“فرناندو بيسوا” وأنداده القرّاء
لماذا نحب كتابات هذا الشاعر؟ ولماذا تتوالي ترجمات نصوصه ويومياته وحتى رسائله إلى كل لغات العالم حتى اليوم؟ الإجابة يعلمها كل من استغرق في قراءة هذا الشاعر الفذ.
تفرد بيسوا بميزة لا تتكرر في عالم الإبداع الرحب، وهي خلقه لشعراء أنداد وصل عددهم إلى نحو ثمانين ندًا على الأقل، كتب ونشر بأسمائهم نصوصًا شديدة التفرد، ولكن يظل الأكثر شهرة من بينهم هم، ألبرتو كاييرو، ريكاردو ري، ألبارو دي كامبوس، إلى جانب بيسوا نفسه، والأكثر إدهاشًا أن بيسوا قدمهم باعتبارهم لا يملكون فقط أنساقًا وإيقاعات ورؤي مغايرة في نصوصهم، بل يملكون حيوات كاملة ومستقله عنه، فالندّ من وجهة نظر بيسوا ” ليس خدعة ممتدة خفيفة الظل، وإنما كتبدٍّ آخر لتعدِّده الشخصيّ ” وبمعنى آخر فإن الند ليس شكلا من أشكال الكتابة بأسماء مستعارة، وإنما هي خلق كامل متخيل، درجة أن يصف أكتافيو باث أحد أنداد بيسوا “ألبرتو كاييرو” بأنه نقيض بيسوا، هو اللا بيسوا ،يقول أوكتافيو باث ” كاييرو هو الشمس وحولها يدور رييس وكامبوس وبيسوا نفسه، جميعهم ينطوون على ذرات النفي واللاواقعية، رييس يؤمن بالشكل، كامبوس بالإحساس، بيسوا بالرموز، أما كاييرو فلا يؤمن بشيء، إنه موجود فحسب”.
ولكن تفرد بيسوا بخلق أنداده لم يكن أبدًا سبب هذا التعلق المتزايد به، الأكثر إثارة هي نصوصه شديدة الإدهاش والتي تترك وقعًا وأثرًا عجيبًا يشبه التماهي لدي قرائه ومحبيه، لا يمكنك أن تشعر لدي قراءة بيسوا إلا بأن هذه النصوص تداعب ذاتك أنت، تفسر لك رؤاك المبهمة عن العالم، أو تدفعك إلى فهم آخر، ثم تسقطك من أعلى مكان يمكنك بلوغه، لترتد إلى صدمة وجودك في هذا الشاسع والمتسع، لتتساءل: أين أكون؟ ولماذا أنتمي إلى هاهنا؟! وما جدوى علاقتي بكل هذا الأشياء التي تدور من حوالي؟
ثم.. لماذا تضغط عليّ الأشياء، مطلق الأشياء لتصنع آخر مثلي، لا يمت لي بصلة، ولكنه أنا أيضًا بصورة أخرى.
نصوص بيسوا وعبقرية أنداده تشحذ أحاسيسك المناقضة لكل الأشياء، الواقع هو واقع لأننا نرغب في أن نراه واقعًا، والميتافيزيقي هو خلاصة الواقع بصورة مدهشة، لا وجود للميتافيزيقيا لدى هذا الشاعر الحسيّ، وحين توجد، توجد لأجل أن نعاود تشكيلها كمادة مجردة. وذاتك أنت أيها القارئ النّهم لعوالم بيسوا، ذاتك التي تقتصر ــ كما تعتقد ــ على فعل القراءة فحسب، تتشظي هنا وهناك، تمضي في طرق لم يسبق لها المضي فيها، أو تصعد دَرَج متخيل، لتصل دائمًا إلى مكان لا تعرفه. ولكنه مألوف بصورة أو بأخرى. في هذه اللحظات ينتابك هذا الشعور الغريب بأنك ندّ آخر لهذا الشاعر، في هذه اللحظات الفارقة يتشيد الندّ القارئ، عبر تفاعلاته واستنطاقاته الذاتية للنصوص، يقول بيسوا في يومياته “إنّ القراءة هي شكل مُستَرَق من أشكال الحُلُم”
كل قراء بيسوا وأنداده هم قرّاء أنداد، تخلقهم النصوص فيصيبهم رعب المراوحة بين ذواتهم الحقيقية وذواتهم القارئة، لتتشيد في المخيلة عوالم أخرى عجيبة، تخلّقت من هذا المزج غير المحدد لعوالم النصوص مع الواعي القارئ لكل ذات قارئة على حدة. لم يكتف بيسوا بخلق أنداد شعراء، بل ترك مسارًا مضيئًا ومثيرًا في الوقت نفسه لخلق أنداد قرّاء، وكما تخلق القراءة “القارئ النّد”، فطبيعة الحال، فإن الترجمة تخلق “المترجم النّد”، يقول المهدي أخريف الشاعر والمترجم المغربي، الذي يعد أهم من ترجم نصوص بيسوا، “أحيانًا أحس كأنني أنا الذي أكتب حينما أترجم بيسوا… وأنا الآن في هذا الموقع أشبه أحد أنداده”
“أنا شخصية رواية ما زال ينبغي أن تُكتب” هكذا قال بيسوا، وكأنه يستشرف تمدد الوله به وبأنداده، درجة قيام الروائي البرتغالي الأشهر والحائز على جائزة نوبل للأدب جوزيه ساراماجو بكتابة رواية “سنة موت ريكارود ريس” عن ريكاردو ريس أحد أنداد بيسوا، وفيها يمارس ساراماجو الحلول بشخصه كندّ لبيسوا نفسه بعد موت ريكاردو ريس.
بيسوا وانداده، عالم من الدهشة التي تمضي كرمال متحركة تخز وجودك ببطء، وتدفعك إلى استشراف عوالم أخرى من “اللا طمأنينية” والمفارقة بين الوجود واللاوجود:
” أستعمل نظارة عين واحدة حتى أبدو شبيهًا بالفكرة الواقعية التي أكونها عن ذاتي
وأمضي ثلاث ساعات كاملة في ارتداء ثيابي وحدها دون أن أجد ذلك طبيعيًا
بل أجده ميتافيزيقيًا تمامًا
وإذا أحدهم طرق بابي أغضب
لا لأنه يفسد عليّ ربطة العنق
بل لأنه يذكرني بأن الحياة مستمرة..”
“بيسوا” يظل دائما خارج العالم وفوقه وحوله، لا يحاول التورط في تناقضه المنطقي، ولا منطقه المعاش، ولكنه وفي الوقت ذاته مطمور في وحله، أن تكون هنا، ولا تكون فعلا: يقول ريكاردو ريس:
“عاقل هو من يكتفي بالفرجة على العالم”