صديقي الكردي
أن يكون لك صديقا كرديا، فهذا يعني باختصار أن خزائن أسرار وأساطير الكرد ستفتح لك أبوابها على مصراعيها، وربما تغدو خبيرا عالما بالحالة الكردية في أقل فترة زمنية ممكنة.
والحقيقة أني لا أعلم إن كان الأكراد بطبعهم حكائين، أو أن هذه صفة اختص بها أصدقائي الأكراد الذين عرفتهم، خاصة ذلك الذي لم يمهله القدر أن يكون روائيا.
حكى لي هذا الصديق البارع في الحكاية والتحليل كيف وقف القدر ضد رغبته في أن يكون روائيا، وانتهت مخطوطتا روايتيه اليتيمتين إلى العدم.
روايته الأولى كتبها في قطعة من أرض كردستان – التي ستتخيل مطولا إلى أي كردستان تنتمي، وإن كان عقلك سيذهب بك فورا إلى كردستان العراق- وكانت توثق حال أكراد تركيا الذين لجئوا إلى بلاده هربا من أهوال القتل والإبادة التي عايشوها.. قابل كثير منهم وكان يسجل في ذاكرته، ثم بدأ يدون روايته… أوضاعهم هم أيضا ككرد لم تكن بأفضل من غيرهم.. عانوا هم أيضا كثيرا، وتألموا وأدمتهم الخطوب… ولم يجد بدا من أن يدفن وليدته، ويهيل عليها التراب.. مئات الصفحات المسودة بتاريخ القهر والمظلومية لم يجد لها مكان إلا باطن الأرض.
باطن الأرض بالنسبة للكرد في هذه الفترة خير مكان يمكن أن يحفظوا فيه نفائسهم التي يخشون عليها العطب .. البوار.. أو يد السلطة القامعة..
وقتها كانت الحالة ربما تذهب به إلى القتل، لو جرى أن تم ضبطه والرواية في داره أو بين أوراقه.
دفنها في باطن الأرض داخل دار أحدهم، وقال له بألا يخرجها إلا إذا جاءه هو أو رسول سيأتيه بأمارة تتمثل في معرفته لمكانها.. غادر أرضه لبلاد تشيله وبلاد تحطه.. أوقن وقتها أن ما من أمن في أرض الكرد.. لكنه قرر أن يخرج خبيئته، معتبرا أن أوان نشرها قد حان… ارسل الرسول، الذي حصل على الأوراق المدفونة.. لكنه ظل ينتظر عودته سنة.. اثنتين.. ثلاثة.. عشرة ولم يأت..
ببلاهه سألته حينها: أخذها واختفى؟؟ وعقل بالي يقول: ربما سرقها.. فيرد: في بلادنا قد يخرج الرجل فلا يعود ولا نراه مجددا.. فنوقن في قراره أنفسنا أنهم حصدوا روحه فنقرأ له الفاتحة.
ببلاهة أكثر أقول له: بهذه السهولة؟ فيرد : وأكثر ويبدأ في سرد رواية أو اثنتين لمعايشته لمراحل هروب رأى فيها بأم عينه من قتلتهم نيران السلطة في رحلات هروب عديدة بين الجبال والوديان، في مراحل حروب كثيرة.
صديقي الروائي الذي لم يمهله قدره أن يكون روائيا، فأضحى سياسيا يتجول بين البلدان حامل قضية شعبه المظلوم، قرر مرة أخرى أن يكتب رواية.. الوضع تغير في هذه الفترة.. التقييد عليهم انتهت طبيعته الدموية السابقة.. لكن لم تنتهي في باله أن يقدم قضية شعبه عبر عمل روائي – حلم أن يصل إلى كل أرجاء المعمورة، ليكون لسان حال لقضيته – هذه المرة العالم تغير.. التقنية الحديثة دخلت مع أجهزة الحاسوب.. وعلى جهاز حاسوبه بدأ في الكتابة التي كانت بطيئة عن السابق بفعل أزرار الجهاز التي يتجول بينها ببطء.. فالتجربة حديثة ولأول مرة يبدأ في استعمال الجهاز ويحاول السيطرة على سيل أفكاره الذي لا تقوى يده على مجاراتها وهي تطبع الحروف ببطء لتغدو كلمات تتراص فتكون جمل روايته التي تتحدث عن حالة الكرد..
تكتمل الرواية.. ويضعها على ( C.D) ثم إذا بالمادة تمحى وما من تقنيات وقتها لإعادتها.
يقسم الصديق الكردي على ألا يفكر في أن يكون روائيا بأي حال ويقرر أن يتخذ مسار آخر يدعو فيه لدعم قضية شعبه.. ويتحرك مغردا صادحا بقضيته.. حكاء بدون حكاية مكتوبة.. راويا لحقيقة شعبه، مستغلا في أحيان كثيرة كافة فنون الرواية من تشويق وربما أسطورة ليدعم فكرة بطولة هذا الشعب الذي عانى ويعاني وهو يحلم بدولة تجمع عرق شهد ما أوجاعا لم يشهدها غيره.
أصبح صديقي الذي لم يمهله القدر ليكون روائيا بطلا في رواية الحياة متحركا مع شخوص حالته الكردية من أجل دعم قضيته بكل السبل.. ولأنه حكاء بلا منازع فهو جاهز باستمرار للرد على الاستفسارات والتساؤلات.. سيهديك كتاب أو مجموعة كتب أو حتى ما يشبه المكتبة حول قضيته.. سيدعمك بكل جديد يخصها وحتى تغدو بين عشية وضحاها عالما بحالة الكرد وبقضيتهم..
لكن بالرغم من كل هذا سيتركك وأنت تبحث عن كثير من الإجابات لتساؤلات يطرحها عقلك حول الأكراد.. الذين سيوصلك في النهاية إلى أنهم نافذين في كل مكان وزمان.. سيسيق لك رواية أن نفرتييتي كردية، كما أنك تعرف أن صلاح الدين الأيوبي كرديا.. سيقول لك أيضا أن محمد علي كرديا ومن ثم فإن الأسرة العلوية التي حكمت مصر في فترة غاية في الأهمية من تاريخها أيضا كردا… ويتركك لتبحث وتبحث وللأسف لن تجد في هذه الأمور إلا روايات كردية وكتب هي أعمال موسوعية تؤرخ للأكراد.. لكن بلا دلائل تريح عقلك.. بل تزيد مسار التساؤلات بكل الشخوص الذين ستجدهم في هذه الأعمال الموسوعية.. وكأن أبرز العظماء والبارزين في نواحي شتى هم كردا.. فيفتحوا للشك بابا لا يوصد.