فراج فتح الله يكتب.. بيت الزعيم
لعقود طويلة كنا نحتفل بذكري ميلاد الزعيم جمال عبد الناصر سرا، وكذلك باقي المناسبات الوطنية التي يكون عبد الناصر طرفا فيها، أما هذا العام ـ والذي يوافق الذكرى المئوية للزعيم الراحل في 15 يناير ـ فالاحتفال مختلف وأتمني أن يليق بالرجل.
قد نختلف أو نتفق مع التجربة الناصرية، لكننا بالتأكيد لا ننكر ضرورة التعرف علي، ودراسة، هذه الفترة المحورية من عمر البلد.
فالاحتفال يكون بغرض كشف جوانب جديدة في حياة الزعيم، أو إبراز سلبيات وإيجابيات أغلب الأحداث السياسة في فترة حكمه، وما قبلها، وإجمالا يكون الاحتفال باختصار حصة لدراسة التاريخ نقلب فيها العديد من الأوراق والكتب، ودعونا نضيف هذه المرة زيارة لبيت الزعيم، في مسقط رأسه بأسيوط.
قرية بني مر ..
قرية “بني مر” بمركز الفتح، والتي تبعد عن مدينة أسيوط حوالي 10 كيلو مترات، مسقط رأس رئيس الزعيم جمال عبد الناصر، هذه القرية مثلها مثل أغلب قري مصر النائية، تعانى مجموعة من المشكلات المزمنة والمستعصية، من قلة الخدمات التعليمية والصحية والصرف الصحي، فهي لم تحظ بأي اهتمام طوال الـ 18 عاما الذي تولى فيها عبد الناصر نفسه الحكم، كما تجاهلها السادات ومبارك، وكانت مقولة عبد الناصر الشهيرة لأهل بلده وأقاربه “إذا قمت بإنشاء جميع قرى الجمهورية كقرى نموذجية، سوف تكون قرية بني مر آخرها لأن مصر كلها بلدي”.
وبعد مرور كل هذا الوقت لا يزال الوضع كما هو لم يتغير، لم تعد مفارقة أن بلد الزعيم ومسقط رأسه، وبلد الأهل والجدود لرئيس الدولة تعاني، وتظل محرومة من أبسط الحقوق، زرت القرية وتجولت في شوارعها غير الممهدة، ودخلت بيت جمال عبد الناصر، وصورت غرفه الداخلية، دون أن يوقفني أحد، وكانت مجموعة من المشاعر المختلطة والمتداخلة تموج بداخلي، وأحاول ترتيبها…
القرية:
يوجد بها بيت جد الزعيم جمال، لم يقم بالقرية لكنه ظل منتميا لها، فهي بلد الجد والأعمام، وبعضهم ما زال يقم بها حتى الآن.
“بني مر” حيث اجتمع عبد الناصر أكثر من مره بمجلس قيادة الثورة، وكانوا يجلسون على “مسطبة” طينية ببيت الجد، لأن البيت مبني بالطين والطوب اللبن، وسقفه من الجريد والعروق الخشبية، في الفترة التي كان في معسكر منقباد “المنطقة العسكرية الجنوبية” والتي تشكلت فيها الخطوط الأولي للثورة.
وانتقل للخدمة في السودان، ثم رجع إلي منقباد، وزار القرية ثانية، وفي المرة الثالثة أتي لأسيوط وهو رئيس للجمهورية، وخطب في الجماهير في إستاد أسيوط الرياضي، وقال فيها جملته التي يرددها الناس هنا:
“إنني أنا جمال عبد الناصر حسين، وكلكم تعرفون عائلة الحاج حسين، إنني من عائلة فقيرة، وأعدكم أنني سوف أعيش وأموت فقيرا”، وكان يعلم بالظروف الصعبة التي تمر بها عائلته، لكنه كان دائما يقول لأهله “إنني لا أملك شيئا إلا مرتبي، وأقوم بصرفه عليّ وعلى أولادي”، وقد زار يومها القرية ليلا و بمفرده، بدون حراسة تذكر، وذهب لمقابر العائلة.
