شباب غزة تحدوا الرصاص وقنابل الغاز ووصلوا للسياج الحدودي.. New York Times ترسم المشهد وتجعلك تعيش أجواء المعركة
كان الشاب الفلسطيني إسماعيل يزحف فوق الأرض الوعرة، ممسكاً بقواطع الأسلاك الشائكة في يده، والرصاص ينهال على كل من حوله.
كاد أن يختنق حين مرت مسرعةً سيارات الجيب الإسرائيلية من جواره وهي تمطره بالغاز المسيل للدموع، وعلى بعد أمتار، أصيب رجل برصاصة في ساقه، وخلفه أصيب صبي برصاصةٍ قاتلة في رأسه، بحسب قوله.
في النهاية، حقق إسماعيل، وهو متظاهر في الثالثة والعشرين من عمره، ما جاء من أجله خصيصاً: لمس السياج الفاصل بين غزة وإسرائيل، بحسب ما نقلته صحيفة New York Times الأميركية.
قال إسماعيل: “تلك هي الأولوية، وقد حققناها”.
أكد إسماعيل أنَّه لم يكن يتمنى الموت. ولكن أمس الإثنين 14 مايو/أيار، اليوم الأكثر دموية في غزة منذ حربها مع إسرائيل في 2014، لم يَبدُ حجم المخاطر متناسباً مع المكاسب.
إذ قتل الاحتلال الإسرائيلي على الأقل 60 متظاهراً بحسب وزارة الصحة في غزة، وهو عدد أكبر من عدد المتظاهرين الذين قُتلوا منذ بدء الاحتجاجات عند السياج الحدودي في 30 مارس/آذار الماضي، الذين وصل عددهم إلى 49 متظاهراً.
تحدوا المنطق
إسماعيل هو واحد من آلاف الشباب الفلسطيني الذين تدفقوا نحو السياج، وشاركوا في معركةٍ تتحدى المنطق لإثبات الشجاعة مع الجنود الإسرائيليين المسلحين المصطفين على الجانب الآخر من السياج.
الكثير من الغزيين كانوا غاضبين من قرار الرئيس الأميركي ترمب بنقل السفارة الأميركية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، المدينة المقدسة المتنازع عليها، في احتفالٍ أُقيم بالأمس الإثنين 14 مايو/أيار على بعد حوالي 65 كم.
حدد المتظاهرون أيضاً التاريخ ليوافق عشية الذكرى السبعين ليوم النكبة، 15 مايو/أيار 1948، حين هُجِّرَ مئات الآلاف من الفلسطينيين من بيوتهم في ما يُعرَف الآن بدولة إسرائيل.
وفي الوقت الذي اندفع فيه الشباب المتظاهرين باتجاه السياج، آملين في العبور من خلاله لأراضيهم المحتلة، يعيش الغزيون ظروفاً معدومة، وحياة معزولة، في مناطق يشبهونها بمعسكرات الاعتقال، منذ أن فرضت إسرائيل الحصار على غزة من 11 عاماً.
إسماعيل عاطل عن العمل، ولم يغادر غزة أبداً، ويقضي معظم وقته نائماً بإرادته الخاصة. وتحطَّم حلمه الوحيد القابل للتحقيق بالزواج على صخرة الفقر. إذ لا يمتلك حتى غرفة نوم خاصة به في منزل أسرته.
النساء شاركن أيضاً
مثَّلت التظاهرة الضخمة أيضاً تحدياً واضحاً. فمن بين أوائل الغزّيين الذين تقدموا نحو السياج الحدودي يوم أمس كانت هناك أعدادٌ من النساء المتشحات بالعباءات السوداء، وكانت الكثيرات منهن يحملن حقائب على أكتفاهن ويلوحن بالأعلام الفلسطينية. وتبعتهن نساء أخريات، سجّلن مسيرتهن بكاميرات هواتفهن المحمولة.
وصرخت امرأة ترتدي النقاب: “لا نريد شخصاً أو اثنين للاقتراب من السياج. نحن نحتاج إلى جماعة”.
وبالنسبة لمنظمي المسيرة، ربما تكون النساء قد أقدمن على المجيء لسببٍ آخر، وهو أنَّ الجنود الإسرائيليين ربما لن يقدموا على إطلاق النار على النساء.
