صفقة القرن.. ماذا لو أخذ الفلسطينيون الأموال وهربوا؟
يرى جيمس زغبي رئيس المعهد العربي الأمريكي وأحد مؤسسيه أن مستشار الرئيس الأمريكي وصهره جاريد تجاهل السبب الحقيقي وراء عدم تمكُّن الاقتصاد الفلسطيني من «الانطلاق» في طريق النمو مطلقاً، وهو الاحتلال الإسرائيلي المتواصل الذي رفض التنازل عن سلطته، وقدم طرحاً ربما يبدو غريباً بعض الشيء.
طرح زغبي الذي نشره موقع “Lobe Log” الأمريكي يتمحور حول فرضية ملخصها ماذا لو جرب الفلسطينيون الأسلوب الإسرائيلي في التعامل على سبيل التغيير، فماذا قال؟
لم أكن حاضراً في قمة «السلام من أجل الرخاء»، لكنني استمعت إلى بعض الخطابات وقرأت الوثائق التي أصدرها البيت الأبيض حول الحدث. ولم يغير أي شيء رأيته أو قرأته اعتقادي بأن القضية برمتها كانت أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. ومع ذلك، خطرت لي فكرة جنونية، ولكن الحديث عنها سيأتي لاحقاً.
لا جديد يذكر في خطة كوشنر
اسمحوا لي أن أوضح في البداية أنني من محبي تخيُّل المستقبل. خلال إدارة كلينتون، كان شعاري فيما يتعلق بالقضية الإسرائيلية الفلسطينية هو أن المطلوب «رؤية مستقبلية شديدة الإقناع تجذب الناس جذباً». وكان الأمل في إيجاد حل سياسي يمكن أن يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية لا يزال حاضراً حينذاك.
ومثل هذه الرؤية هي ما دفعت ياسر عرفات إلى تخيل أن غزة ستصبح مثل سنغافورة بعد الاستقلال. إذ يمكن للفلسطينيين، في ظل السلام والحرية، ربط الضفة الغربية بغزة. ويمكنهم أيضاً بناء ميناء بحري ومطار، وجذب الاستثمارات، وإنشاء الشركات، وتحويلها إلى مركز تجاري ووجهة سياحية.
وكانت هناك أفكار عظيمة أخرى. وفي الواقع، بعيداً عن عجرفة جاريد كوشنر وتدخله كأنه صاحب حق، لم تحو رؤيته شيئاً جديداً، لأن الفلسطينيين تخيلوا بالفعل مثل هذا المستقبل.
إسرائيل تدمر كل شيء
لكن جميعهم اصطدموا بالواقع عندما أغلقت إسرائيل الحدود بعد مذبحة الحرم الإبراهيمي التي نفذتها إسرائيل في حق المصلين المسلمين في مدينة الخليل؛ وأقامت المئات من نقاط التفتيش العقابية البحتة في الضفة الغربية؛ وفصلت القدس الشرقية عن بقية الأراضي المحتلة؛ وبنت جداراً داخل حدود 67 وأنشأت شبكة من المواقع العسكرية والمستوطنات في وادي الأردن، مما حرم الفلسطينيين من الوصول الكامل إلى ما يقرب من 25% من حقولهم الخصبة؛ واتبعت سياسات عقاب جماعي مشددة لقمع الملايين من المدنيين الأبرياء وإذلالهم وتحقيرهم؛ وحرمت الفلسطينيين من الوصول إلى أكثر من 80% من أراضيهم ومواردهم الطبيعية؛ وحاصرت غزة وضيقت الخناق عليها؛ وبدأت برنامجاً هائلاً للتوسع الاستيطاني الذي زاد عدد الإسرائيليين في الضفة الغربية بمقدار أربعة أضعاف تقريباً ليصل إلى أكثر من 620 ألف مستوطن.