بعد وفاته حضر إلى منزل العائلة السادات وحسين الشافعي وبعض قيادات الثورة، وقاموا بأداء واجب العزاء، وقال السادات وقتها: “هذا بيت عبد الناصر والذي به طوبة حمراء وطوبة خضراء، كان عبد الناصر يملك أن يرفع هذا الطوب ويجعله طوبة من ذهب وطوبة من فضة، ولكن كانت مبادئ عبد الناصر أن يبقى كما هو حتى الموت”.
أما بالنسبة لأولاد عبد الناصر فقد حضر خالد وهو طالب إلى القرية، وحضر بعد ذلك في السبعينيات حيث كان يأتي لزيارة الأسرة في المناسبات، وآخر مره حضر فيها إلى “بني مر” عندما توفى عمه طه حسين، أما عبد الحميد والدكتورة هدى ومنى فلم يأتوا إلى بني مر.
عرفتُ من أهالي البلدة أن منزل جمال عبدالناصر مازال ملكا للورثة، ولا توجد سلطة من مجلس المدينة على المنزل، ولا توجد سلطة من المجلس المدينة على دخول المنزل أو القيام بأعمال تطوير به، نظرا لقدم إنشائه من الطوب اللبن.
البيت مكون من طابقين، الأول يحتوي بالإضافة للمدخل والمسطبة ما يمكن تسميته بالصالة، وسلما للصعود إلي الطابق العلوي، أسفله حمام بلدي، بجواره “كانون” لطهي الطعام، ويوجد في الدور الثاني أربع غرف للنوم بينهما مساحة غير مسقوفة، تتصل بالدور الأرضي وتعمل كمنور للبيت، ويوجد بجوار البيت مندرة متوسطة المساحة لاستقبال الضيوف، مهجورة الآن.
الحلم هناك
في الإسكندرية تحول الحلم إلي حقيقة، فقد تحول منزل والد جمال عبد الناصر إلى مركز ثقافي، تحديدا بمنطقة باكوس شرق الإسكندرية، المنزل يعود لوالده حسين عبد الناصر، وعاش الرئيس جمال عبد الناصر طفولته في هذا المنزل، بعد أن كان من المقرر أن يتحول هذا المنزل إلى متحف، ولكن لصغر حجمه فقد تم تحويله إلى مركز ثقافي، تقديرا و تكريما لزعيم ساهم في بناء مصر وحضارتها وثقافتها.
ويضم المركز مكتبة وقاعة ندوات وقاعة كمبيوتر من أجل تنظيم أنشطة ثقافية وخدمة أهالي المنطقة وتعظيم فعل القراءة، وأبرز الكتب الموجودة بالمكتبة، الكتب التي تتحدث عن عبدالناصر، ويضم أيضا تسجيلات جميع خطب جمال عبد الناصر، والمكتبة مقسمة إلى عدة أرفف منها “تاريخ مصر القديم” و”تاريخ مصر الإسلامي” و”تاريخ مصر الحديث” و”ثورة 23 يوليو”.
الحلم هناك أصبح حقيقة فهل يصبح كذلك هنا في “بنى مر”؟!
قصر ثقافة جمال عبد الناصر
ننتظر افتتاح قصر ثقافة جمال عبد الناصر التابع لفرع ثقافة أسيوط، أو بيت الزعيم كما أخبرنا حارس المكان بأنه جاري تبديل الاسم واكتمال التشطيبات النهائية للقصر، بعد اكتمال بناء البيت، ليقوم بالدور المنوط به من نشر الثقافة والفكر المستنير كما يبتغي، وأن يتولى إدارته من يعرف قيمة وقدر الزعيم، ودورة في تغيير الشعوب ثقافا وفكريا، كما في الإسكندرية، ومن داخل القصر أو بيت الزعيم تذكرت دوره الثقافي.
