا اسمهم منها. فالهوريين الذين ينحدرون من الأصول نفسها التي يتأتى منها الكورتيون (بالإمكانِ فهمُ كلمتَي “كور Kur” و”أور Ur” في اللغةِ السومريةِ بأنهما تعنيان “الجبل” و”التل”)، أي أنَّ هذا الشعب هو شعب جبلي والذي يُعتبر جُزءاً مهماً من الثقافة التقليدية لدى الكرد. إذ يوضح أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، هذه القضية بشكل جيد ويقول: “هذا وقد جرى التمكنُ من تشخيصِ كونِ الهوريين (الكورتيين) أَلقَوا أولى خطواتِهم على دربِ المدنيةِ بدءاً من أعوامِ 2000 ق.م، وأنهم بسطوا نفوذَهم من خلالِ سلالةِ خودا Gudea على المدنِ السومرية (2150 – 2050 ق.م). كما ويُرى أنهم بدءاً من أعوامِ 1600 ق.م أيضاً شادوا إمبراطوريتَين متجاورتَين تَصِلُهما ببعضِهما صِلاتُ القرابة، وهما إمبراطوريةُ الحثيين في بلادِ الأناضولِ الداخليةِ والميتانيين في ميزوبوتاميا العليا. من هنا، فالثقافةُ الحثيةُ والميتانيةُ من أهمِّ وأقوى الأمثلةِ التي سجَّلَها التاريخُ بشأنِ تمدنِ الهوريين المتأثرين بالثقافةِ السومرية. كما ويُلاحَظُ أنّ كِلتا القوتَين اتَّحدتا حتى أنهما سيطرا على مدينةَ بابل أيضاً عامَ 1596 ق.م. زِدْ على ذلك قدرتَهما على بسطِ النفوذِ أيضاً على المدنيةِ المصرية، التي تُعَدُّ أكثر قوى المدنيةِ تأثيراً في الشرقِ الأوسطِ فيما بين 1500 – 1200 ق.م. وهويةُ نفرتيتي المشهورة (الأميرة الميتانية التي ذهبت عروساً إلى مصر) برهانٌ قاطعٌ على مدى قوةِ هذا التأثير. ويبدو فيما يبدو أنّ الهوريين تشتتوا كقوةِ مدنيةٍ تجاه قوةِ الآشوريين المتصاعدةِ مع حلولِ أعوامِ 1200 ق.م. وكما شُخِّص، فقد عاشوا بعدَها على شكلِ اتحاداتٍ قَبَلِيّةٍ رخوةِ الروابطِ باسمِ الكونفدراليةِ النائيرية (فيما بين 1200 – 850 ق.م. هذا وكلمةُ نائيري في اللغةِ الآشوريةِ تعني النهر. وهذا ما معناه “شعوب النهر”)”.
من هنا نرى أنَّ الاتفاقات التي كانت متواجدة بين الثقافات المختلفة عبر التاريخ لعبت دوراً مهماً في تشييد الكثير من الامبراطوريات أو أنهما من خلال توافقهما قضوا على امبراطوريات أخرى. التاريخ مليء بمثل هذه الاتفاقات التي كانت سبباً في تعاظم نفوذهما، ومن هذه الاتفاقات التي كانت بين الهوريين والأرمن الذين شكلّوا مع بعضهما امبراطورية اورارتو التي كانت اتحاداً بين ثقافتين. واستطاعوا كذلك من خلال هذا الاتفاق وبعد حروب استمرت قروناً عدة في أن يقضوا على الامبراطورية الآشورية ذائعة الصيت.