إلقاء اللوم على الضحية
حسناً، أعرف أن كوشنر حذَّر في خطابه من الأشخاص السلبيين أمثالي، الذين يستحضرون جدالات الماضي القديمة ويلقون باللوم على إسرائيل في كل شيء. لكن من المهم الإشارة إلى أن كوشنر، فيما يعفي الإسرائيليين من المسؤولية بالكامل، شارك بحصته من اللوم. عدا أنه ألقى باللوم الكامل على الفلسطينيين مباشرة، كما لو أن جميع مشكلات الفلسطينيين كانت من صنعهم. لقد كنتُ شديد القرب من هذا الوضع لفترة طويلة جداً، وفي حين أنني قد أنتقد السلطة الفلسطينية المتحجرة المجهدة والتكتيكات العقيمة شديدة الحماقة التي تتبعها حماس، فإن مشكلات الفلسطينيين ناتجة عن موقف عصيب ولّدته انحرافات نتجت بدورها عن السياسات الإسرائيلية الوحشية والقمعية. وإلقاء اللوم على الفلسطينيين لا يعني سوى إلقاء اللوم على الضحية وغض الطرف عن الجلاد.
والحقيقة هي أن هناك سبباً وراء عدم تمكُّن الاقتصاد الفلسطيني من «الانطلاق» في طريق النمو مطلقاً، إذ حُرم الفلسطينيون فرصة النمو بسبب الاحتلال المتواصل الذي رفض التنازل عن سلطته.
ادعاءات ترامب السخيفة
ومما زاد من انفصال كوشنر عن الواقع افتقاره إلى فهم ما يتعلق بتأثير السياسات التي تتبعها إدارته وسخافة ادعاءاته التي تثير السخرية بأنه والرئيس ترامب «لم ينفضا أيديهما من الفلسطينيين» وما زالا يهتمان بهم! لكن فريق ترامب تغاضى عن استيلاء إسرائيل على الأراضي، وتوسيع مستوطناتها، و»تقنين» البؤر الاستيطانية، وهدم المنازل. وبالإضافة إلى نقلهم السفارة الأمريكية إلى القدس الشرقية، فقد تغاضوا عن السياسات الإسرائيلية التي رسخت سيطرتها وساعدتها على توسيع مجمعات المستوطنين في القدس الشرقية بل ويشيرون الآن إلى أنهم يدعمون المزيد من ضم الأراضي في أجزاء أخرى من الضفة الغربية.
وقد خفضوا كل المساعدات التي يقدمونها للمؤسسات الفلسطينية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس. ولذا فإن إشارتهم الآن إلى أنهم يريدون «تمكين الفلسطينيين» من خلال التعليم والرعاية الصحية ليس سوى خداعاً على أفضل تقدير.
ماذا لو جرب الفلسطينيون فن التضليل الإسرائيلي؟
من هذا المنطلق، عندما استمعت إلى خطاب كوشنر واطلعت على خططه، مستاءً من افتقارها للواقعية، وسذاجتها، وأسلوبها المتعالي وتجنبها الاعتراف بما أوصلنا إلى ما نحن فيه، خطرت لي فكرة جنونية: تصور ما قد يحدث إذا أخذ الفلسطينيون الأموال وهربوا؟
أتقنت إسرائيل منذ نشأتها فن التضليل. إذ وافق الإسرائيليون كثيراً على شروط لا ينتوون احترامها بأي حال. ولكن ما كانوا يفعلونه هو أن يجنوا المكاسب ويمضوا في طريقهم. في البداية، وافقوا على التقسيم ثم بدأوا في التخطيط لتطهير المنطقة عرقياً ليجعلوا دولتهم الجديدة، على حد تعبير بن غوريون، «أكبر وأشد يهودية».
وقد وقعوا على اتفاقيات كامب ديفيد دون أن يكون لديهم أدنى نية للوفاء بالحد الأدنى لمتطلبات الفلسطينيين.
وفعلوا الشيء نفسه في اتفاقتيّ أوسلو وواي ريفر. وتعهدوا مراراً بـ»تجميد الاستيطان»، دون أن تكون لديهم النية للتوقف عن بسط سيطرتهم على الأراضي المحتلة. لذا، ماذا لو قرر الفلسطينيون ممارسة اللعبة نفسها؟ ماذا لو فعلوا ما فعله الإسرائيليون؟ ماذا لو قرروا بناء الاقتصاد الفلسطيني وتحسين ظروف المعيشة للفلسطينيين، فيما يركزون على نتائج المدى البعيد؟
والتظاهر بالتعاون لا يلغي بأي حال الحقوق الفلسطينية. فلا يلغي التمكين الاقتصادي الحقوق السياسية، ولن يشتري الصمت عن حرمانهم هذه الحقوق. إذ أن التطلعات الفلسطينية لا يمكن شراؤها وبيعها مقابل ثمن ما.
