فلسطينيون يوثقون الحياة في معتقلات الاحتلال بلوحات فنية
لا تخلو التجارب التشكيلية الفلسطينية في كل مراحلها من التنوع الممزوج بمغامرة إنسانية قد تلامس الخيال رغم واقعيتها الحادة والمفرطة في التعبير والمعايشة وفي الأسلوب والمذهب وفي التوجه الذي لم يفصلها عن القضية عن السياسة عن المجتمع والإنسان عن الحق والأرض والوطن “الفكرة” التي أصبحت واجبا وضرورة حاضرة في كل منجز، وتجربة معتقل عسقلان تعتبر من التجارب الإنسانية التي حولت الفن والرسم إلى منفذ حياة وذاكرة وذكرى وتاريخ يحكي السجن والسجان وكيف تنضج المعاناة لتتلون تاركة في الذاكرة ندبة وثقوب وفي الرسوم أملا وحياة.
*محمد الركوعي
هي تجربة فريدة عاشها معتقلو سجن عسقلان من فترة اعتقالهم إلى الحكم عليهم بالمؤبد ثم خروجهم في صفقة تبادل أسرى من فترة السبيعنات إلى أواخر الثمانينات، فبعد أن حوكموا بتهمة الانتماء للمقاومة وتبني موقف الحق في وطن كامل ظهرت تجربة مقاومة مختلفة عند محمد الركوعي، عماد عوكل، محمود عفانة، زهدي العدوي، علي النجار، محمد أبو كرش هي المقاومة بالرسم والفن ونقل صورة السجن والسجين وألمه الذي لا يخلو من الأمل.
هذه المغامرة أخرجت مجموعة من الرسومات من سجن عسقلان لتحكي للعالم قصة الفن المقاوم أو فن السجون الذي يبدأ تلقائيا في تعبيره عن الانعتاق بالحلم والفكرة والتشبث بالبقاء والحياة والأمل في مجموعة صور رسمت على وجوه المخدات تحوّلت إلى لوحات فنية عميقة الفكرة رغم بساطة خاماتها وموادها وتقنية تنفيذها وهذه اللوحات الأصلية يقدم متحف فرحات “الفن من أجل الإنسانية” حوالي 50 عملا منها ضمن مجموعة “معتقل عسقلان”.
*زهدي العدوي
حكاية رسومات عسقلان هي حكاية مليئة بالألوان رغم مرارة وصعوبة التعايش مع السجن والسجان والاحتلال وظلم يقطع أمل النجاة فقد ابتكر الأسرى “الفنانون” رؤى لحياة واسعة المنافذ رغم الضيق، وخيال أكبر من الأسر فقد جمعهم المصير والفن والرسم والتعبير عن الفكرة، فكانوا يستعينون بالأدوات البسيطة وكل ما يتوفر لديهم كما كانوا يقومون بفرز الاعمال وتشكيل لجنة لنقدها تقرر أي عمل يستحق أن يعرض خارجا، فرغم قلة المواد والخامة والألوان لم يتوقف الأسرى عن الرسم، وأهم الصعوبات التي واجهتهم كانت الحصول على الألوان ومواجهة السجان، فقد رسموا بأقلام الحبر الناشف وبأربعة ألوان فقط هي الأحمر والأزرق والأخضر، كانوا يحصلون عليها من بقايا الألوان الشمعية التي يلقيها عمال البناء بعد الانتهاء من عملهم ومن التخطيط.
*محمود عفانة
التحدي في الحكاية أن كل الأعمال التي تنجز كانت تهرّب بطريقة محكمة وبخطط مدروسة فأول من يزور السجن في وقت الظهيرة من الأهل يتحمل مسؤولية إخراج الأعمال لأن عدد الحراس يكون أقل في تلك الفترة، رغم التضييق والمحاصرة والعقاب الذي كان يلحق بهم عند اكتشاف اختفاء وجوه المخدات أو عرض الرسوم التي كانت تطبع خارجا، كان الأسرى لا يتوقفون عن الرسم والتعبير وتفجير ذاكرتهم ومواقفهم فقد بلغ عدد الاعمال التي رسمها محمد الركوعي مثلا حوالي 400 رسمة منها ما اخترق السجن ومنها ما ضاع داخله.
