علاقة ود ودفء بين عُمان إيران.. ما سببها وماذا بعد رحيل السلطان قابوس؟
سلطنة عمان لا تلعب فقط دور الوسيط بين إيران وبقية دول العالم؛ بل هناك ما يمكن وصفه بـ «الود والدفء» في العلاقات بين السلطنة وطهران، فما أسباب تلك العلاقة؟ وهل تستمر على النسق نفسه بعد رحيل السلطان قابوس وتولي ابن عمه السلطان هيثم بن طارق المسؤولية؟
مجلة فورين بوليسي الأمريكية نشرت تقريراً، بعنوان: «لماذا تحب عُمان إيران؟»، ألقت فيه الضوء على تاريخ العلاقة بين البلدين، وكيف بدأت وترسخت قبل أكثر من نصف قرن.
رحيل الحليف الأبرز لطهران
مثَّلت وفاة قابوس بن سعيد، سلطان عمان، الأسبوع الماضي، رحيل أقرب حليف لإيران في الخليج، والذي كانت وساطته مع الولايات المتحدة مؤخراً مُهمة للدبلوماسية الإيرانية. وفي حين وصلت التوترات بين طهران وواشنطن إلى مستويات جديدة بعد اغتيال الولايات المتحدة القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني، جاءت وفاة السلطان في وقت شديد الحساسية.
وفي الواقع، ثمة سبب وجيه للتساؤل: هل تستمر العلاقة المميزة بين عُمان وإيران بعد وفاة قابوس؟ ذلك أنها علاقة تشكلت في تاريخ السلطان الشخصي مع طهران، وتحديداً بعد التدخل الإيراني في الحرب الأهلية بعُمان، والذي ساعد في ترسيخ حكم قابوس. إلا أن هذا التاريخ المنسيَّ يلقي الضوء على سبب استمرار متانة العلاقات بين إيران وعُمان. ورغم رحيل قابوس، يظل نظامه قائماً، ويستحيل فهم هذا النظام خارج دعم إيران في وقت حاجته الماسة له.
من هنا بدأت القصة
تبدأ القصة في أوائل سبعينيات القرن الماضي، عندما ساعدت القوات الإيرانية قوات السلطان المسلحة على هزيمة ثورة اندلعت في ظفار، المحافظة التي تقع بجنوبي عمان. وبناءً على طلب السلطان قابوس، أرسل محمد رضا بهلوي، آخر شاه لإيران، جنوداً ومساعدات عسكرية لدعم السلطان. وكان قابوس، الذي أصبح حاكماً لسلطنة عُمان في يوليو/تموز عام 1970 بعد انقلاب بقيادة بريطانيا، يقود حرباً تدعمها بريطانيا على الثوار الماركسيين، والجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي. وأشعل المقاتلون ثورة دامت 11 سنة ضد الاستعمار في ظفار، من عام 1965 إلى عام 1976، وقاتلوا الإمبريالية البريطانية في عُمان والمنطقة. وبعد انتصار قابوس، ظهرت الدولة العمانية الحديثة.
ولم ينسَ السلطان قابوس قط أهمية الدور الإيراني في عُمان: فهُم بالنهاية من ساعدوه على الفوز بالحرب. فبين عامي 1972 و1975، كانت إيران ترسل عدة آلاف من جنودها دورياً إلى عُمان. ولم تسمح الموارد المتاحة بحدوث عمليات واسعة النطاق في ظفار إلا بعد تدخُّل إيران. كانت المهمة الإيرانية الأولى هي فتح الخط الأحمر للجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج، والذي كان طريقاً استراتيجياً للثوار بين كل من ظفار الشرقية والغربية. ولم يُعلَن عن الوجود الإيراني إلا بعد هذا النصر في عُمان؛ وكان سِرياً في السابق، لأنه كان مثيراً للجدل إلى حد كبير. وحتى بعد الحرب، ظلت أعداد صغيرة من عناصر الدرك الإيرانيين متمركزة في عُمان حتى عام 1979، حين أمرت جمهورية إيران الإسلامية التي تأسست حديثاً، القوات بالعودة إلى الديار؛ بعد غضبها من مخاطرة الشاه بحياة الإيرانيين. ورغم أن الرقم الدقيق لأعداد القتلى من الإيرانيين غير معلوم، تتراوح التقديرات بين بضع مئات وألفي قتيل إيراني.