دعونا نواجه الحقيقة، هناك دولة واحدة ناشئة على أرض الواقع، وهي دولة فصل عنصري. والسياسة الإسرائيلية هي ما أدت إليها، وخطة كوشنر لن تؤدي إلا إلى ترسيخها. وفي الوقت الحاضر، ينتمي غالبية السكان بين النهر والبحر إلى العرب. ولكن المشكلة هي أن الفلسطينيين يفتقرون إلى الحقوق والسلطة، ويفتقرون إلى استراتيجية لاكتساب القوة التي سيحتاجونها لتأمين حقوقهم.
فماذا لو أنهم استغلوا الفرصة التي توفرها خطة كوشنر لبناء مجتمع فلسطيني كخطوة مهمة على طريق تطوير القوة لتأمين الحقوق والحريات السياسية؟ في الواقع، يبين لنا التاريخ أن الشعوب تصبح أقل ميلاً للمطالبة بالحقوق السياسية عندما تعاني ضغوطاً اقتصادية. ولا تتحول إلى المطالبة بالمزيد من الحرية السياسية إلا عندما يبدأ اقتصادها في التحسن.
طريقة إسرائيلية
لذا، إذا كان كوشنر يعد بفتح الضفة الغربية عن طريق إزالة الحواجز للسفر؛ ولربط الضفة الغربية بغزة؛ ولجعل غزة وجهة سياحية؛ ولتشجيع الاستثمار في المؤسسات الفلسطينية؛ وأمور أخرى، فماذا لو أخذ الفلسطينيون الأموال وهربوا؟ ماذا لو استغل الفلسطينيون هذا العرض لتطوير رؤية استراتيجية جديدة، واتخاذ الخطوات التي من شأنها تحويل واقع الدولة الواحدة الناشئة إلى دولة علمانية ديمقراطية؟
من الجائز أن كوشنر لا يدرك ما قد يصبح عليه مجتمع فلسطيني يتمتع بالسلطة والازدهار. وقد تكون سذاجة بالغة منه ألا يدرك أن الإسرائيليين سيرفضون رفضاً باتاً فرصة لبناء مجتمع فلسطيني يتمتع بالرخاء والسلطة. وهنا تكمن مشكلته، وليس الفلسطينيين.
من المثير أن نتخيل مستقبلاً يمارس فيه الفلسطينيون هذه اللعبة برؤية سياسية واستراتيجية لا ترى أن الرخاء هو نهاية الطريق، بل تمهيد للطريق نحو التمكين الفلسطيني والسلطة الكاملة في واقع دولة واحدة جديدة. في هذا الصدد، قد نرى خطة كوشنر، ليس باعتبارها نهجاً «شديد البراعة» لمواصلة إخضاع الفلسطينيين للاحتلال الإسرائيلي، ولكن باعتبارها نهجاً ساذجاً يؤدي إلى نتيجة غير مقصودة ستؤدي بدورها، بعد جيل من الآن، إلى واقع جديد كلياً.
إسرائيل لن تسمح لهم
وقد يبدي الإسرائيليون والأمريكيون تذمرهم، لكنهم هم من حفروا هذه الحفرة لأنفسهم. وربما يتمكن الفلسطينيون يوماً من بناء منتجع في غزة أو يافا ويسمونه باسم جاريد كوشنر، بصفته مؤسس الدولة الديمقراطية العلمانية الجديدة التي ستمتد بين النهر والبحر.
وإذا لم تكن هذه هي الرؤية المستقبلية التي تسعى إليها الولايات المتحدة وإسرائيل تحديداً، فهذا ما ستنتهيان إليه. سيواصل الفلسطينيون مطالبتهم بالحرية والحقوق وباعتبارهم أغلبية تتمتع بالصلاحيات، فانتفاضهم وتأمينهم تلك الحقوق ليسا سوى مسألة وقت.
وإذا لم يكن هذا ما تريده الولايات المتحدة وإسرائيل، فقد يجدر بهما العودة إلى المربع الأول واستجماع شجاعتهما وتصميمهما لإنهاء الاحتلال وإمداد الفلسطينيين بالعدالة والحرية التي يستحقونها ويحتاجونها لينعموا برخاء حقيقي في دولتهم المستقلة.