طريق الأسد المسدود.. الليرة تنهار والأسعار تقفز وسط تبرم الروس، فهل يقبلون بالعرض الأمريكي بشأن مصير النظام؟
“رصيد البنك المركزي صفر كبير”، لم يكن هذا المؤشر الوحيد على المدى غير المسبوق الذي وصلت إليه الأزمة المالية السورية التي تهدد بانهيار اقتصاد البلاد.
فقد كشف ظهور رامي مخلوف، ابن خال الرئيس بشار الأسد وأبرز أعمدة النظام الاقتصادية، حاجة الحكومة السورية الماسّة إلى المال، وأظهر عمق الانهيار الاقتصادي وعجز هذه الحكومة عن إيجاد الحلول للأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي تحيط بالبلاد، كما كشف أن الأسد لم يعد يحكم قبضته على البلاد كما كان في السابق وهو ما يظهر في تجرؤ أحد رجاله عليه.
ويشهد سعر صرف الليرة السورية تدهوراً سريعاً أمام الدولار الأمريكي أدى إلى موجة ارتفاع قاسية في الأسعار وصلت إلى 200%.
وهبطت الليرة السورية، منذ مطلع مايو/أيار الجاري، إلى مستوى لم تشهده في تاريخها إلى 1805 ليرة مقابل الدولار الواحد.
ومنذ بداية 2020، يكون صرف الدولار الأمريكي قد صعد مقابل الليرة السورية بنسبة تقارب 60%.
ووفق أسعار صرف الأيام الأخيرة، تكون العملة السورية قد فقدت أكثر من 29 ضعفاً من قيمتها أمام النقد الأجنبي، منذ قيام الثورة عام 2011، حيث كان سعر الدولار بمتوسط 50 ليرة.
لا ملابس هذا العيد
وبات غلاء الأسعار يشكل حاجزاً أمام معظم المواطنين السوريين لشراء الملابس وكسوة عيد الفطر الذي بات على الأبواب، حيث تكتفي العديد من الأسر بالتجول في أسواق بيع الملابس والنظر إليها بشيء من الحسرة، والعودة إلى منازلها بأيد فارغة دون أن تسمح لها أسعار الملابس الباهظة بشراء ما يتمناه أطفالهم، خاصة في محافظ إدلب بشمال غرب البلاد الأكثر تضرراً من الحرب.
وحتى قبل موجة الغلاء الأخيرة، شهدت بعض مناطق البلاد، لاسيما الجنوب مظاهرات للاحتجاج على الغلاء، مثلما حدث في محافظة السويداء جنوب سوريا حينما خرجت المظاهرات تحت شعار “بدنا نعيش”، احتجاجاً على ارتفاع الأسعار وتدهور الأوضاع المعيشية.
وهو أمر لافت في بلد يعد التظاهر تأييداً للنظام هو خيار الشعب الوحيد.
رامي مخلوف شرارة الأزمة المالية السورية
ومنذ تفجر التوتر بين النظام وبين رامي مخلوف (51 عاماً)، الذي كان لعقود يعد أبرز الأعمدة الاقتصادية في بداية مايو/أيار، وإعلانه رفضه الامتثال لطلب الحكومة عبر فيديوهات متتالية تسديد نحو 180 مليون دولار، خسرت الليرة نحو 35% من قيمتها.
يعتقد أن حاجة الحكومة للدولار وراء انفجار هذه الأزمة مع مخلوف، وذلك بعد تراجع احتياطي “مصرف سوريا المركزي” من العملات الأجنبية من نحو 20 مليار دولار إلى الصفر خلال سنوات الحرب.
وتنقل صحيفة الشرق الأوسط السعودية عن أحد الخبراء ترجيحه أن يكون مخلوف قد أخرج منذ أوائل عام 2019، عندما كانت الأزمة بينه وبين دمشق لا تزال في إطار الكتمان، كميات كبيرة من الدولارات الأمريكية إلى خارج سوريا، ما زاد الطلب على الدولار في الداخل ورفع سعره”.
سعر زجاجة الزيت يرتفع ثلاثة أضعاف
وبينما كان السوريون في مناطق سيطرة الحكومة والذين يقدِّر “البنك الدولي”، أن 87% منهم يعيشون تحت خط الفقر، يعانون من موجة الغلاء التي تسببت بها الإجراءات الحكومية لمواجهة انتشار وباء “كوفيد – 19″، جاء تفجر الخلاف بين الحكومة ومخلوف وظهوره إلى العلن ليتسبب لهم بموجة غلاء جديدة أشد وأعتى من السابقة نتيجة تدهور سعر صرف الليرة بشكل غير مسبوق.
كان سعر لتر الزيت النباتي قبل أزمة “كوفيد – 19” نحو 650 ليرة وارتفع خلالها إلى نحو 1200، ووصل حالياً مع تفجر الأزمة بين الحكومة ومخلوف إلى نحو 2000 ليرة.
الأسباب المعقدة لأزمة الليرة.. نقص الدعم الإيراني والروسي ولكن الدوافع مختلفة
تتضافر عدة عوامل وتقف وراء أزمة الليرة التي أوصلتها أزمة مخلوف إلى الذروة.