الوقوف في وجه «المد الشيوعي»
وفي خضم الحرب الباردة، اتحد الشاه والسلطان قابوس في مخاوفهما من احتمال «التسلل الشيوعي» إلى المنطقة. ولأنهما تتقاسمان السيادة على مضيق هرمز، كانت صادرات نفطهما عرضة للهجمات. وكان مصدر خوفهما الرئيسي الحدود مع ظفار، وتحديداً من جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (المعروفة أيضاً باسم جنوب اليمن)، الدولة الماركسية الوحيدة الموجودة بالشرق الأوسط (1967-1990). إذ كان يشتبه في أن المساعدات الصينية والسوفييتية كانت تصل إلى ظفار عبر جنوبي اليمن، وهو ما كان صحيحاً.
فعلى أرض الواقع، كان الدعم المادي للثورة يتألف من الأسلحة الخفيفة، والكتابات الثورية، والمساعدة المالية البسيطة، التي لا يمكن مقارنتها بأي حال بالدعم الإيراني والبريطاني لقوات السلطان. ومع ذلك، أعلن السلطان قابوس أنه سيعتمد على الشاه، في الوقت الذي ظلت فيه الكتلة الشرقية منخرطة بجنوب اليمن. وكان من مصلحتهما المشتركة احتواء التأثير السوفييتي المتوقع في المنطقة.
كان قابوس يرى أن إيران ساعدته بشكل كبير عندما لم تفعل الدول العربية المجاورة، وستظل هذه البادرة محفورة في ذاكرة السلطان قابوس. فعندما طلب قابوس بالفعل دعماً من دول عربية أخرى لقمع الثورة، كان أقصى ما حصل عليه فترة قصيرة من التدخل الأردني. وواجه انتقادات من الدول العربية؛ لإشراك إيران في الشؤون العربية، لكنه دافع عن قراره طلب مساعدة الشاه، بحجة أن لديه كل الحق في طلب مساعدة إيران، خصوصاً أنها بلد مسلم ودولة مجاورة.
علاقة مستمرة بعد سقوط الشاه
وفي حين شكلت بالتأكيد العلاقة الشخصية بين السلطان قابوس والشاه أُسس العلاقة الخاصة بين إيران وسلطنة عمان، امتدت العلاقة إلى ما بعد إسقاط عائلة بهلوي مع الثورة الإيرانية 1978-1979، واستمرت مع جمهورية إيران الإسلامية. ويرجع ذلك إلى امتنان السلطنة الدائم لإيران، مقترناً بسياستها الخارجية المحايدة ومبدأ التعايش السلمي الذي تبنَّته.
وفي السنوات الأخيرة، كانت عُمان قناة حيوية لإيران في الشؤون الدبلوماسية. وعلى الأخص، عام 2012، عندما سهَّل العمانيون إجراء محادثات سرية في مسقط بين كبار المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين قبل المفاوضات متعددة الأطراف، التي انتهت بعقد الاتفاق النووي الإيراني عام 2015. ساعدت القناة العُمانية في حل الخلافات بين الجانبين، كما مهدت الطريق للمكالمة الهاتفية التاريخية بين رئيس الولايات المتحدة آنذاك باراك أوباما والرئيس الإيراني حسن روحاني عام 2013.
وفي القضايا البارزة الأخرى، أدى العمانيون دوراً مهماً في الوساطة. إذ تفاوضوا مع الإيرانيين للإفراج عن ثلاثة من الأمريكيين، اعتُقلوا عام 2009. وأظهرت البرقيات المسربة أن يوسف بن علوي، وزير الخارجية العماني، عرض في اتصال مع السفارة الأمريكية لدى عُمان، أن تكون «عُمان منظِّم ومكان انعقاد أي اجتماع تريده الولايات المتحدة مع إيران، إذا ظل سراً». وبالمثل، عندما أُطلق سراح الأكاديمية الكندية من أصول إيرانية هوما هودفار عام 2016، شكرت المسؤولين العمانيين؛ لمساعدتهم في تأمين إطلاق سراحها.
لهذا السبب اختار قابوس ابن عمه
وفي المستقبل، تظل الرغبة في الاستقرار بالمنطقة في مقدمة سياسة عمان الخارجية، والعلاقة القوية مع إيران أمر أساسي في هذه المعادلة. وقد اختار السلطان الراحل خليفته شخصياً، وهو السلطان هيثم بن طارق، الذي ورد اسمه في مظروف مختوم، لا يعرف محتوياته إلا قابوس. ودارت كثير من التكهنات حول اختيار السلطان المذكور في الرسالة منذ مرض قابوس في السنوات الأخيرة.