وقد ظهرت الامبراطورية الميدية على أنقاض الامبراطورية الآشورية. هذه الامبراطورية _ الميدية _ التي لم تستمر لفترة طويلة نتيجة الخيانات التي ضربت بيتها الداخلي وتسليمها للأخمينيين – البرسيين بعد ذلك على يد قائد القوات في ميديا. إذ يوضح أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، هذه القضية بشكل جيد ويقول: “وبعدَ مقاومةٍ عتيدةٍ دامت قُرابةَ ثلاثةِ قرونٍ بحالِها في جبالِ زاغروس تجاه آشور، تتحولُ كونفدراليةُ ميديا إلى إمبراطوريةٍ عامَ 612 ق.م، وذلك إثرَ تدميرِها نينوى عاصمةَ آشور وتَسويتِها أرضاً. هنا أيضاً. وبعد أَمَدٍ وجيزٍ من عمرِ هذه الإمبراطورية، ظلّت الثقافةُ الميديةُ تُشَكِّلُ أقوى ثقافاتِها، وبالأخصِّ على صعيدِ الفنِّ العسكريّ؛ حتى بعد استيلاءِ الملوكِ ذوي الأصولِ الأخمينيةِ الفارسيةِ عليها خلال أعوامِ 550 ق.م حصيلةَ المؤامراتِ والدسائسِ السلالاتية. ويتحولُ اسمُها إلى الإمبراطوريةِ البرسية، وتغدو القوةَ العالميةَ شاسعةَ الآفاق، والتي تمتدُّ حدودُها من بحرِ إيجه إلى أعماقِ بلادِ الهند، ومن مصر إلى ما يُسمى اليوم تركمانستان. إنها إحدى أقوى حلقاتِ نظامِ المدنيةِ المركزية”.
واستمرت الامبراطورية البرسية القوة العالمية الوحيدة التي تتحكم في هذه المنطقة الشاسعة طيلة قرنين من الزمن ولا أحد كان بمقدوره أن يقف ضدها. هذه الفترة الطويلة من الحُكم أظهرت معها توجه أعين الآخرين على هذه المنطقة الغنية بثقافاتها وبخيراتها المادية أيضاً.
وما توجه الاسكندر الكبير نحو المشرق إلا دليلاً على ذلك. ويمكن اعتبار هذه الفترة هي المرة الأولى التي تشهدُ صراعاً من نوع آخر. إذ، حتى قبل ذلك كانت كافة الصراعات تتم على نفس الجغرافيا وبين نفس الثقافات والشعوب لتشكيل مدنياتها الخاصة بها, إلا أنه بتوجه الاسكندر نحو الامبراطورية البرسية والحرب التي دارت بينهما يمكننا اعتباره أول حرب بين الشرق والغرب في التاريخ. وبعد ذلك توجه الرومانيين أيضاً على خُطى اليونانيين وبذلك فُتِح باب الصراع بين الثقافة الشرقية والثقافة الغربية على أوسع مصراعيه والتي تستمر حتى وقتنا الراهن.
ونتيجة الصراع بين البرس والرومانيين فترة طويلة من الزمن خارت قوى الطرفين ولم يستطع أحدهما في القضاء على الآخر، حتى فُتح المجال لظهور ثقافة أخرى استفادت من حالة الوهن التي كانتا تعيشهما هاتين القوتين وفرشت نفسها، ألا وهو الفتح الاسلامي. إذ يوضح أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، هذه القضية بشكل جيد ويقول: “باتت الامبراطورية البرسية القوةَ الوحيدةَ المهيمنةَ عالمياً طيلةَ قرنَين من الزمن، إلى أنْ أَحكَمَ الإسكندرُ قبضتَه عليها عام 330 ق.م، تاركةً خلفَها آثاراً غائرةً في ثقافةِ المدنية. فالمدنيةُ الميديةُ – البرسيةُ هي التي وَلَّدَت المدنيةَ الرومانيةَ من حيث المضمون. أما الممالكُ المُشادةُ كحلقةٍ وسيطةٍ بعدَ غزواتِ الإسكندر، فتصبحُ مع الزمنِ قوى احتياطيةً تستَخدَمُ في النزاعاتِ القائمةِ بين الساسانيين (وهم امتدادٌ للبرسيين: 216 م – 650 م) وروما (500 ق.م – 500 م). أما عجزُ الساسانيين والرومانيين عن إلحاقِ الهزيمةِ التامةِ ببعضِهما بعضاً كآخرِ قوتَين عظيمتَين في العصرِ القديم، وسقوطُهما مُنهَكين مُرهَقين؛ فقد فتحَ الطريقَ أمام الفتحِ الإسلاميّ. هكذا يبدأُ عصرٌ ثقافيٌّ جديدٌ في صفحاتِ التاريخِ مع سيدِنا محمد، الذي أبدى مهارتَه وبراعتَه في توحيدِ الثقافةِ القَبَلِيّةِ البالغةِ الرسوخِ ضمن شبهِ الجزيرةِ العربية، ولَمِّ شملِها تحت رايةِ الثقافةِ الإسلامية”.