من الناحية الفنية والتقنية تميزت أعمال المعتقل بالبساطة بالمباشرة وبمحاكاة فكرة الحرية والوطن بتفاصيله برموز واضحة تحكي الأرض والعادات الحرية والمقاومة في رمزية المرأة الأرض والأم والبندقية والانعتاق وتفاصيل السجن والسجان والمعتقلين لون بدلات السجن عصا السجان القضبان الجدران كلها بألوانها التي تعكس حقيقة كل التفاصيل المعتمة التي تقلصها الذاكرة بألوانها التي تفتح أبواب الأمل على الألوان التي بدورها تنعشها الخيالات المتراكمة والذكريات عن الأهل والوطن عن الطبيعة التي حملتنا إليها الألوان الزاهية فاللوحة كانت تصارع ألوان السجان التي تسرّب الموت والخراب.
*علي النجار
يعبر الرمز واللون والشخصيات عن حالة التمرد داخل الأسرى على العتمة التي كان يفرضها السجان ليحققوا انتصاراتهم بألوان الحياة التي هزمت الظلام فالرسم منفذ ونجاة ومشاهد أبعد من الصورة والحلم والخيال وطن مشتهى لم يتبخر مع الأسر.
بحضور الفكرة عند كل أسير فنان كل شيء يصبح صالحا للرسم الورق والقماش وجوه المخدات، فوجه المخدة الأبيض وقماش الكتان يصلح لأن يصنع أربع محارم تقسّم كل مساحة لتحمل فكرة وحلما وخيالا.
الألوان كانت من البلاستيك صغيرة الحجم ليسهل تمريرها من الشبك الحديدي الفاصل بين السجين وأهله وهي مرحلة تأمين الخامة وبحضور المخدات والأقلام تبدأ المرحلة التي تعتبر الأصعب وهي البحث عن مكان الرسم، حيث كانوا يختارون الزوايا البعيدة عن النظر وفي نفس الوقت يصلها ضوء المصباح ولذلك كانوا يعوّضون نقص النور بالألوان والعتمة بالفرح فكل لوحة تعكس حالة ونفسية وإحساسا يفجر عمدا تلك الألوان بالتحدي وبالنضج الذي يتزايد عند كل فكرة ولوحة ورسمة للتعبير عن الوجود وعن الاستمرار في المقاومة والموقف الأساسي من العمل الفني، كل عناصر الوطن كانت حاضرة في أدق التفاصيل التي تحدد معناه في ذاكرة تقاوم الطمس وحضور يكتمل مع الطفل والمرأة والأرض والخارطة الكاملة في التراب وعلامات التطريز والبحر والطبيعة في الشهيد والبندقية.
*محمد أبو كرش
رغم أن الأسرى اجتمعوا على الفكرة والمغامرة والمصير والألوان ولكن من المؤكد أن لكل منهم حكايته التي تسرد تفاصيل معمقة من تلك المعاناة والمغامرة تفاصيل تعكس حالته ومشاعره ووقوفه أمام السجان ونفسيته التي بدا جزء منها في الرسومات وبقيت أثارها تحكي الإصرار والاستمرار، وقد قدّمت مخرجة الأفلام الوثائقية اللبنانية- الاسبانية ليلى حطيط فيلما قصيرا عن هذه التجربة بعنوان “أقلام عسقلان” سردت فيه تجربة الأسرى وبالخصوص تجربة الفنان زهدي العدوي وعن التجربة تقول “اهتمامي بموضوع المقاومة عن الطريق الفن كبير لأني أعتبر الفن منفذا انسانيا فهو من أهم أدواتها خاصة مع مثل هذه التجارب يتحوّل إلى فعل صادق ومثل هذه المقاومة تقلق السجان “العدو” فيكون الأسير محاصرا ورغم ذلك يحتفظ بالأمل وتلك قصة عسقلان التي رأيتها بكل مشاعري.”
*عماد عوكل
*الأعمال المرفقة: متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collection
بشرى بن فاطمة – صحفية وناقدة تونسية