فرصة حياة جديدة لـ”داعش”.. بريت ماكغورك
في 17 كانون الأول/ديسمبر، أجرى وزير الخارجية مايك بومبيو مكالمة مهمة معي ومع عدد قليل من كبار المسؤولين في وزارة الخارجية. لقد تلقيت مكالمة من سفارة الولايات المتحدة في العراق، حيث سافرت كثيرًا للمساعدة في إدارة القتال الأمريكي ضد “داعش”، وكنت هناك لأفكر في خطط مع الحكومة العراقية الجديدة لضمان استمرار مكاسبنا في تلك المعركة. لقد قطعنا مسافة طويلة خلال أربع سنوات فقط، فقبل ذلك الحين كان “داعش” على أبواب بغداد، أما اليوم وفقا للأمم المتحدة، فإن العراق أكثر أمنا من أي وقت مضى منذ أن بدأت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق في العمل منذ ستة أعوام.
لقد تحققت هذه المكاسب بشق الأنفس من خلال تكريس شركاء أمريكا في القتال على الأرض -قوات الأمن العراقية والبشمركة الكردية ومقاتلي المعارضة السورية وقوات سوريا- الذين دفعوا جميعهم ثمناً باهظاً بالدماء.
كان مفتاح هذه المكاسب هو الوجود العسكري الأمريكي الصغير والفعال في سوريا. بدأت هذه المهمة في عام 2015 وساعدت على دحر قدرة تنظيم “داعش” على التخطيط وشن هجمات من سوريا أو العودة مرة أخرى إلى العراق. كان هذا الوجود مستدام بدون التزام زائد من موارد الولايات المتحدة أو الأمريكيين الذين يشاركون بشكل مباشر في القتال اليومي. كانت مهمة الوجود الأمريكي هو تمكين قوة محلية، هي قوات سوريا الديمقراطية، التي أصبحت الآن مجموعة متنوعة تضم ما يقرب من 60 ألف مقاتل بما في ذلك العرب والأكراد والسريان، من استعادة المدن والبلدات السورية من سيطرة “داعش”. تكبدت قوات سوريا الديمقراطية آلاف الضحايا. حتى الأسبوع الماضي، توفي أمريكيان في القتال في سوريا. (قتل أربعة يوم الأربعاء في تفجير انتحاري زعمت الدولة الإسلامية -وهو الأول من نوعه ضد قواتنا في سوريا- تزامنا مع حالة عدم اليقين في واشنطن حول المهمة).
خلال مكالمة ديسمبر، أخبرنا “بومبيو” أنه كان هناك تغيير مفاجئ في الخطط: قرر الرئيس ترامب، بعد محادثة هاتفية مع نظيره التركي، إعلان النصر على “داعش” وتوجيه قواتنا للانسحاب من سوريا.
عدت إلى واشنطن على الفور للمساعدة في التخفيف من الآثار المترتبة على هذا القرار، خاصة بين شركائنا في الائتلاف، وكلنا أكدنا للتو -بناء على تعليمات من البيت الأبيض- أننا لا نعتزم مغادرة سوريا في أي وقت قريب: مستشار الأمن القومي جون بولتون أعلن أننا سنبقى في سوريا “طالما استمر الخطر الإيراني في جميع أنحاء الشرق الأوسط”. وقد اجتمع وزير الدفاع جيم ماتيس مع شركاء الائتلاف لتأكيد تلك الالتزامات حتى عام 2020.
نظراءنا في عواصم الائتلاف كانوا مذهولين. شاركنا شركاء القتال في قوات سوريا الديمقراطية، الذين كنت قد زرتهم بشكل منتظم على الأرض في سوريا، أعربوا عن صدمتهم ومن ثم رفضهم، آملين أن يغير “ترامب” رأيه. كما أصروا على مواصلة قتالهم ضد “داعش” وكانوا يتقدمون في ذلك الوقت على معاقل الإرهابيين في شرق سوريا. وسرعان ما استنتجت أنني لن أتمكن من تنفيذ هذه التعليمات الجديدة بفعالية، وفي 22 ديسمبر، قدمت استقالتي.
تم اتخاذ قرار الرئيس بمغادرة سوريا دون مداولات أو مشاورات مع الحلفاء أو الكونغرس، أو تقييم المخاطر، أو تقدير الحقائق. بعد يومين من دعوة “بومبيو”، قال “ترامب”: “لقد هزمنا داعش في سوريا”. لكن هذا لم يكن صحيحاً، واستمرينا في شن غارات جوية ضد “داعش”. بعد أيام، ادعى أن المملكة العربية السعودية قد “وافقت الآن على إنفاق الأموال اللازمة للمساعدة في إعادة إعمار سوريا”، لكن هذا لم يكن صحيحاً، وهو ما أكد السعوديون لاحقاً. واقترح “ترامب” أيضا أن القوات العسكرية الأمريكية يمكن أن تغادر سوريا في غضون 30 يوما، وهو أمر مستحيل من الناحية اللوجستية.
