عودة إلى الذات.. بقلم/ محمد أرسلان علي
حينما تتلاطم أمواج الحياة بما فيها من تقاليد وعادات تحطم بها كينونة الانسان وهويته ومكانته حتى تجعله يتخبط يمنةً ويسرة يبحث عن قشة تنقذه من هذه الأمواج المتلاطمة، التي لا تعي معنى الرحمة على الانسان الذي هو بالأساس صورة من الله الذي خلقه على شاكلته. في هذه النقطة تحديداً تفقد الكلمات معانيها باحثة من جديد عن ماهية الانسان الغارق في مستنقع المصطلحات والكلمات التي باتت تخنقه وتُخرجه من بساطة الحياة ومعانيها. كثيرة هي المصطلحات التي غزت عقولنا وراحت تضرب بكل قوتها مداركنا المرنة التي من خلالها تغلبنا على قساوة الطبيعة وجيَّرناها لخدمتنا على مرّ الأيام. كان بمقدورنا تطويع كل عناصر الطبيعة ووصلنا بأن تكون الطبيعة هي التي توجهنا وفق مشيئتها وكأن افلاطون قد بُعث من جديد ليحدثنا عن ماوراء الطبيعة والميتافيزيقيا ولنكون أسرى الكلمات والمعاني التي خلقناها وصنعناها بأيدينا. على أساس أن المنتوجات ما هي إلا تعبير دقيق عن الحالة الفكرية المتطورة عندنا للتغلب على الطبيعة وتشييئها وكذلك تسييس الحيوانات.
العصبوية والتعصب القوموي والدينوية والتطرف الديني وكل ما نتج منهما من مصطلحات ومعانٍ وتعريفات باتت تحاصرنا مذ نفتح أعيننا فجراً حتى بعد أن نضع برؤوسنا على الوسادة، وما بين هاتين العمليتين ثمة الكثير من اللعنات التي تصيبنا جراء إدراكنا لتلك الكلمات وفق ما تشتهيه أنفسنا حينما نريد أو تريد الآلهة وكذلك الزعماء، طبعاً لا نعري السلاطين والمعممين مما أوصلونا إليه.
قد لا يختلف الكثير من العقلاء في أن وظيفة الدين الأساسية هي خدمة الإنسان الذي هو بحد ذاته غاية الحياة وايصاله لحالة من التجرد المادي وإعلاء القيم المعنوية والروحية لديه، حتى أنه يمكننا القول أن الدين ما هو إلا كناية عن وسيلة للوصول بالمجتمع إلى مكانة من الاحترام المتبادل وابداء الرأي بكل حرية والعيش المشترك بين الشعوب على أساس “أنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم”.
كذلك القومية هي اعتزاز الشخص بقوميته التي ينتمي إليها والتي تشكل له بنفس الوقت الهوية الإنسانية في العيش المشترك مع الآخر من قومية أخرى. فالقومية ما هي إلا وسيلة للوصول بالمجتمع المتنوع والغني إلى حالة من التوافق المشترك لبناء مجتمع تكون قوته ووحدته في التنوع والتعددية، لا في الاقصاء، على أساس “ومن آياته اختلاف ألسنتكم”. وكِلا المصطلحين ليسا من اختيار الانسان بحد ذاته بقدر ما هو اختيار اجباري وضروري لسيرورة الحياة بمعناها الجميل والأسمى.
التعصب والتطرف في الدين والقومية يؤديان بكل تأكيد إلى خروج الانسان من طبيعته الانسانية المجتمعية التي هي أساس تطور الحضارات عبر التاريخ، خروجه نحو التوحش والعيش في مجتمع الغاب والذي يؤكده داروين من خلال نظريته أنَّ “البقاء للأقوى”. هذه النظرية التي يمكن اعتبارها الحجر الأس في بناء العقلية التعصبيه للدين والقومية والتي تكون أهم افرازاتها هي اعتبار الشخص الحالكم نفسه “ظل الله” على الأرض، وأنه الآمر الناهي في كل شيء وأنه لا ينطق عن الهوى بل يوحى له، ومع مرور الوقت تظهر الدكتاتورية بكل تجلياتها القوموية والدينوية والتي تكون السبب الرئيسي فيما نعيشه اليوم.
عملية تزاوج الدين مع القومية تمت منذ زمن بعيد وتجلت بكل وضوح في أوروبا بعد الثورة الصناعية. وظهر بعض الفلاسفة لتأكيدها على أنه من دون هذه المصطلحات لا يمكن أن يعيش الانسان. وتم اقناع الناس بهذه العلوم على أنها الحقيقة الكاملة وأن أي شيء من دونها ما هو إلا كناية عن كذب ورياء أو خيال وبعيد عن الحقيقة. يقول الفيلسوف الألماني هيغل أنَّ “الدولة ما هي إلا ظل الله على الأرض”، وأنَّ “الدولة دائمًا على حق”، وغيرها الكثير من الأفكار الفلسفية التي أثرت بشكل مباشر على المجتمع وأخضعته لسلطة الزعيم الذي هو الحاكم المطلق وأن طاعته واجب لا غبار عليه. وبما أنه يمثل الدولة فهذا يعني أنه يمثل الرب بنفس الوقت.
