فلسفة أوجلان.. سلسلة تمردات لصالح حرية المرأة (الحلقة الرابعة)
استكمالا لسلسلة المرأة الكردية.. من أين وإلى أين؟
حتى نستطيع فهم الأسباب الحقيقية التي جعلت المرأة الكردية تلتف حول “حزب العمال الكردستاني PKK” بهذه السرعة القصوى بعد طول سبات، لا بد لنا من الإشارة إلى فلسفة “عبد الله أوجالان” ومقاربته من موضوع المرأة عموماً ومن قضية حرية المرأة خصوصاً. ذلك أن هذه المقاربة هي التي لعبت دوراً محورياً في جذب الفتيات الكرديات إلى صفوف الحزب حتى عندما كان مجرد مجموعة فكرية صغيرة، وفي رسم سياسة الحزب ومن ثم “حركة حرية كردستان” بخصوص حرية المرأة، للوصول بها اليوم إلى مكانة مرموقة جعلتها أيقونة عالمية.
لنعمل على تحليل هذه الفلسفة التحررية العصرية بتسليط الضوء على موجز سيرة حياة عبد الله أوجالان من خلال أمثلة ملموسة عن عدة محطات ومنعطفات أساسية مر بها، وكيفية تحليله لها.
أوجالان طفلاً وشاباً: التمرد على قوانين العائلة والقرية والمجتمع والدولة
ترعرع أوجالان في وسط إقطاعي محافظ وضمن عائلة فقيرة، كانت الأم فيها مسيطرة وتتسم شخصيتها ببقايا الهيبة الأنثوية، بينما الأب كادح مسكين ذو شخصية تقليدية ودينية محافظة. كان هذا التوازن يتيح له الفرصة لتحقيق انطلاقته والتمتع بحيز مهم من حرية التصرف والتمرد على قوانين العائلة، ليَكون هذا تمرده الأول.
ومن أهم الأحداث التي تطرق إليها أوجالان، هي زواج أخته الكبرى زواجاً تقليدياً مقابل “كيس من الطحين”! حيث علقت هذه الحادثة في ذاكرته، وكانت محفزاً لتساؤله: كيف يتم بيع امرأة لرجل لا تعرفه مقابل كيس طحين؟ ثم جاء زواج صديقته الصغيرة التي كان يلعب معها، ليُزيد من صدمته. فكان يرفض هذا الأمر ببراءة الطفولة، فيذهب إليها بعد زواجها، ويُصرّ عليها كي تلعب معه. ولكنه كان يُصاب بالخيبة عندما كانت ترفض اللعب بحجة أنها “كَبُرَت” فجأةً!
أما عندما كانت أمه تحثه على الانتقام والأخذ بالثأر، وتؤكد على ضرورة عدم التواصل مع أبناء العوائل التي لا يحبذونها، فلم يَكُن أوجالان الطفل يأبه بتلك “المحظورات والمحرّمات”، بل كان يخرقها مراراً وتكراراً. فأقام العلاقات مع أقرانه من أبناء وبنات العوائل التي كانت على خصام مع عائلته، وعمل دوماً على اللعب مع الفتيات حينما كان اللعب معهن عيباً ومحلّ نفور واستياء. وهذا ما شكّل تمرده الثاني على نطاق تقاليد القرية.
تميز أوجالان بتفوقه على أقرانه في كافة المراحل الدراسية حتى حين تخرُّجه. وكان الجميع يعوِّل عليه أن يكون موظفاً متميزاً في جهاز الدولة. لكنه اختار المدرسة الثورية، ليتمرد ثالثاً على قوانين المجتمع والدولة، وليصوغ مساره الخاص به. فكان موضوع المرأة محوراً أساسياً لديه منذ بدء نضاله الثوري. إذ كان في بداية هذه الفترة يبحث عن المرأة التي يجرؤ على عشقها والاقتراب منها وفق معاييره الخاصة المختلفة تماماً عن معايير أقرانه من الشباب. وقد قال أوجالان لاحقاً واصفاً تلك الفترة من حياته: “لم أكن قادراً على الدنوّ من المرأة في ظل ظروف الحداثة الرأسمالية. فقد كنت أجهل عالَمها وأَتجنّبُها. لم تكن لديّ سوى عواطفي الأفلاطونية التي ما كان لي أن أبوح بها لأحد”.
أوجالان زوجاً: تمرد على الزواج التقليدي
تزوج أوجالان في صيف عام 1978 من “كسيرة يلدرم” التي كانت تنتمي إلى عائلة كردية من مدينة ديرسم وتعمل لدى الدولة التركية. يَصف أوجالان زواجه هذا بـ”الغريب والمثير” نظراً للصراع الذهني العتيد الذي خاضه معها. إذ كان يتطلع إلى أن تشارك بفعالية وإيجابية في المجموعة الفكرية التي أسسها كخطوة أولى قبل الإعلان عن تأسيس PKK. لكنها كانت تفكر في اتجاه مختلف تماماً، حيث كانت تعمل على تفتيت التنظيم والقضاء عليه بزرع الفتنة بين أعضائه.
يقول أوجالان في هذا الشأن: “من الأصح النظر إلى هذا الزواج على أنه صراع ذهني وسياسي وعاطفي عتيد. ففي حال كانت “كسيرة” اشتراكيةً حقاً (في ميولها) كان بها. أما إذا برز احتمال كونها مكلَّفة من الدولة، فسيكون موضوعُ “مَن سيستفيد مِن مَن؟” مسألةَ ذكاء ودهاء. كنت أثق بذاتي. فحتى لو كانت مندسة من طرف الدولة، فبالإمكان خوض صراع مع الدولة عبرها، لتَصل الأطراف المعنية إلى التوافق وربما السلام، وليس إلى الحرب. أما الابتعاد عنها أو إبعادها من المجموعة الفكرية، فكان طريقاً سهلاً لن يعني في النهاية سوى القبول بالفشل والهزيمة”.
كانت عائلة “كسيرة” قد انحازت إلى صفوف الكماليين أثناء تمرد ديرسم. فاكتسبت بذلك تجربة الديمقراطية الاجتماعية. لذا، اعتَبَر أوجالان ذلك فرصة سانحة في أن تصبح -ربما- جسراً للوصول إلى السلام والوفاق مع الدولة. لكنه أدرك لاحقاً أن تلك “الديمقراطية الاجتماعية” كانت مجرد قناع زائف. فلم يستطع التوافق أو الاتفاق مع تلك الذهنية التي مثَّلَتها “كسيرة”، وظلا على صراع دائم طيلة عشرة أعوام من الزواج.
يَصف أوجلان فترة زواجه تلك بالقول: “ربما كانت هذه العلاقة من أحرج مراحل حياتي. حيث استَهلَكَت مني طاقة تفوق طاقة الإنسان العادي بأضعاف مضاعفة. ولكن، يبدو أن هذا الصراع الذهني الذي خضته معها، هو الذي أدى إلى تشكيل نموذج المرأة الكردية الحرة. أي أنه كان صراعاً في سبيل تكريس الروح الوطنية والحرية والعشق بمظاهرها الحقيقية والأصيلة”.
كما يقول: “لقد وقعتُ في عالمٍ أحصد فيه ما زرعَته يداي. فما كان لي أن أخمّن أو أعلم بوجود هوية نسائية من هذا النوع. ولا أعتقد أن الصبر الذي أبديته طوال السنوات العشر التي قضيتها معها، أي حتى اللحظة التي انفصلَت فيها عن الحركة بمحض إرادتها في خريف عام 1987، قد جُرِّبَ بين أي شخصين آخرين. لقد كانت تجربة مذهلة حقاً! ويجب اعتبار النفاذ بسلامة من هذه العلاقة بمثابةِ معجزة. حيث كانت المشقة تكمن في حفاظي على شخصيتي تجاه المتغيرات التي تَقلب وضع المرأة رأساً على عقب في ثقافة الشرق الأوسط. فما كان للشجار أو الطلاق أن يكونا حلاً. لذا، كان يتحتم عليّ تحليل هذه العلاقة أيديولوجياً وسياسياً. إذ لا يمكن صياغة حل أيديولوجي وسياسي حقيقي شامل، ما لم تُصَغ التحليلات بشأن المرأة. وما كان لي أن أقوم بذلك إلا اعتباراً من سنة 1987”.