الزعيم و دور الثقافة
لم يكن جمال عبد الناصر مجرد رجل دولة، بل زعيما جعل للثقافة دورا محوريا في دولته، ولهذا عرفت مصر على يديه أول وزارة ثقافة، كانت عند إنشائها للمرة الأولى في 17 نوفمبر 1952، تجمع اختصاصات الثقافة والإعلام تحت اسم “وزارة الإرشاد القومي” وتولاها المفكر الكبير فتحي رضوان، وفي أكتوبر 1958 أصبح اسمها “وزارة الثقافة والإرشاد القومي”، وأسندت إلى د. ثروت عكاشة، ثم في سبتمبر 1966 استقلت الثقافة بوزارة خاصة بها تولاها د. ثروت عكاشة، بينما تولى محمد فائق وزارة الإرشاد القومي قبل أن تستقر على اسم وزارة الإعلام في نوفمبر 1970، وكان اهتمام جمال عبد الناصر بمشروع الألف كتاب، وحركة التأليف والترجمة والنشر، هكذا أخبرتنا الوثائق الرسمية.
كما حرص جمال عبد الناصر على توطيد الصلة مع الفن وأهله، وبعد أن أصبح رئيسا اقتنى آلة عرض سينمائي وحرص على متابعة الأعمال الفنية الجادة، وفي عام 1957 تم إنشاء مؤسسة دعم السينما، كما تم فتح باب القروض للسينمائيين مع ضمان الدولة لهم وتدعيم تصوير الأفلام التي تحتاج إلى إمكانات عسكرية وحربية، وبصدور قوانين يوليو الاشتراكية عام 1961 تحولت مؤسسة دعم السينما إلى مؤسسة ذات شركات، تسعى في مجملها إلى الإنتاج والتسويق محليا وخارجيا.
ودعوني أقر أن الخطاب السياسي كان أداة عبد الناصر الأساسية لاجتذاب الجماهير، وهي أداة ذات بعد ثقافي واضح، تجلى عبرها الجانب المثقف من عبد الناصر.
ثقافة عبد الناصر
الثقافة عنصر أصيل في تكوين عبد الناصر، حيث امتلك رؤية ثقافية وفكرية تجلت في سلوك جمال عبد الناصر الإنسان والقائد ورجل الدولة.
عرف جمال عبد الناصر دائما بأنه “أفضل قارئ”، فكان شغوفا بالمطالعة، ودارسا متميزا لديه قدرة خارقة علي القراءة، وكذلك القدرة علي الاستيعاب والتذكر بنفس المستوي، وذلك في المراحل المختلفة من حياته، وقد جاءت البدايات مع نشر أول كتاباته- مقالة بعنوان “فولتير، رجل الحرية”، وهو في سن السادسة عشرة من عمره، في مجلة مدرسة النهضة الثانوية، وكانت بذلك أولي كتابات الطالب جمال عبد الناصر.
ثم في عام 1934 بدأ الطالب جمال عبد الناصر بتأليف رواية “في سبيل الحرية”، والتي تتصدر صفحتها الأولى صورته، وتتناول في مضمونها المعركة الخالدة التي خاضها أهل رشيد بمصر عام 1807.
ولم تقتصر علاقة عبد الناصر بالثقافة علي الكتاب، مطبوعا ومخطوطا، ففي عام 1935 لعب الطالب جمال عبد الناصر دور “يوليوس قيصر” البطل في مسرحية شكسبير، التي قدمها ضمن برنامج الحفلة التمثيلية السنوية لمدرسة النهضة 1935، ورأي المدرس المشرف علي الفرقة التمثيلية وهو الأستاذ نجيب إبراهيم، أن يترك للطلبة اختيار الرواية اللائقة لتمثيلها في الحفلة، ومضي جمال يطالع تاريخ قادة الشعوب، وعند قصة قيصر توقف طويلا، كما قال د. خالد عزب، وصفاء خليفة، في كتابهما “بقلم جمال عبد الناصر”. حيث أكد د. خالد “لم يترك الطالب جمال عبد الناصر لمطالعاته الإنجليزية الفرصة لأن تؤثر علي عقيدته الوطنية وعلي ثقافته العربية، ظل هو مصريا صميما تراوده أحلام مصطفي كامل”.