عملية التزاوج هذه بين الدين والدولة القوموية نجني ثمارها السلبية الآن أكثر من أي وقت مضى. فتغيير المصطلح من أنه وسيلة ووضعه في مكان الغاية هو أساس المشكلة التي نعاني منها كمجتمعات بشرية تتطلع دائمًا نحو العيش الكريم والبعيد عن الاستبداد.
وما الأطروحات التي تظهر في الآونة الأخيرة والتي تنادي فقط بتجديد الخطاب الديني ما هي إلا محاولة للخروج من عنق الزجاجة التي نحن فيها، لكنها لن تنجح أبدًا إذا لم تتخذ من تجديد الخطاب القوموي أيضًا وظيفة مهمة وفض الارتباط بينهما، لأنه بهذا الأسلوب لن يكون لدينا سوى حمامة عرجاء لا فائدة منها ستتكل على الغير ويتم إعادة وتعويم السابق بلبوس جديد. لأن الدولة في النهاية ما هي إلا وسيلة لحفظ أمن واستقرار المجتمع البشري وليس لاستغلاله والحط من شأنه تحت حجج كثيرة إن كانت فرض الأمن والاستقرار او جبي الضرائب وغيرها الكثير.
وبنفس الوقت لا يمكن فصل الدين عن الدولة كما يدّعي العلمانيون للتحول إلى المجتمع المدني. إنها سفسطة لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع مطلقاً لأنه لا يمكن أبداً التفكير أنه بمقدور أحد أن يفصل الدين عن الدولة، لأن الرابطة التي تربطهما ببعضهما بعضاً عميقة بعمق التاريخ المجتمعي الانساني وأنه لا وجود للدولة من دون دين بالأساس. حيث أن البذور أو اللُبنات الأولية للدولة تم بذرها في الزيكورات (المعابد) السومرية من قبل الكهنة لفرض سلطة الإله – الملك على الشعب والمجتمع. والتي منها انتقلت هذه التقاليد السلطوية وبناء المدن الإلهية إلى مصر والهند والصين.
فلا القومية العربية ولا القومية التركية ولا القومية الفارسية ولا القومية اليهودية جلبت الحلول لشعوبها ولمجتمعاتها، بل حالة العداء والتنافر والاقتتال هي المسيطرة على المجتمعات المتنوعة. علينا حينها القيام بإعادة التفكير في هذه المصطلحات للخروج من الوضع المتأزم الذي نعيشه والبحث عن حلول خلاقة تجمع الكل من قوميات وأديان وإثنيات ومذاهب في بوتقة العيش المشترك على أساس أخوة الشعوب وأن يعيش الكل مع الكل وليس العكس “الكل ضد الكل”.
عبَرت أوروبا مرحلة العصور الوسطى التي كانت أحلك مراحلها من ظلم وعبودية وحرق وسجون، حينما تخلصت من سطوة كهنة المعابد الذين كانوا يتمسكون بأسباب الحياة وبكل صغيرة وكبيرة. هؤلاء الكهنة الذين كانوا يتحصنون بالكتاب المقدس في كل شيءٍ يقومون به وكان بـ “اسم الرب”، وبما أنه باسم الرب وقتها لا يمكن لأي شخص كان أن يفكر حتى بنقاشهم حول صوابية هذا القانون من عدمها، أو هل الرب بالفعل يريد هذا الأمر أم لا؟.
قرون عدة عاشت أوروبا خلالها عصوراً من الظلمات والقتل والحرق والصلب والنحر وكل ذلك كان باسم الرب الأعلى الذي لا تعلو أية كلمة عليه. وكأن البسطاء من الناس مقتنعون بذلك وينفذون ما يطلبه “الرب” منهم خشية من الغضب الإلهي في الدنيا والآخرة.
العقيدة الدينية التي كانت مسلطة على الشعوب بمصطلحات مقدسة لا يمكن المساس بها، جعلت من المجتمع يعيش كالقطيع يتم توجيهه من الراعي الذي يُعتبر “ظل الله على الأرض”.
بهذه المكانة المرموقة استطاع الكهنة السيطرة على عقول وقلوب البشر والمجتمعات وتوجيههم لحروب مقدسة من أجل الله ومن أجل إعلاء كلمة الله الذي سيمدهم بالنصر المؤزر.