وبطبيعة الحال أبرزها العقوبات الاقتصادية، ودمار الجزء الأكبر من القطاعات الاقتصادية الذي أدى إلى تراجع إيرادات الحكومة بنسبة كبيرة.
ولكن الجديد على الأرجح “توقف حلفاء دمشق وبالأخص إيران عن دعمها مالياً مع الضائقة الاقتصادية التي فرضتها على طهران العقوبات الأمريكية وفاقمتها أزمة (كورونا) وانهيار أسعار النفط”.
كما أن الجائحة وأسعار النفط تؤثران ولو بشكل أقل على روسيا.
ولكن يبدو أن تقليل موسكو دعمها للأسد لا يرتبط فقط بتراجع مواردها المالية، بل أيضاً باستيائها من النظام أيضاً.
إذ اكتسب العصيان الذي أعلنه مخلوف على الأسد أهميته من أنه تزامن مع تراشقات إعلامية بين مقربين من الكرملين من جهة، ومقربين من نظام دمشق في الجهة المقابلة، مما يؤكد أن للخلافات بعداً خارجياً دولياً يتعدى دائرة النظام الداخلية.
وأدى تفاقم الخلاف بين مخلوف والأسد، إلى توقف العديد من الأنشطة الاقتصادية التي كانت مرتبطة بشركات مخلوف، وأصبحت شركاته تحول أرصدتها من العملة المحلية للعملات الأجنبية، ثم تحويلها إلى خارج البلاد، فزاد الطلب على الأخيرة، كما زاد عرض الليرة السورية، فهبط سعرها.
انهيار تجارة الترانزيت وتوقف التحويلات
وصل الأمر إلى خلو البنك المركزي السوري من النقد الأجنبي والذهب، بسبب توقف إيرادات ترانزيت النقل البري والبحري والجوي، وتوقف حركة التصدير، المساهم الأكبر في إيرادات العملات الأجنبية.
كما أن هناك توقفاً شبه كامل لعجلة الإنتاج، فأصبح النظام يستورد السلع الضرورية من الخارج، حيث تتم عمليات الشراء بالنقد الأجنبي وخصوصاً الدولار، مما أدى إلى زيادة الطلب عليه، ونقصه في السوق، وبالتالي ارتفاع سعره على حساب الليرة المحلية.
اللافت أيضاً خروج البترول والقمح والبقوليات وعدد من السلع الاستراتيجية الهامة من أيدي النظام.
إضافة إلى توقف التحويلات المالية من الخارج، حيث بات السوريون في الخارج معنيين بدعم وإغاثة أهاليهم الذين تحولوا إلى نازحين داخل القطر، ولاجئين في بلاد الشتات.
كما أن قيام النظام بتدمير المصانع وخطوط الإنتاج، وتدمير البنية التحتية التي تعتبر أهم دعائم الاقتصاد، كان أحد أسباب انخفاض الناتج القومي المحلي في سوريا.
كارثة النظام المصرفي اللبناني
عدم الاستقرار في كل من لبنان والعراق، اللذين يمثلان رئتي النظام اللتين يتنفس من خلالهما، لا سيما لبنان، وخاصة المصارف والبنوك اللبنانية التي تعتبر مخزن عملات التجار الذين يتعاملون مع النظام وتوفر له العملات الأجنبية.
فقد منعت تلك البنوك صرف مبالغ كبيرة لعملائها، مما خلق أزمة نقد وسيولة في طرف النظام بدرجة كبيرة.
كما يفاقم الأزمة العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على شخصيات رئيسية في النظام السوري، والتي تعتبر أذرعه الاقتصادية، مثل رامي مخلوف، وسامر الفوز، ووسيم قطان، وعدد غير قليل من المسؤولين والتجار الذين يؤمنون احتياجات النظام من الخارج.
وأدى تمويل الحملات العسكرية ضد قوات المعارضة، والإصرار على خيار الحسم العسكري طيلة تسع سنوات متتالية، إلى سلب النظام كل ما يملك من مقدرات اقتصادية.
كما أن انخفاض نشاط المنظمات الدولية، في مناطق المعارضة والنظام على حد سواء؛ له دوره في الأزمة.
إذ إن هذه المنظمات كانت تقدم المنح وتفتح المشاريع الإغاثية بالنقد الأجنبي، مما كان يشكل أحد الموارد الهامة للعملة الصعبة في سوريا.
التحول من شبه دولة إلى ميليشيات
غياب منطق الدولة لدى المؤسسات الحكومية، منذ أن فرض النموذج الإيراني نفسه في سوريا، كان له أثاره المسببة للأزمة.
فتحولت الدولة السورية، من مؤسسات إلى مجرد ميليشيات تعتبر نفسها حامية الوطن، لا تحترم قانوناً، ولا تطبق سياسة، ولا تراعي تعليمات، فبات الاقتصاد أسير أمراء الحرب، من القادة الميدانيين في جيش النظام والميليشيات التي جنت أموالاً طائلة من الحرب، وشلت حركة مؤسسات الدولة، وفقدت قدرتها على اتخاذ قرارها المستقل.