الأسوأ من ذلك أن “ترامب” اتخذ هذا القرار المفاجئ بعد مكالمة هاتفية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وصدق اقتراح “أردوغان” بأن تقوم تركيا بمكافحة “داعش” في عمق سوريا. في الحقيقة، لا تستطيع تركيا أن تعمل على بعد مئات الأميال من حدودها في أرض معادية بدون دعم عسكري أمريكي كبير. والعديد من جماعات المعارضة السورية المدعومة من تركيا تشمل المتطرفين الذين أعلنوا صراحة نيتهم في محاربة الأكراد، وليس “داعش”.
أحدث اقتراح لـ”ترامب”، الذي صدر عن طريق “تويتر”، هو اقتراح بشأن منطقة آمنة 20 ميلاً -والتي يقول أردوغان إن تركيا ستنشئها- ويبدو أنه اقتراح جرى بدون أي إدراك أو تحليل. هذه المنطقة تشمل جميع المناطق الكردية في شرق سوريا. لا توجد قوة جاهزة لتولي المسؤولية، ولا وقت لبناء واحدة، بينما تستعد القوات الأمريكية للمغادرة. ومن المرجح أن يؤدي دخول قوات المعارضة المدعومة من تركيا إلى تهجير الآلاف من الأكراد، فضلاً عن تهديد المجتمعات المسيحية الضعيفة التي تتخللها هذه المناطق.
النتائج الاستراتيجية لقرار “ترامب” بدأت بالفعل: كلما زادت تركيا من توسعها في سوريا، كلما سارع شركاؤنا العرب في المنطقة نحو “دمشق”. ليس من قبيل المصادفة أن البحرين والإمارات العربية المتحدة أعادوا فتح السفارات هناك بعد وقت قصير من تصريح “ترامب” بأننا سنغادر. وتعتقد هذه الدول، بالإضافة إلى المملكة العربية السعودية ومصر والأردن، أن إشراك “دمشق” يمكن أن يساعد في تخفيف التأثير الروسي والإيراني والتركي في سوريا، وهم يعبرون عن وجهات نظر مخالفة من “واشنطن”. وقد سارعت قوات سوريا الديمقراطية، التي تدرك أنها قد تكون في وقت قريب محاطة بقوات معادية، إلى تسريع محادثاتها مع نظام بشار الأسد. تحولت تركيا، وهي حليف للناتو، إلى روسيا في غضون أيام من قرار “ترامب”، وأرسلت مسؤولين كبار إلى موسكو للتوصل إلى الخطوات التالية في سوريا. واجهت إسرائيل، حليفنا الأقرب في المنطقة، واقعاً جديداً مع أمريكا التي غابت عما قريب عن الميدان في سوريا. فقط روسيا وإيران أشادتا بقرار “ترامب”. ومهما كانت العقوبات المالية التي قد نتعامل بها مع هذين الخصمين في سوريا، فقد تقلصت حالما قال “ترامب” إننا سنغادر.
سوف تتفاقم هذه الاتجاهات إذا لم يقم الرئيس بتغيير مساره: سيتوقف شركاؤنا عن الاستماع واتخاذ القرارات التي تتعارض مع مصالحنا. سوف يلعب خصومنا لوقت طويل، مع العلم أن الولايات المتحدة في طريقها للخروج. سيقوم “داعش” وغيره من الجماعات المتطرفة بملء الفراغ الذي سيحدثه رحيلنا، مما سيعيد تجديد قدرتهم على تهديد أصدقائنا في أوروبا -كما فعلوا طوال عام 2016- وفي النهاية وطننا.
من الناحية المثالية، سيوقف “ترامب” أي انسحاب حتى يحصل على تقييم دقيق للمخاطر، ووضع “داعش” وجدوى الاعتماد على تركيا أو أي شخص آخر يحل محلنا. أن نطلب من البنتاغون أن يصمم وينفذ خطة انسحاب في غياب مثل هذا التقييم ليس إلا حماقة. لا يكفي للمسؤولين الكبار العودة أو وضع شروط على القرار، بل يجب أن يأتي هذا بقرار من الرئيس.
في غياب هذا الحل الأكثر حكمةً ولكنه غير محتمل، سيحاول المسؤولون الأمريكيون اقتراح أن هذا القرار ليس مهمًا. في الأسابيع الأخيرة، جادلوا بأن جميع أهدافنا في سوريا -بما في ذلك طرد إيران والتغيير السياسي في دمشق- لا يزال من الممكن الوفاء بها، على الرغم من أن “ترامب” يقول إن سوريا تستحق “الرمل” و”الموت” وأن القادة الإيرانيين ” يمكن أن يفعلوا ما يريدون” هناك. هذا الانفصال بين الأهداف الطموحة التي ذكرها كبار المسئولين الأمريكيين ورؤى “ترامب” الخاصة على العكس من ذلك، هو مزيد من التقويض بحق المصداقية الأمريكية.