استمرت أوروبا بهذه الحالة حتى جاءت مرحلة التنوير والإصلاح والنهضة التي كان لها فلاسفتها الذين عملوا ليلاً نهاراً من أجل تخليص الشعب من الحالة المزرية التي كان يعيشها تحت اسم “الرب، المقدس، الجنة، النار”.
بدأت هذه المرحلة بتغيير جوهري في الثقافة الفكرية التي كانت سائدة لقرون عدة، وكان الوعي والفكر والعلم أساس هذه النقلة النوعية من مرحلة إلى أخرى. وكلنا قرأنا آلاف الكتب وكذلك مئات الفلاسفة وعشرات المثقفين الذين ضحّوا بحياتهم من أجل العبور نحو الأفضل.
وهانحن على أعتاب القرن الحادي والعشرون نعيش نفس التراجيديا والمأساة التي كانت تعيشها أوروبا في العصور الوسطى ومرحلة الصراع بين القديم والجديد. القديم الذي يسعى بكل ما لديه من أجل التمسك بسلطانه وسلطاته وجبروته، والجديد الذي يبحث عن حياة أفضل وكرامة ما زال لم يتذوق طعمها بعد.
الفارق بين ما حصل في أوروبا وما يحصل في منطقتنا الآن وبالرغم من أوجه التشابه العديدة، إلا أننا ما زلنا نفتقر إلى علماء الاجتماع والمثقفين والفلاسفة كي يأخذوا دورهم في عملية التحول هذه. لأن التحول ينبغي أن يكون فكريًا وثقافيًا قبل أن يكون في الشكليات وتغيير الحكام فقط. لأنه بتغيير الكهنة لن يتغير الوضع. فالذي سيأتي سيكمل مسيرة مَن كانوا قبله وإن كان باسلوب آخر، إلا أن المنطق والتفكير الدوغمائي هو هو: المتعصب والمتزمت لأبعد الحدود بالمصطلحات والتعابير التي حفظها عن ظهر قلب من أجل استمرارية سلطة الرب من خلال الكهنة.
كذلك لا فرق بين كهنة العصور الوسطى الأوروبيين والكهنة القومويين في القرن الحادي والعشرين. التّزمّت في المصطلحات المقدسة إن كانت دينية أو قوموية هو هو، لأنه يوصل إلى نفس النتيجة، ولكن كِلا الطرفين يحكمان بالحق ويحاربان الباطل وكذلك كل هدفهما هو إعلاء كلمة “الرب” أو “الدولة”، لأنهما من المقدسات ولا يمكن العيش من دونهما. إذ، لا فرق بين عقيدَتَي التعصب الديني والتعصب القومي. كلاهما يعمل على إنكار الآخر مهما كان ولا يتعدى القبول الإطار النظري فقط، لكن عمليًا وكما نرى ما يحصل في العراق وسوريا واليمن وليبيا الكل يقتل الكل، إن كان دينيًا أو قوميًا. لا أحد يقبل الآخر لأننا تشبعنا بمصطلحات مقدسة تنفي الآخر وتحتم قتله لأنه كافر أو خائن.
لا يمكن إنكار القومية لأنها واقع موجود متعلق باللغة والتاريخ المشترك وهي الهوية التي يفتخر بها كل إنسان، لكن التعصب القوموي هو المرض أو الداء الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه، مثلما هي حال التعصب الدينوي.
الدين هو حاجة الإنسان في الحياة ولا يمكن الاستغناء عنه بشكل مطلق وكذلك القومية. لكن التعصب في كِلَيهما يودي بصاحبه نحو التهلكة وإنكار الآخر تمامًا كما نعيشه الآن من حروب مذهبية ودينية وعرقية وأثنية. وطبعًا الغرب الامبريالي حاضر في كل هذه الألاعيب والمآسي. فيحرك هذه الأوتار وفق أطماعه ومصالحه ويستغل غباءنا وسذاجتنا من أجل الوصول لأهدافه. والعلة لا تكمن هنا، لأن العدو عدو له آليات وأهداف وسبل كي يصل لأهدافه. نتحدث هنا عن الأسباب الذاتية والأرضية الخصبة التي تنمو عليها هذه الفطريات الغريبة الامبريالية.
الأسباب الذاتية موجودة فينا وعلينا البحث فيها ومداواتها قبل أن تصيبنا الغرغرينا ونضطر لبتر أحد أعضائنا. المشكلة التي نعانيها هي نمطية العقلية التي نفكر بها والتي لم تتجاوز حتى الآن أرنبة أنوفنا. والتخلص من الكهنة القومويين والمتعصبين أمر مهم جدًا للوصول لمرحلة تذوّق طعم الكرامة والحرية. أم أنه ينبغي علينا دفع تكاليف هذه الحرب المدمرة مئات الآلاف من الضحايا حتى نعقل؟ وبنفس الوقت لا نستفيد من الدروس والعبر التاريخية التي عاشها الآخرون من قبلنا!