آراء

غربة الراعي : سيرة ذاتية لعالم فلسطيني مرموق اسمه احسان عباس

الصدفة فقط هي من دفعتني دفعا الى الاطلاع الاولي على سيرة ذاتية لناقد فلسطيني ومفكر من الطراز الاول ، اسمه احسان عباس وتدل سيرته المكتوبة بلغة عربية سليمة بسيطة على حب المفكر للناس وتضحيته من اجل اسعادهم فقد ذكر جميع مجايليه من الكتاب والمفكرين بتقدير كبير امثال جبرا ابراهيم جبرا و اميل حبيبي والاخرين ، هذه السيرة الذاتية لفلسطيني عاش ازمات المنطقة بقلبه وجوارحه وعقله اثرت تأثيرا كبيرا في الكاتب وصاغت شخصيته التي تميز بها الى ان حان وقت رحيله سنة 2003 بعد رحلة علمية تعليمية شاقة بكل من حيقا وصفد والقدس و القاهرة والخرطوم وبيروت حيث قضى اكثر من عقدين من الزمن في الجامعة الامريكية ، فقد عاش الكاتب مراحل من نضال قريته عين غزال و الشعب الفلسطيني عموما ضد الانجليز كما اكتوى بنار النكبة الفلسطينية سنة 1948 وذاق مرارة الحرمان من الارض والوطن وتجرع علقم التنقل بين الدول المجاورة بين القاهرة وعمان وبغداد وبيروت حيث قادته متطلبات العيش من جهة وحيث تشتت الاهل والعشيرة من جهة اخرى .

تتميز السيرة الذاتية لاحسان عباس بالبساطة والسلاسة ولكن اساسا بالعمق الانساني والتلقائية في التعبير والصدق الذي ينفجر من الكلمات المستعملة ، فهو الذي ” اجبر” على كتابة هذه السيرة من قبل اصدقائه ومعارفه ، لانه لا يرى في سيرته ما يستحق الذكر من احداث كبرى و تقلد مناصب عليا ، هنا مرة أخرى يظهر الكاتب تواضعه وزهده من الاضواء الكاشفة والشهرة الملعونة لديه كما يذكر في كتاب سيرته ، يقول الكاتب والناقد الفلسطيني احسان عباس في مقدمة سيرته : “فاتحني عدد غير قليل من الاصدقاء في ان اكتب سيرتي الذاتية ، فأخذ اقتراحهم يمثل هاجسا يدور في نفسي ، ويستثير ذاكرتي ، ولذا توجهت الى اخي بكر عباس اسأله رأيه في الامر ، فكان جوابه المباشر ان قال : لا انصحك بذلك ، لان حياتك تخلو او تكاد من احداث بارزة ، تثير اهتمام القارئ وتطلعاته.”-1-

غربة الراعي لم تكن سيرة ذاتية تحكي عن الماضي فقط ولكنها غربة الراعي في الفترات الاخيرة التي عاش فيها الكاتب ، امراض الشيخوخة وخذلان البعض وان كان تسامحه يضفي بظلاله على الجميع ، يقول الكاتب احسان عباس : ” وقد اكتشفت منذ سنة 1994 انني اصبحت فريسة لأمراض الشيخوخة ، وقد قال لي طبيب نفسي ان مشكلتك هي الكآبة ، فقلت له : لا عجب في ذلك بعد شهود كل هذه الماسي في حياة امتي ” 11-262 ويختم رسالته الى الاجيال المقبلة بنبرة تواضعية منقطعة النظير موضحا ما يلي :” وقد وضحت لي كتابة هذه السيرة مدى أخطائي في رحلة طويلة ، ولكنها من جهة أخرى كشفت لي عن استمراري طويلا في الخضوع لقيم القرية دون محاكمتها او مراجعتها،كما ابانت لي ان كل ما لقيته من الآلام في تلك الرحلة لا يقف في طول مليمتر واحد الى جانب الالاف امتار الالام التي عاناها الشعب الفلسطيني …ثم انني لا احب ان اسابق الذين يتحدثون عن مصلحة الاجيال المقبلة وازايد عليهم ، لاني اعتقدت ان الاجيال المقبلة ستدرك مصالحها ضمن ظروفها وبيئاتها ، فأما هؤلاء الاوصياء على الاجيال المقبلة فلست منهم في شئ. اني حين اجد أن حياتي كانت تقررها الظروف المتغيرة يوما بيوم او عاما بعام اعتقد انه ليس من حقي ان افرض مفهومات عصري على عصور تالية ولا ان ارسم لها منهجا اعده-غير صالحا لها-قبل ان ارسمه على الورق .هذا هو رأيي وأرجو ان اكون مخطئا.”
وختاما نقول : لكي لا تستمر غربة المفكرين الحقيقيين في زمن الرداءة والاصطناع.

المراجع:
*جميع المقتبسات مأخوذة من كتاب غربة الراعي ، تأليف إحسان عباس الطبعة الأولى الإصدار الثاني 2006 دار الشروق للنشر والتوزيع .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى