ضرورة مواجهة الخطر الإيراني في المنطقة
إيران دولة جارة نتقاسم معها التاريخ والجغرافيا والثقافة والمصير المشترك. وقدَر العلاقات بين الدول العربية وإيران أن تظل رهينة «الحتمية الجغرافية»، حيث تتغير السياسة لكن تبقى الجغرافيا ثابتة؛ فلا تستطيع الدول العربية الهجرة إلى منطقة أخرى ولا تستطيع إيران تغيير مكانها أيضاً.
لكن المؤسف هو عدم التعايش الواضح، سياسياً وأمنياً، بين غالبية الدول العربية مع الجارة إيران نظراً إلى اعتبارات مرتبطة بشكل مباشر بسلوك إيران في المنطقة، لا سيما منذ الثورة الإيرانية عام 1979. ولسنا بحاجة إلى التذكير أن النظام الإيراني يرتكز في تدخلاته في شؤون المنطقة على قواعد دستورية وآيديولوجية، تغلّفها نزعة قومية فارسية، ورغبة في استخدام ما لديه من أوراق ضغط جناها من استراتيجيته التوسعية في المنطقة، وتوظيفها في علاقاته الإقليمية والدولية.
قد لا نبالغ إذا قلنا إن إيران أكثر دولة سعت إلى التدخل في شؤون المنطقة، الأمر الذي قاد إلى قدْر أكبر من التأزم في الشؤون الإقليمية، وأسهم في اتساع دائرة الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة، وسلكت في تنفيذ استراتيجيتها العبثية والتوسعية طرقاً شتى، من التدخل المباشر في شؤون بعض الدول العربية إلى خلق الميليشيات وفق أسس مذهبية، وزرع الخلايا النائمة في بعض الدول للنيل من استقرارها عند الحاجة، وانتهاءً بتهديدها للسلم والأمن الإقليمي من خلال برنامجها النووي وتطوير قدراتها في مجال الصواريخ الباليستية، وكذلك الطائرات من دون طيار وتزويد الميليشيات التابعة لها بذلك، واحتلالها الجزر الإماراتية الثلاث ورفضها الدعوات الكثيرة والمتكررة لحل هذا الخلاف عبر الطرق الدبلوماسية من خلال التحكيم الدولي وقواعد القانون الدولي.
ومع أن المنطقة العربية لا تجني فوائد من التأزم الإقليمي، إلا أنها متضررة أيضاً من إطلاق يد إيران في المنطقة، والذي تزايد بشكل ملحوظ منذ التوصل إلى الاتفاق مع الدول الكبرى حول برنامجها النووي في يونيو (حزيران) 2015. ومنذ انسحاب واشنطن من هذا الاتفاق في شهر مايو (أيار) الماضي، وتبنيها خطاً متشدداً حيال سلوك إيران الإقليمي، تتصاعد حالياً الضغوط على إيران داخلياً وخارجياً، ولا يزال النظام الإيراني يكابر ويعاند ويتمسك بنهجه المتصلب في التعامل مع العديد من القضايا المهمة، لا سيما ما يتعلق بالعلاقة مع الجوار العربي وتطوير صناعة إيران الصاروخية وطبيعة برنامجها النووي، في ظل الحديث عن تهديد إيراني ببدء تخصيب اليورانيوم بنسبة تتجاوز نسبة 3.6% المسموح بها في الاتفاق النووي.
غنيٌّ عن القول أيضاً أن الولايات المتحدة هي الدولة الأقدر على تغيير مسار الأمور في المنطقة وأجزاء أخرى من العالم عندما تصل إلى قرار فعلي حول ذلك؛ فلديها الأذرع الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية لعمل الكثير، كونها القوة الأكبر على الساحة الدولية، والمعنية بشكل أكثر بشؤون الشرق الأوسط. ومهما يكن لديها من حسابات تتعلق بمصالحها، وتحقيق أكبر قدر من الاستفادة من قضايا المنطقة وفق معادلة استراتيجية تتماشى مع المصالح الأميركية، إلا أن موقفها الأخير المعارض والضاغط على إيران شكَّل ضربة موجعة للنظام الإيراني من دون أدنى شك.
وقد تضمنت وثيقة «استراتيجية الأمن القومي» الأميركية الصادرة في سبتمبر (أيلول) 2017، مجموعة من الأهداف، منها السعي لشرق أوسط خالٍ من الإرهاب والإرهابيين، ولا تسوده قوة معادية للولايات المتحدة. ومعروف أن إيران متهمة بدعم الإرهاب، وآوت بعض رموز «القاعدة»، وتحاول التوسع في المنطقة والسيطرة عليها بشكل أو آخر.
ويمكن القول في هذا الشأن إن القيادة الإيرانية تدرك تشدد الموقف الأميركي تجاهها، لكنها تكابر وتعاند، وبدلاً من تغيير سلوكها العبثي في المنطقة، تراهن على عامل الوقت كما هي عادتها، وقد أثبتت براعة في عملية شراء الوقت في العقود الماضية خلال خلافها مع المجتمع الدولي، ويتوقع أن تفعل نفس الشيء الآن، خصوصاً في ظل قرب دوران عجلة الحملة الانتخابية الأميركية منتصف هذا العام، وما يصاحبها من احتمالات وسياقات كثيرة.
الواضح أن الأمور مع إيران تتأزم على أصعدة عديدة، لدرجة جعلت حتى الدول الراغبة في علاقات وثيقة مع إيران، مثل الدول الأوروبية، تطالبها بالكف عن تدخلاتها الإقليمية وتطوير صناعتها الصاروخية، وأهمية مراعاة هموم الدول العربية وغير العربية في هذا الشأن.
إمكانية أن تستجيب إيران لذلك محل شك كبير، عطفاً على تاريخ النظام الإيراني في المنطقة خلال العقود الأربعة الماضية، ولاعتبارات تتعلق بالسياسة الداخلية والتوازنات داخل النظام الإيراني.
هنا يمكن القول: إن هناك حاجةً ماسةً إلى استراتيجية «احتواء فعال» لإيران ونفوذها في المنطقة، تسخَّر فيه الإمكانيات المتاحة كافة، وبما يتطلبه ذلك من بناء تحالفات وتوظيف أمثل لجميع الموارد، وصوغ خطط بديلة لكل الاحتمالات. حيث إن بقاء المنطقة في دوامة عدم الاستقرار الذي يعود، من بين جملة أمور أخرى، إلى النزعة التوسعية الإيرانية ونشر التأزم المذهبي داخل المجتمعات العربية وبين الدول، ونشر الميليشيات المسلحة، أصبح أمراً لا يمكن تحمله، بل تجب مواجهته بكل قوة. وقد كان الموقف العربي واضحاً في رفض وإدانة التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للدول العربية في مناسبات ومنابر عدة.
* الأمين العام المساعد للشؤون السياسية في جامعة الدول العربية