أوجالان ثورياً: فلسفة حرية المرأة
وهكذا، بدأ “القائد” أوجالان بتناول قضية المرأة، وبتحليلها من جميع النواحي، وبإضفاء المعاني الجديدة عليها ورسم مسار شامل وجذري على درب حريتها. كان ذلك أيضاً تمرداً ثورياً جذرياً على الوضع المنحط الذي أُقحِمَت فيه المرأة (وبالتالي الطفل والعائلة والمجتمع) تحت اسم العادات والتقاليد والشرف.
قد لا يكون أوجالان أول قائد ثوري يتناول قضية المرأة. فأغلب القادة الثوريين تناولوا هذه القضية، وصاغوا عدة تحليلات بشأنها. لكن ترجمتها على أرض الواقع بقيت ضعيفة وسطحية ومحدودة لديهم، مما لم يؤدِّ إلى حل هذه القضية جذرياً، ولا إلى تجاوز عبودية المرأة كلياً. بل وغالباً ما رجعت المرأة إلى ما كانت عليه -وربما إلى أسوأ- في فترات ما بعد الثورة.
أما بالنسبة إلى PKK، الذي انطلق من حقيقة وواقع الشعب الكردي باعتباره أضعف حلقة في منطقة الشرق الأوسط، فقد اعتمد في نضاله التحرري الوطني على أضعف حلقة لدى الشعب الكردي، ألا وهي حقيقة وواقع المرأة الكردية. حيث ركّز عبد الله أوجالان على إشراكها منذ البداية وبفعالية في الصراع الطبقي والقومي والتحرري، وأَولاها أهمية قصوى، وأحاطها بدور محوري. فمثلما أن الثورة تقتضي خوض النضال في سبيل بناء وطن حر وشعب حر وهوية قومية حرة، فإن الإطار النظري والعملي لهذا الأمر قد تحوَّل لدى أوجالان إلى صراع عتيد من أجل بناء نموذج المرأة الحرة، وإلى نضال حثيث لأجل الوصول بها إلى هويتها الحرة وجوهرها الأصيل.
وهكذا التَفَّ النضال التحرري الوطني الكردستاني حول حرية المرأة، وانطلق منها في توسيع آفاقه وتطوير ذاته. فكلما زاد انخراط المرأة الكردية في صفوف PKK، كلما عمل أوجالان على تحليل نشاطاتها ومَدِّها بالتوجيهات والإرشادات اللازمة لحثّها على المشاركة بفعالية أكبر، من خلال تشخيص النواقص ونقاط الضعف الظاهرة، والعمل على تلافيها وتحقيق الانطلاقات المتتالية للوصول بها من نجاح إلى آخر ومن نصر إلى آخر. فقد كان جذب المرأة إلى صفوف النضال التحرري الوطني، وتحويلها إلى قوة قائمة بذاتها ومتسمة بإرادتها الحرة مبدأً ثابتاً ومحورياً لدى أوجالان انطلاقاً من قناعته بأن “كسب المرأة يعني كسب الثورة وإنجازها وإنجاحها”.
تحليل عام لتمردات أوجالان:
تناوَلَ أوجالان وضع المرأة في الأسرة، ووَجَّه الانتقادات الشاملة إلى مؤسسة العائلة باعتبارها الخلية النواة التي تعتمد عليها الدولة، وركّز على ضرورة تمكين التحول الديمقراطي وإنشاء عائلة عصرية تسودها الحياة النّدّيّة التشاركية الحرة، وأن تكون المرأة شريكة حقيقية وذات إرادة حرة ضمن هذه العائلة، وليس مجرد “عاملة منزلية مجانية” أو “مُربّية الأولاد” أو “زوجة طائعة لا حول لها ولا قوة”.