وأصبح أمراء الحرب يحولون أرصدتهم من الدولار خارج سوريا، مع اقتراب تنفيذ قانون قيصر.
تداعيات انهيار الليرة.. حلفاؤه يتبرمون
من شأن الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يعاني منها النظام، أن تدفع أركانه إلى إعادة النظر في حساباتهم الخاصة، بعد إدراكهم لمحدودية قدرات النظام على التصدي للعقوبات والعزلة المفروضة عليه، في ظل عدم قدرة إيران وروسيا على مساعدته نظراً لأزماتهما الداخلية.
أصبح لدى موسكو قناعة، بأنه إذا استمرت الحالة الراهنة في سوريا، دون إصلاحات عميقة تمس أسس النظام السياسي فإن الانهيار محتمل.
ولكن موسكو تعي أنه ما دامت عائلة الأسد في السلطة فلن تتحقق أية إصلاحات جدية، وأن بشار الأسد ما زال يلعب على تناقضات طهران وموسكو ويحاول تجميع الأموال في يديه.
تعترف موسكو بأنها فشلت خلال فترة تدخلها في سوريا في كسب نخبة موالية لها، وأنها لم تعمل على تأسيس قوة سياسية تدعمها.
موسكو أوقفت هجومه على درعا.. فهل تقبل بالعرض الأمريكي؟
وبالإضافة إلى الانتقادات الإعلامية الروسية الموجهة إلى النظام، أوقفت موسكو محاولة النظام للهجوم على درعا وإفشال الاتفاق الذي رعته في هذه المنطقة التي توصف بمهد الثورة.
وكان اللافت أن الهجوم سيتم عبر الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد المحسوب على إيران.
تعلم روسيا أن استمرار النظام رهن بمساعدات دولية لإعادة الإعمار ودمجه عالمياً، وكانت تراهن بالضغط على الغرب لتحقيق ذلك، ولكن لا النظام لديه أي استعداد لتنفيذ أي إصلاحات حتى لو جزئية أو شكلية، ولا الغرب لديه أي استعداد لتخفيض العقوبات في ظل الوضع القائم.
كان الموقف من الأسد إحدى نقاط الخلاف الأمريكية الروسية رغم تراجع الدور الأمريكي في سوريا، ولكن واشنطن مازالت تراهن على ما يبدو على إمكانية تغيير سلوك النظام إذا تعذر تغييره.
“الصبر الاستراتيجي”، كان مفتاحاً أساسياً لرهان الجانبين الروسي والأمريكي على الوقت.
واشنطن، تعتقد أن كلفة استمرار الحرب بغياب الإعمار وتناقض أجندات اللاعبين ستدفع موسكو إلى قبول تسوية و”تغيير سلوك النظام”. وموسكو تعتقد أن فيض آثار الحرب إلى الجوار وأوروبا وحلفاء أمريكا، سيدفع واشنطن إلى قبول الأمر الواقع و”شرعية النظام”.
لا تزال واشنطن متمسكة بفرض “الضغط الأقصى” على دمشق. لكن الجديد، قيام أمريكا والاتحاد الأوروبي بحملة علاقات عامة منسقة لشرح أهداف العقوبات الاقتصادية.
فقد أصدر الاتحاد الأوروبي قبل أيام وثيقة معايير وإرشادات تقديم المساعدات والأدوات الطبية، للقول بأنها مستثناة من العقوبات الاقتصادية بما يعني أنها لا تساهم في عرقلة معالجة تفشي “كورونا”.
يرى مسؤولون أمريكيون ثلاث إشارات لنجاح مقاربة “الضغط الأقصى”، هي: الأولى، بدء إيران بسحب تكتيكي لميليشيات غير سورية، كانت مقيمة في البلاد. الثانية، ظهور رامي مخلوف ابن خال الرئيس بشار الأسد وحديث عن توتر في دمشق جراء الأزمة الاقتصادية. الثالثة، تبادل الحملات والانتقادات الإعلامية بين وسائل إعلام مقربة من مراكز القرار في دمشق وموسكو.
اختبار هذه المؤشرات، رهن التفاوض المحتمل بين الأمريكيين والروس لمعرفة ما إذا كانت جدية تعكس تغييراً في الاتجاه لعقد صفقة حول سوريا مع قرب انتهاء ولاية الرئيس دونالد ترامب… أو أنها جولة أخرى من شراء الوقت عبر بيع “وهم تغيير المواقف”.
روسيا التي رفعت من مستوى دورها العالمي، وحققت مكاسب استراتيجية كبيرة، بعد عودتها الى الشرق الأوسط، عبر البوابة السورية، مهددة اليوم بـ “الانسداد الشرق أوسطي” على حد قول الخبيرين الروسيين: أنطون مارداسوف وكيريل سيميونوف، من غير المعقول أن تسمح لنظام الأسد بتدمير مكتسباتها.
صحيح أن طرق باب واشنطن سيكون من أبغض الأمور بالنسبة للروس، لكنه يظل أهون شراً من “أفغنة” سوريا.