امتلأت السماء بالطائرات الإسرائيلية بدون طيار، وبين الحين الآخر، كانت تدوي الرصاصات التي يستهدف بها الجنود الإسرائيليون المتظاهرين واحداً تلو الآخر ويصيبونهم في سيقانهم عادةً، مما يسبب موجةً مؤقتة من الذعر تدفع بعض المتظاهرين للتراجع أو الانسحاب.
كيف كان المشهد على الأرض؟
ولكن زال الشعور بضبط النفس بعد تدفق أعدادٍ ضخمة من المتظاهرين بطول السياج. واختلطت السحب السوداء الناتجة عن حرق المتظاهرين للإطارات لتعتيم الرؤية على الجنود الإسرائيليين بدوامات الغاز المسيل للدموع التي أطلقها الجانب الإسرائيلي. وازداد معدل القنص. ودوّت أصوات سيارات الإسعاف الفلسطينية ذهاباً وإياباً. وارتفعت أعداد الضحايا سريعاً.
بدا المشهد مثل لوحةٍ ضخمة لساحة معركة قديمة. وخلف مركز منطقة التظاهر، تواجدت مساحاتٌ للصلاة، ووجبات الطعام الخفيفة، والرعاية الطبية، وحتى الترفيه. كان المتظاهرون يتحدثون أو يتناولون الطعام، بينما كان يعبر رجال الإنقاذ وهم يصرخون، ويحملون الضحايا والجرحى.
وبعد صلاة الظهر، حث رجال الدين وقادة الفصائل المسلحة في غزة بقيادة حماس آلاف المصلين للانضمام إلى المتظاهرين.
ووجه عدة متحدثين أقسى الكلمات للرئيس الأميركي دونالد ترمب، وقراره بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، التي يريد الفلسطينيون أن يعلنوها عاصمةً لهم في تطلعاتهم المستقبلية لإنشاء دولة.
وقال الشيخ مروان أبو راس، بينما كان يرفع إصبعه في الهواء مثل آلافٍ آخرين: “أميركا هي الشيطان الأعظم. الآن نتجه إلى القدس بملايين الشهداء. قد نموت، ولكنَّ فلسطين ستبقى”.
ويبدو أنَّ خطبته كانت مجديةً. ففي أثناء حديثه، ارتفع الدخان في السماء، وتحرك الرجال نحو السياج.
بحلول المساء، احتدمت المواجهة بالدوي والانفجارات. سقطت قذيفة دبابة إسرائيلية في حقل خيار خلف منطقة المظاهرات، ولكنَّها لم تصب أحداً. وأطلقت طائرة بدون طيار وابلاً من قنابل الغاز المسيل للدموع التي سقطت ولفت في الهواء مفرقةً المتظاهرين.
وفي خلفية التظاهرة، واصلت أسيل ناصر (12 عاماً) الصمود. كانت تُلقي قصيدةً عن فضيلة الجهاد ضد الصهاينة أمام كاميرا فيديو يمسكها أخوها. ولم تمنعها المخاطر بحسب تعبير أبيها خليل ناصر (46 عاماً)، المسؤول في وزارة التربية والتعليم، الذي أحضرها معه إلى التظاهرات. وقال: “سيشرفنا أن تستشهد برصاص قوات الاحتلال”.
قاطعت قذيفة جديدة الأب، إذ قصفت غارة جوية إسرائيلية مبنًى على بعد كيلومترات في مدينة غزة. لقد كان هذا القصف الخامس ذلك المساء، وكان المتظاهرون قد بدأوا في الابتعاد. حمل بعضهم التذكارات، مثل الأسلاك الشائكة التي اختطفوها من السياج. ولوَّح رجل وجهه مغطًى بوشاح بزوجٍ من قواطع الأسلاك. وعندما سُئِلَ عمَّا إذا كان الأمر يستحق كل هذا العناء، استهجن، وقال: “هذا هو الطبيعي هنا”.
رحلت أسيل ناصر وأبوها أيضاً، وقالوا إنَّهم سيعودون يوم الثلاثاء لمزيدٍ من التظاهرات.