ظل مواظبا على القراءة، شغوفا بها، وعندما التحق بالكلية الحربية، ومن لائحة الاستعارة، نعرف أنه قرأ سير الزعماء كثيرا، كما قرأ الكتب التي تعالج شؤون الشرق الأوسط والسودان، وكذلك قرأ عن الحرب العالمية الأولى، وتاريخ ثورة 1919.
جمال عبد الناصر وحرب 1948.
كان لحرب فلسطين 1948 كبير الأثر علي فكر جمال عبد الناصر وقلمه أيضا، مما دفعه لكتابة سلسلة من المقالات التي نشرتها مجلة آخر ساعة عام 1955 تحت عنوان: “يوميات الرئيس جمال عبد الناصر وحرب فلسطين”، فقد كانت لدى جمال عبد الناصر نزعة قوية للتدوين، وقد سجل بخط يده، حيث كتب يومياته عن حرب فلسطين تحت قصف المدافع مرتين في اليوم الواحد، يبدأ بالكتابة على الأوراق الرسمية التي يعتمد عليها في كتابة تقاريره لقياداته.
كانت جراح فلسطين غائرة في وجدان جمال عبد الناصر، على ما تكشف المذكرات المكتوبة بخط يده في الدفترين، وكان اعتقاده بأن حرب فلسطين لم تكُن حربا، فلا قوات تحتشد، ولا استعدادات في الأسلحة والذخائر، ولا خطط قتال، ولا استكشافات ولا معلومات.
وعن المذكرات قال عبد الناصر لمحمد حسنين يكل: “يمكنك أن تأخذ معك هذا الدفتر، وأن تقرأ فيه، وأن تكتشف بنفسك ما جال بخاطري تحت وهج النيران في حرب فلسطين، وما كتبته يوما بيوم في خنادق القتال على ضوء لمبة جاز”.
جمال عبد الناصر وفلسفة الثورة
لعل أشهر ما كتب عبد الناصر هو كتاب “فلسفة الثورة” والذي صدر عام 1953، ويعد بمثابة أول وثيقة تصدر عن ثورة يوليو 1952 ومفاهيمها، بعد نحو سنة من قيام ثورة يوليو، والكتاب عبارة عن خواطر، ولكنها ليست لشرح أهداف ثورة 23 يوليو وحوادثها، بل كتاب يحمل أفكار الرئيس جمال عبد الناصر، قام بتحريرها وصياغتها الأستاذ محمد حسنين هيكل، وصدر الكتاب عام 1953، مكونا من ثلاثة أجزاء.
وأخيرا
عبد الناصر ليس ملكا ولا نبيا، لكنه زعيم بمعني الكلمة، غير وجهة العالم، أو لنقل حاول بكل اجتهاد، لذا وحتي بعد مرور مائة عام علي ميلاده، ما زال يحظى بشعبية وتأييد لدي عدد خفير من الشعب المصري والشعوب العربية، ولذا أعتبره رمزا للكرامة والحرية العربية ضد استبداد الاستعمار وطغيان الاحتلال، حاولنا فقط تقليب بعض من أوراقه، تقديرا وعرفانا بدور الرجل.
غادرت البلدة، والتي تحوي بيت الزعيم المهجور، وبيت الثقافة ينتظر التشطيبات، ويافطة أول البلد تشير لبلد الزعيم، ويافطة في وسط البلد تشير لمكان بيت الزعيم، ومدرسة ثانوي ومركز للتأمين الصحي وكلاهما يحملان اسم الزعيم.