يجب أن تكون سياستنا تجاه سوريا الأكثر واقعية مسؤولة عن الحقائق الصعبة التالية:
أولا، نحن نغادر. قد يكون في غضون ستة أشهر أو أربعة أشهر أو أقل، ولكن أوضح “ترامب” مرارا وتكرارا أنه يريد الخروج. كلما قاومت هذه الحقيقة أو وصفتها بأنها اختلاف في التكتيكات، مع عدم تغيير استراتيجيتنا، كلما ازدادت مخاطر الخروج المحرج والهجمات ضد القوات الأمريكية والتخلي بشكل جماعي عن قوات سوريا الديمقراطية بدون تخطيط واقعي لما بعد ذلك. يجب أن يكون التركيز الآن على حماية قواتنا العسكرية والخروج بأمان؛ وأن نطلب من قوتنا الصغيرة أن تفعل أكثر من ذلك سيزيد من المخاطر أثناء انسحابنا.
ثانياً، “الأسد” سيبقى. يتم تضمين هذه الحقيقة الآن في تفكير شركاءنا الإقليميين، بما في ذلك المملكة العربية السعودية وإسرائيل، اللذان يبدوان متشددين تجاه إيران مثل أي شخص في “واشنطن”، لكننا نفهم أنه بدوننا، فإن أي فرصة لتقليص نفوذ هذا الديكتاتور الذي يقتل شعبه، مدعومًا من قبل إيران وروسيا، هو حلم واهٍ.
ثالثًا، توفر قوات سوريا الديمقراطية الاستقرار في المناطق التي كانت في يوم من الأيام تتكون من تنظيم “داعش” في شمال شرق سوريا، ولا يمكن استبدال تلك القوات. ومع مغادرة أمريكا، فإنها ستحتاج إلى راعٍ جديد، وإلا ستتعرض لخطر التمزق وفتح فراغ يمكن لـ”داعش” أن يستغله. للحفاظ على الاستقرار، قد لا يكون أمام قوات سوريا الديمقراطية أي خيار سوى الوصول إلى نقاط تفاهم مع “دمشق” تحت مظلة الدولة السورية. قد تكون هذه النتيجة المؤسفة ضرورية لتجنب كارثة استراتيجية وإنسانية.
رابعا، فيما يتعلق بسوريا، فإن تركيا ليست شريكا موثوقا به. إن قوى المعارضة السورية التي تدعمها تدعمها المتطرفين وعددها أقل من أن تشكل تحدياً فعالاً لـ”الأسد” أو بديلاً معقولاً لقوات سوريا الديمقراطية. إن المناطق التي تسيطر عليها تركيا ظاهريا، مثل محافظة إدلب في الشمال الغربي، تهيمن عليها القاعدة بشكل متزايد. تستطيع الولايات المتحدة مساعدة تركيا على حماية حدودها، لكن دخول الجيش التركي ومقاتلي المعارضة المدعومين من تركيا إلى مناطق تابعة لقوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا -كما هو مطروح الآن- سيعجلان الفوضى والبيئة التي يمكن أن يزدهر فيها المتطرفون.
لذلك، يجب تضييق أهداف الولايات المتحدة في سوريا لتخفيف خطر عودة ظهور “داعش” ومنع إيران من تقوية الوجود العسكري الذي يهدد إسرائيل. من الأفضل تحقيق الهدف الأول من خلال ضمان بقاء قوات سوريا الديمقراطية سليمة، وضمان الوصول المستمر إلى المجال الجوي من خلال تجنب الاحتكاك مع روسيا؛ ويمكن تحقيق هذا الأمر الأخير من خلال دعم إسرائيل فيما اعترفت به مؤخرًا بأنها حملة جوية دقيقة ضد التهديدات الإيرانية في سوريا.
هذه الأهداف الضيقة ستكون غير مرضية لأولئك الذين لديهم آمال أكبر بشأن سوريا، لكن هذه الآمال ماتت. مع مرور الوقت على الرحيل الأمريكي، يجب أن ننقذ ما نستطيع لحماية المصالح الأمريكية الأكثر أهمية، وحتى تحقيق هذا قد يكون هذا أمرًا طويلًا.
المفارقة هي أن هزيمة “داعش” هي ما قال الرئيس من البداية إنه هدفه، ففي عام 2016، تعهد بـ”إنزال الجحيم بداعش”. خياراته الأخيرة، للأسف، تعطي “داعش” بالفعل -وخصوم أمريكيين آخرين- حياة جديدة.
—–
*بريت ماكغورك: المبعوث الرئاسي الأمريكي السابق للتحالف الدولي لمواجهة “داعش”. عمل بشكل وثيق مع قوات سوريا الديمقراطية وقوات التحالف الدولي لتنسيق العمليات العسكرية ضد تنظيم “داعش” الإرهابي، واستقال من منصبه بسبب قرار “ترامب” الأخير بمغادرة القوات الأمريكية سوريا.