والتعيين الفوري لابن عمه هيثم يشير بوضوح إلى إرث من الاستمرارية، إذ فضلت العائلة الحاكمة فتح الرسالة فوراً بدلاً من أن يتوافقوا هم على خليفة له، وهو ما يدل على احترام رغبات السلطان الراحل وضرورتها. يتمتع هيثم، الذي درس في جامعة أوكسفورد، بخبرة واسعة في مجال الدبلوماسية، وليست له خلفية عسكرية، ويُعتَقد أنه المرشح الأكثر شبهاً بقابوس نفسه. وبعد أداء السلطان هيثم اليمين الدستورية، سارع إلى إعلان أنه سيواصل سياسة السلطان الراحل، المتمثلة في العلاقات الودية والتعايش السلمي.
ماذا يعني هذا بالنسبة للعلاقة الخاصة مع إيران؟ في 7 يناير/كانون الثاني، أي قبل أيام من وفاة السلطان، ظهرت وساطة سلطنة عمان وسط التوترات المتصاعدة بين الولايات المتحدة وإيران. إذ قال وزير الخارجية بن علوي للمسؤولين في مؤتمر بطهران، إن واشنطن كانت على اتصال دائم مع مسقط؛ للتباحث حول تخفيف حدة الصراع والسعي إلى وقف التصعيد. إلا أن هذا كان قبل يوم واحد فقط من إسقاط طائرة رحلة الخطوط الجوية الدولية الأوكرانية رقم 752، والذي تسبب في مقتل 176 ضحية من المدنيين، ودفعَ الولايات المتحدة وإيران إلى مرحلة غير مسبوقة من القلق الشديد.
وكانت إحدى البرقيات الأخيرة للسلطان قابوس رسالة تعزية إلى روحاني في ضحايا تحطُّم الطائرة وأُسرهم. وقد أشار روحاني بالفعل إلى الرغبة في توثيق العلاقات مع دولة عمان «الشقيقة»، في رسالة إلى السلطان الجديد. وفي هذه الفترة المظلمة التي تمر بها العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، ثمة كثير مما يمكن أن تربحه الولايات المتحدة من الاعتراف بالسلطان هيثم حليفاً ووسيطاً متوقعاً.
السلطان هيثم لا يحتاج الدفاع عن موقفه
وفضلاً عن هذه التوترات، أطلقت القوى الأوروبية آلية رسمية لتسوية المنازعات حول انتهاكات إيران للاتفاق النووي، والتي تزعم إيران أنها حقها الشرعي منذ أن انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق عام 2018. وبذلك يصل السلطان هيثم في لحظة حاسمة وصعبة، وقد يرغب في أن يعرض أن تكون عُمان قناة للمصالحة فيما يخص البرنامج النووي. لكن من المستبعد أن تتوصل طهران وواشنطن إلى أي اتفاق لا يأتي بخسائر لإيران؛ بل سيتطلب تدخُّلُ إيران في الشؤون العربية التأني في الوساطة.
ولكن، عكس سلفه، لن يتعين على هيثم الدفاع عن موقفه مع إيران، لأنه قائم بالفعل ومطلوب بشدة. ومع احتمال وقوع مزيد من الهجمات الانتقامية الإيرانية على أهداف أمريكية في المنطقة، تظل دول مجلس التعاون الخليجي التي تستضيف القواعد الأمريكية، متحفزة. وهكذا، يرث السلطان الجديد هذا الموقف في لحظة حساسة تمر بها منطقة الخليج، ويأتي التحدي الأول له عند تداخل الأزمة الإقليمية مع الدولية، وتحقيق التوازن بين دول مجلس التعاون الخليجي وطهران وواشنطن.
في مثل هذه الأوقات العصيبة، يحتاج الشرق الأوسط بشدة وسيطاً مثل السلطان قابوس. ويأتي السلطان هيثم في لحظة صعبة للغاية، لكنه سيواصل السعي لتحقيق الاستقرار في المنطقة. وسياسة عُمان الخارجية المتمثلة في التعايش السلمي والتسامح والدبلوماسية «صادِق الجميع ولا تعادِ أحداً»، ستستمر بعد السلطان قابوس، وستستمر كذلك علاقته المميزة المحترمة مع إيران.