لقد كان تحطيم القوالب التقليدية في المجتمع، ونسف الأسوار الإقطاعية التي تخنق المرأة ضمن المجتمع مبدأً أساسياً لدى أوجالان، بحيث حوّله ذلك –طبيعياً- إلى قائد حقيقي على درب حرية المرأة، وخاصة بالنسبة إلى المرأة الكردية. هذا ولم يَقتصر الأمر في هذا الشأن على المستوى النظري فحسب، بل وتمت ترجمته عملياً أيضاً، مما أدى إلى رصف أرضية “ثورة المرأة” ضمن إطار “ثورة المجتمع” العامة. وربما هذا ما أسفر عن التفاف المرأة حول هذه الفلسفة والحركة منذ بداياتها، ليقين المرأة بحدسها العاطفي وذكائها الطبيعي الأصيل، أن في هذه الفلسفة تكمن حريتها، وأنها سوف تَجِدُ فيها الأجوبة الصحيحة عن تساؤلاتها التاريخية الشائكة بشأن حقوقها المسلوبة وإرادتها المغتَصَبة.
أما عن موقف أوجالان تجاه الزواج، فكان يجسد مقاومة ضد المقاربات الرجعية السائدة بشأن المرأة، ورفضاً للنموذج التقليدي للمرأة أو للعيش مع المرأة بحالتها السائدة. إذ كان أوجالان يعلم أن الدراسة الجامعية لوحدها لا تكفي لتحطيم جدران العبودية، بل وقد تُزيد من غرق المرأة (والرجل) في مستنقع العبودية، نظراً لغياب الرؤية التحررية السليمة بالأصل في جميع مدارس الأنظمة القائمة. لذا، فقد تَرَفّع أوجالان عن الشجار التقليدي مع “كسيرة”، وأبى اللجوء إلى “الطلاق” كحل رخيص عادةً ما يلجأ إليه أي رجل في حسم مشاكله اليومية دون التفكير بما يتمخض ذلك عن مشاكل على صعيد المرأة. بل آثَر أوجالان الصراع الذهني معها، وركّزَ على تحليل هذه العلاقة بجرأةٍ افتقَرَ إليها جميع القادة الثوريين المعروفين.
التاريخ موجود في اللحظة والمجتمع يتجسد في الشخص:
لم يتناول أوجالان شخصية “كسيرة” بنحو شخصي. بل عالجها باعتبارها فرداً ينتمي إلى شريحة من المجتمع، وحللها ضمن تكاملها التاريخي والمجتمعي انطلاقاً من مقولته الشهيرة “نحلل التاريخ متجسداً في اللحظة الراهنة، ونحلل المجتمع متجسداً في الشخصية الحاضرة”. وهكذا تَمكَّن من التعمق في التحليل الطبقي عبر تحليل الأحداث والأشخاص، وحوَّل هذا التحليل إلى إرشادات ثورية عامة تهدف إلى بناء المجتمع الجديد والشخصية الثورية المعاصرة. وبهذا الأسلوب النادر والشامل استطاع أوجالان تعزيز أواصر المرأة مع الفكر الاشتراكي الحقيقي والنضال القومي العام انطلاقاً من قناعته بأنه “إذا كان علينا أن نخطو خطوة على طريق التحرر الوطني، فإن الخطوة الثانية يجب أن تَكون باتجاه تمكين حرية المرأة بالضرورة”.
وفي هذا الأمر يقول أوجالان: “لقد كانت المشكلة الأساسية التي تواجهني مشكلةً فلسفية إلى أبعد حد. فالقضية تتعلق بالعلاقة بين الهوية والحرية. فهل كان بالإمكان عيش الهوية من دون حرية؟ وهل كانت الحرية الفردية ممكنة من دون هويةٍ مجتمعية حرة؟. من الصعب الرد بالإيجاب على ذلك. بالتالي، فلا بد من إضفاء المعنى على العلاقة بين الإرادة الحرة والحرية الحقيقية”. ولعل هذا من أهم ما أكّد عليه أوجالان من حيث أن الحرية الفردية تبقى ناقصة وشكلية، في حال لم تُحَصَّن بالحرية المجتمعية الحقيقية.
وأخيراً، لعل من أجمل ما قاله أوجالان حول الشعور الذي انتابه تجاه المرأة عندما كان طالباً جامعياً، يتلخص في عبارته: “كنتُ منتبهاً للجمال الحقيقي الكامن في المرأة. ويخطرني أنني كلما رأيتُ فتاة كردية كنتُ أقول بيني وبين نفسي: أنتِ خليقة بأن أخوض حرب الاستقلال من أجلكِ ومن أجل نَسَبكِ وقومكِ وشعبك”.