صخور «أبولو» تكشف حقائق عن القمر
كانت هناك مهمة أخيرة أمام أول رجل خطى على سطح القمر، نيل آرمسترونج، قبل أن ينزل من هناك. احتاج أول من خطى على سطح القمر إلى جمع أكبر قدر ممكن من الصخور التي يجدها مثيرة للاهتمام. وتعتبر المواد التي جمعها هي أولى العينات لدى البشرية من عالم آخر.
ومع امتلاكه أقل من 10 دقائق على نهاية مسيرته فوق سطح القمر، استخدم آرمسترونغ الملاقط لجمع حوالي 20 صخرة في صندوق صُنع خصيصاً لجمع العينات. ورأى أن ذلك غير كافٍ، فوضع حوالي 6 كيلوغرامات من تربة القمر في الحاوية.
واليوم، يوجد مقدار ملعقة صغيرة من تلك التربة في طبق مُحكم الغلق في مختبر مقفل بلا نوافذ في مركز جونسون للفضاء في هيوستن. إنها قطعة نفيسة من إرث برنامج «أبولو» العلمي العظيم؛ الذي يقرب من حوالي 400 كيلوغرام من صخور القمر.
مختبر «ناسا» لعينات القمر
تقول صحيفة Washington Post الأمريكية، لمدة 50 عاماً، غيّرت أبحاثنا على تلك الصخور مفاهيمنا عن القمر، وكشفت حقائق حول تكوّن القمر وأسباب تلك التضاريس على سطحه. والآن، قررت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) طرح ثلاث عينات جديدة للتحليل؛ عينات لم يمسها عالم من قبل قط.
والتجارب المقبلة، على الصخور المجمدة منذ فترة طويلة والمحفوظة في حاويات محكمة الإغلاق، لا يمكن إجراؤها إلا مرة واحدة، في اللحظة المحددة لفتح العينات. ويقول ريان زيغلر، المسؤول عن العناية بمجموعة الصخور التي جمعها برنامج «أبولو»، إن هذا هو سبب التأخر في إجراء الاختبارات على تلك العينات منذ الحصول عليها من سطح القمر. كانت «ناسا» في انتظار العلماء المناسبين، والتقنيات المناسبة، في الوقت المناسب.
وقال زيغلر إنه مع حلول الذكرى الخمسين هذا العام للمهمة «أبولو 11» وتجدد الاهتمام بالقمر ورحلة العودة المقترحة، فهذا هو الوقت الأنسب.
صُمِّم مختبر «ناسا» لعينات القمر، وهو متاهة من الخزائن المعدنية اللامعة وأرضيات مشمع ناصعة، في سبعينيات القرن الماضي لتخزين الصخور التي جُمعَّت على مدار 6 رحلات إلى القمر.
والمنشأة مُجهزة بنظام متطور لتدفئة وتجديد وتكييف الهواء، مُصمم للحفاظ على الهواء أنقى 1000 مرة من العالم الخارجي، تزوّد المنشأة بنسيم اصطناعي خافت. ولا يدخلها العلماء إلا بعد ارتداء سترات بيضاء وقبعات وأحذية خاصة للحد من التلوث.
وقال زيغلر إن المنشأة تستضيف مجموعة من أكثر الصخور القيمة في النظام الشمسي، بالنظر إلى ما كشفته تلك الصخور للعلماء حتى الآن.
عيّنات أبولو تخبرنا كيف تكون القمر؟
قبل رحلة «أبلولو 11″، لم يكن العلماء متفقين حول نشأة القمر. فهو غير متطابق مع النظام الشمسي، لأنه أكبر بالنسبة لكوكبه من أي قمر آخر. تكهّن البعض بأنه كان جسيماً مستقلاً إلى أن «استحوذت» عليه جاذبية الأرض. وافترض آخرون أن القمر تكوّن في مدار بجانب الأرض عندما كانت الكواكب تتكون من قرص الغبار الكوني البدائي. بينما تذكر عدة كتب دراسية في المراحل المختلفة إنه كان جزءاً من الأرض وانفصل عنها، وأن المحيط الهادي هو الأثر المتبقي من هذا الانفصال.
وتخلص العلماء من كل تلك النظريات بمجرد فحص أولى صخور «أبولو». كانت المواد المكوّنة للقمر قديمة على نحو غير عادي، ترجع إلى 4.5 مليار سنة. وبالرغم من احتوائها على العديد من المواد الكيميائية مثل الصخور الأرضية، فهي تفتقر بصورة مذهلة إلى «المواد المتطايرة»؛ مثل جزئيات المياه وثاني أوكسيد الكربون التي تتبخر بسهولة عند التسخين. وبعض خصائص تلك الصخور لا تنتج سوى عن كوارث كونية؛ مثل مجموعة من النيازك أو حمم بركانية أو وابل من الجسيمات الشمسية.
