في البحث عن الحقيقة الكردية (الحلقة السابعة)
الحداثة الرأسمالية التي طلَّت علينا بِعلمَويتها أرادت من ذلك فصل العلوم بكافة مجالاته عن بعضه البعض وقطعه عن عملية تطور العلوم عبر التاريخ. وكأن العلم فقط بدأ من عندهم ومنهم يبدأ كل شيء وهم أصل العلم والتطور العلمي والتقفني. فلولا علوم الهندسة والفلك والري والبناء والفلسفة التي ما زلنا نجهل معظمها والتي خطَّها لنا الحكماء من حضارة ميزوبوتاميا ومدنية الفراعنة المصريين القدماء، لما وصلت العلوم الانسانية إلى ما هي عليه في راهننا.
أي أن تاريخ العلوم مرتبط بشكل وثيق بتاريخ التطور الانساني ومنه الحضاري والمجتمعي لكافة الشعوب. فأصل العلم له ارتباط عميق بتطور المجتمع والانسان والأخلاق بعكس العلموية التي هي وليد مسخ للليبرالية الحداثوية التي لا تعترف لا بالتاريخ ولا بالمجتمعات التاريخية، وعليه تعمل على اقناعنا أنَّ كل شيء بدأ منها وبها. وهذا ما يريدون القيام به ونقبله على أنه الحقيقة ولا حقيقة أخرى غيرها، وكأن الحقيقة فقط متواجدة عندهم ولا أحد غيرهم.
الحقيقة مرتبطة برباط متين بالتاريخ والمجتمع وهي كونية ولا يمكن تجزئتها ونسبها لجغرافيا معينة أو مجتمع بحد ذاته.
وحينما نسقط هذه النظرية على المجتمعات والشعوب نتقرب من الحقيقة أكثر. إذ، لا يمكن الادعاء بأنه ما دام هذا المجتمع لا يمتلك دولة فليس له الحق أن يكون شعباً له تاريخ وثقافة ولغة. فربط كل مجتمع بالدولة كي يُعرَف عن ذاته يُعتبر الضلال بعينه. إذ يوضح أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، هذه القضية بشكل جيد ويقول: “علينا ألا نقعَ إطلاقاً في الضلالِ والزيغِ بشأنِ الموضوعِ التالي: مهما كان مجتمعٌ ما يَحيا “الحاضرَ” من دونِ دولة، ومهما كانت مزايا الأمةِ لديه متدنيةَ المستوى؛ فهو لن يتخلص بالتأكيدِ من كونِه جزءاً من التاريخِ والمجتمعِ العالميَّين. يكمنُ الضلالُ والتِّيهُ في إمكانيةِ البحثِ والتدقيقِ في العديدِ من المجتمعاتِ بنحوٍ منفصلٍ عن التاريخِ والمجتمعِ العالميَّين. يستحيلُ فهمُ التاريخُ والمجتمع، بهذه الذهنيةِ المناهِضةِ للعلمِ والمنفتحةِ على شتى أنواعِ الأحكامِ المُسبَقة. علماً أنّ التكاملَ ليس خاصيةً أساسيةً في الطبيعةِ الاجتماعيةِ فقط، بل وفي الطبيعةِ الفيزيائيةِ والكيميائيةِ والبيولوجيةِ أيضاً”.
النواة الأولية لتجمع الانسان حول بعضه درءاً للأخطار المحيقة به كانت “الكلان” التي هي الخلية البدئية لتشكل المجتمعات الانسانية ومنها تطورت اللغة والثقافة والأخلاق والسياسة وغيرها من العلوم. فحينما يتم تجاهل هذه الخلية حتماً سنصل لنتيجة مفادها إنكار القبيلة والعشيرة والمجتمع وغيرها من حلقات تطور المجتمع حتى وصوله لمجتمع الأمة والطبقة والدولة.
كما أن الانسان يتكون من ملايين من الخلايا المتراصة بجانب بعضها البعض ومن هذه الخلايا تتكون الأعضاء ومنها يكون الشكل النهائي لجسم الانسان، فكيفما أنه لا يمكن تفسير الجسم على أنه فقط مكون من أعضاء مختلفة فقط من دون ذكر الخلية، فهذا ينطبق أيضاً على المجتمع التاريخي للانسان أيضاً.