وفي المؤتمر الأول لمناقشة النتائج الأولية بعد 6 أشهر من عودة «أبولو 11» إلى الأرض، لم يتمكن أحد من التوصل إلى تفسير لما تعنيه تلك الأدلة.
وعند اقتراب نهاية المؤتمر، أوضح عالم الجيولوجيا، جون وود، كيف يمكن جمع تلك الألغاز والأدلة سوياً. أدرك أن البقع البيضاء في عينة التربة التي جمعها آرمسترونغ على عُجالة تنتمي إلى نوع من الصخور يُسمى الآنورثوسايت، والتي تتكون عند بلورة مجموعات الفلسبار المعدنية من الصخور المنصهرة.
وفي مرحلة ما، استنتج وود أن القمر لابد وأنه مغطى بالكامل بمحيط الصهارة، تطفو فيه صخور الآنورثوسايت مثل القمم الجليدية. وهذه الكتلة المنصهرة هي ما تظهر بتوهج أحمر دموي في الليل على كوكب الأرض.
ولإثبات نظرية وود، احتاج العلماء إلى عينات أكبر وأفضل. وحصلوا على مبتغاهم عام 1971، عندما اكتشف رائدا فضاء مهمة «أبولو 15″، جيمس إروين وديفيد سكوت، نصف رطل من الآنورثوسايت على حافة فوهة بركان في النصف الشمالي من القمر.
وعند تنظيف المحيط الخارجي للصخرة، أدرك سكوت ما كان يحمله وبدأ يصيح في إدوين «انظر! تخيل ماذا وجدنا، انظر! اعتقد أننا وجدنا ما ذهبنا لأجله. ما أجمله!».
صخرة التكوين
أصبحت هذه العينة تُعرف بـ «صخرة التكوين«، نسبةً لدورها في مساعدة العلماء في الكشف عن قصة نشأة القمر. وهي موجودة الآن بداخل علبة زجاجية خاصة، على مسافة غير بعيدة من الطبق الذي يحتوي على تربة آرمسترونغ.
وقال زيغلر: «تلك العينات تخبرنا كيف تكوّن القمر». تقول النظرية، إنَّه منذ حوالي 4.5 مليار سنة، تحطم كوكب عملاق قديم اسمه «ثيا»، على اسم «أم إلهة القمر» اليونانية، ليتشكل كوكب الأرض حديث التكوين. واصطدم كوكب «ثيا» وكوكب الأرض الأولي وتناثرت ملايين الأطنان من المواد في الفضاء. تجمعت بعض الصخور في مدار حول الأرض، ونشأ مدار الأرض. وغرقت العناصر الثقيلة إلى مركز القمر، بينما طفت المعادن الخفيفة أعلى محيط الصهارة، لتشكّل قشرة رقيقة من الآنورثوسايت. والصخور والغبار التي استعادها آرمسترونغ وسكوت من آثار هذه الاضطرابات القديمة.
وشكك العديد من الباحثين في «فرضية الاصطدام العملاق» عند طرحها أول مرة في منتصف سبعينيات القرن الماضي. ويتذكر عالم الفيزياء الفلكية، ألاستير كاميرون، أحد واضعي تلك النظرية، زميلاً له رفض أحد عروضه التقديمية ووصفها بـ «الغموض الفلكي». بدت الفكرة اعتباطية، وكارثية، وغريبة للغاية.
لكن كاميرون أشار إلى أن الدليل نفسه غريب للغاية، ونظرية الاصطدام العملاق هي فقط ما تتناسب مع تلك الأدلة. وأوضح أن الانفجار كان كبيراً للغاية بحيث خلق محيط صهارة بهذا الحجم الكبير وتكونت عليه طبقة الآنورثوسايت. ولهذا السبب أيضاً تظهر المكونات الكيميائية متشابهة بين الأرض والقمر؛ لأنهما تكونا من دوامة الصخور المفتتة نفسها. وعلل بذلك أيضاً فقدان المواد المتطايرة، إذ افترض فقدانها في الفضاء عند اصطدام كوكبي الأرض و «ثيا».
وتدعم أيضاً البيانات من التجارب العلمية التي أجراها رواد الفضاء أثناء وجودهم على سطح القمر تلك النظرية. كشفت مقاييس الزلازل التي نشرها بز ألدرن، رفيق آرمسترونغ، وخلفاؤهم في رحلات «أوبلو» اللاحقة أن القمر يحتوي على كمية قليلة نسبياً من الحديد في مركزه. وبعد الاصطدام، كما تفترض النظرية، غرقت العناصر الثقيلة مثل الحديد إلى مركز الأرض بينما انفجرت العناصر الأخف بعيداً ليتشكل القمر. (ويدعم ذلك أن الأرض هي الكوكب الأعلى كثافة في المجموعة الشمسية).