القبيلة والثقافة القبائلية التي تمتد جذورها في عمق التاريخ لا يمكن القفز عنها ونسيانها على أنها ماضٍ ينبغي نسيانه واعتباره تخلف وكانت حالة بربرية وعلينا أن نعيش حاضرنا فقط في الدولة التي هي أساس أن تكون شعباً أم لا. إنه التحريف الكبير والتزوير العظيم الذي يتم باسم الانسانية والمجتمعات البشرية. وهذا ما نعاني منه في اغترابنا عن الذات والآخر، وهي النقطة الهامة في صراعاتنا الهزلية التي لا تقبل الاعتراف بالآخر وحتى بالذات.
فأساس الهجمات الدائرة الآن على الشعب الكردي من قبل الدول القوموية هي أنها ترفض وجود هذا الشعب والقبول بثقافته ولغته وتاريخه الممتد في عمق التاريخ. وكأن التاريخ يبدأ فقط بتشكيل دول من قبيل “تركيا، سوريا، ايران، العراق”، وكل من هو غير ذلك فينبغي القضاء عليه. وهذا أساس عدم الاستقرار في المنطقة والحروب المستمرة منذ عقود. إذ يوضح أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، هذه القضية بشكل جيد ويقول: “يجب التبيان بعناية أنّ كلَّ الأفكارِ الشاذةِ والهامشيةِ بحقِّ الكردِ تعتمدُ على هكذا أحكامٍ ذاتيةٍ مُسبَقة. فمهما أُقصِيَ الكردُ من التاريخِ والمجتمعِ العالميَّين في راهننا، إلا أنّهم – وعلى النقيض – ممثلو المجتمعِ القَبَلِيِّ الذي أدى دوراً رئيسياً في كافةِ أطوارِ التاريخِ والمجتمعِ العالميَّين، ابتداءاً من تخطي مجتمعِ الكلان وحتى تطوُّرِ مجتمعِ المدنية (المجتمع المدينيّ، الطبقيّ، والدولتيّ). إنهم العنصرُ الرئيسيُّ في إنشاءِ الثقافةِ القَبَلِيّة وتأمينِ سيرورتِها. من الخطأِ النظرُ إلى القبيلةِ على أنها ظاهرةٌ اجتماعيةٌ خارجةٌ عن العصرِ أو عفا عليها الزمن. ذلك أنّ القبيلةَ شكلٌ أساسيٌّ للبشرية، ولن يحصلَ تخطّيها في أيِّ وقتٍ من الأوقات. قد تتغيرُ شكلاً ومضموناً، ولكن، من غيرِ الممكنِ إقصاؤُها كلياً من الظاهرةِ الاجتماعية. كما أنّ شكلَي الكلان والأمةِ في الظاهرةِ الاجتماعيةِ لا يتّصفان بالكونيةِ والتاريخانيةِ بقدرِ ما هو عليه شكلُ القبيلة. لا ريب أنّ شكلَي الكلان والأمةِ أيضاً يتحليان بالخاصيةِ الكونية، ولكنْ ليس بمستوى القبيلةِ من حيث التأثير. فالشكلُ الأوليُّ للإنشاءِ المجتمعيِّ هو القبيلة. وحتى في عهدِ الرأسمالية، دع جانباً تجاوُزَ القبيلة، فجميعُ الاحتكاراتِ والشركاتِ المهيمنةِ القابضةِ الرأسماليةِ ذائعةِ الصيت، ما هي في نهايةِ المطافِ سوى تنظيماتٌ قَبَلِيّة. قد لا تَكُونُ قبائلَ البدوِ الرُّحَّلِ والمجتمعِ الزراعيِّ المُكَوِّنِ للتاريخ، ولا يُمكنُها أنْ تَكُونَ كذلك؛ ولكنها قبائلٌ مدينيةٌ في مجتمعِ الأزمةِ والانهيارِ والتضعضع، أي أنها قبائلٌ هرميةٌ ودولتيةٌ واستغلالية”.