صخور أبولو تساعد على استكشاف ما بعد القمر
وقال زيغلر إن الصخور الأخرى ساعدتنا على توسيع «رؤيتنا لتتجاوز القمر»، إلى تاريخ المجموعة الشمسية بأكملها. معظم السجلات الجيولوجية الأرضية تعرضت للتعرية بسبب المياه والرياح أو اختفت نتيجة حركة الصفائح التكتونية، ولكن سطح القمر لا يزال يحتفظ بعلامة لكل فوهة بركان انفجر عليه وكل نيزك اصطدم به. هذه «العينات القمرية» تقدم دليلاً على عصر زمني كان يُسمى «القصف الشديد المتأخر»، إذ كانت الكواكب الداخلية تتعرض لوابل من الكويكبات والجسيمات الفضائية، في فترة زمنية قريبة من وقت نشأة الحياة على سطح الأرض. ومن خلال حساب الفوهات والحفر في المناطق المعروف أعمارها على سطح القمر من عينات «أبولو»، طوّر العلماء نظاماً لتقدير أعمار العلامات الموجودة على الكواكب الأخرى.
لم تكشف دراسة المواد من القمر بعد تاريخه الكامل. حتى الآن، لم يكتشف أي من الباحثين أي آثار لجزيئات كوكب ثيا، المفترض أن اصطدامه مع كوكب الأرض هو ما كوّن القمر. كما لا يمكن للعلماء الاتفاق على كيفية تواجد آثار للمياه داخل العينات، بينما من المفترض أن محيط الصهارة بخّرها كلياً.
وقال زيغلر: «من المؤكد أن القصة لم تنته بعد». وتأمل «ناسا» في أن تساعد العينات الثلاثة المتاحة حديثاً، والتي تمثل نصف ما تحتفظ به وكالة الفضاء من المادة القمرية، في الإجابة عن تلك الأسئلة.
بعض الباحثين سيتفقدون آثار للمياه في الصخرة المحفوظة في مجمد لما يقرب من 50 سنة. بينما سيبحث آخرون عن جزئيات لمواد متطايرة، من بينها المياه، بداخل بلورات زجاجية صغيرة تكونت من الحمم البركانية التي انفجرت منذ مليارات السنين.
ستعمل عدة فرق سوياً لفحص المواد بداخل أنابيب التفريغ محكمة الغلق والتي حفظ بها رواد الفضاء المواد التي جمعوها منذ لحظة وجودهم على القمر، ولم تفتح حتى الآن. وقد تلقي طريقة تراص الصخور وطبقاتها نظرة على الانهيارات الأرضية التي شكّلت تضاريس سطح القمر في غياب عوامل التعرية من الرياح والحياة وعوامل الطقس. وقد تُقدم الغازات الموجودة داخل الأنابيب دليلاً على كيفية تغيّر المادة بسبب الإشعاع، والذي سيساعد العلماء على معرفة المدة التي تعرضت خلالها الصخور للضوء قبل أن يحملها رواد الفضاء بعيداً.
استكشاف المجهول
وبعض التجارب والقياسات، مثل تحليل الغازات، لا يمكن إجراؤها إلا لحظة فتح الحاويات. سيقضي العلماء شهوراً في التحضير والتدريب على التعامل مع تلك العينات قبل اللحظة الحاسمة.
وقالت باربرا كوهين، عالمة الكواكب بمركز غودارد لرحلات الفضاء التابع لوكالة «ناسا»، والتي ستقود فريق تحليل الغازات: «من المثير دائماً أن تخوض في شيء جديد كلياً، ولا نعرف ماذا سنجد».
في الاجتماع السنوي لمؤتمر علوم القمر والكواكب المنعقد في هيوستن هذا الخريف، في الذكرى الخمسين لمناقشة عينات «أبولو 11» لأول مرة، قوبلت الإعلانات عن التجارب المقبلة بعاصفة من التصفيق الحاد.
لم تجمع الولايات المتحدة أي مواد جديدة من القمر منذ آخر هبوط لمركبة «أبولو» عام 1972، ولم تُجلب أي صخور من القمر إلى الأرض منذ بعثة «لونا 24» السوفييتية، غير المأهولة بعدها بأربع سنوات. وهناك خطط للصين لإرسال مهمة جلب عينات هذا العام، بينما وجه الرئيس ترامب وكالة «ناسا» لإعادة رواد الفضاء إلى القمر بحلول عام 2024.
ولكن قانون عام 2011 يمنع العلماء الفيدراليين الأمريكيين من التعاون مع وكالة الفضاء الصينية، ومع نقص تمويل وكالة «ناسا»، تحوم الكثير من الشكوك حول مقترح ترامب لغزو القمر.
وقالت كوهين: «للإجابة عن كل الأسئلة العالقة، نحتاج لتمثيل أكبر لأنواع الصخور على سطح القمر. ولذلك نحتاج إلى العودة هناك».
وأضافت: «لكن في الوقت الحالي، يُعتبر قرار فتح عينات أبولو بمثابة «مهمة صغيرة»؛ وتمثل فرصة أخرى لسبر أغوار قطعة من عالم آخر؛ وفصل جديد في حكاية القمر».