سيد الكائنات
محمد صالح البحر
لم تعد الطفولة بالنسبة لي عينا تنظر إلي ماض جميل، أُحب تذكره في لحظات الصفاء والخلوة، بل عينا سحرية تطل علي غور سحيق بداخلي، كلما انتبهت إلي ذاتي في لحظة معينة، وسألتها: لماذا أنتِ علي هذه الحال دون غيرها؟!
هكذا أتمكن من تفسير نفسي في كل حالاتها تقريبا، الفرح والحزن والحب والوحدة والكتابة ومحبة الجمال، وبمرور الوقت لم يعد الأمر يحتاج إلي شيء أكثر من نظرة بسيطة وصغيرة ومتأملة، ربما تأتي بممارسة كثير من الضغط علي ذاكرة مثقلة وممتدة الآن في الزمن، لكن الرغبة المتقدة في معرفة الذات، ومعرفة الطريق إلي التحايل علي النفس الملولة، يجعلها تأتي، لأراني هكذا منذ كنت صغيرا، لم يتغير شيء تقريبا، سوي المزيد من الوعي الذي يقدر علي إضاءة اللحظة، وكشف أغوارها المتوارية، بعيدا عن براءة الطفولة، ولهوها الإلهي المتعمد بغية التكوين ونمو البذرة، هكذا علمتني تجربة ممارسة الحياة أننا لا نتغير عندما نكبر، بل نظل علي ذات تكويننا الأول، وبذرتنا الأولي، تتغير ملامحنا الخارجية، تنمو أجسادنا وعضلاتنا، تتغير ظروفنا وأماكننا، يهرسنا الوقت بعوالمه البيولوجية والطبيعية، لكن الكائن الذي تشكل بدواخلنا، من التكوين الأول والبذرة الأولي، يظل علي حاله تماما، مشكلا لطبيعتنا وسلوكنا ومبادئنا وسياقنا في الحياة، وأن كل ما يحدثه مرور الوقت أنه يضع في يد ذلك الكائن مصباحا ليكشف له الأشياء، ويصنع لنا عينا سحرية تعرف طريقها إليه، كلما رغبنا في التعرف علي أنفسنا.
في سبتمبر عام 1996 داهم مدينة قنا سيل مدمر، أتي من قمم جبال البحر الأحمر مثل وحش كاسر ومترقب، ليأتي علي نصف أحياء المدينة الكائنة علي بُعد خطوات قليلة من أرجل الجبال شرق النيل، وكانت قريتي “المَعَنَّي” في ذلك الوقت بكرا ساذجة، تقف تحت أقدامها بمثالية مفرطة وهي تظن أنها تستمد من الجبال العالية أصلا قد يغنيها عن افتقاد الامتداد في الزمن، أو يملأ كفيها الخاويتين بفخر يشبه إلي حد كبير فخر البلاد المجاورة بتاريخها الطويل، فلما تثاءبت قمم الجبال، في غفلة أو عن عمد، كانت “المعني” في فوهة التجربة، وصارت الخاسر الأكبر في سيل لم نشهد له مثيلا حتى الآن، هكذا كُتب علي بيتنا الطيني القديم أن ينهار، وأن تنهار أسفل منه مكتبتي التي ظللت أرعي تكوينها لأكثر من عشر سنوات مضتْ حتى ذلك الوقت، متخليا عن المأكل والملبس والسفر وحتى الارتباط بحبيبة ما، في سبيل تغذيتها بالكتب والأوراق والأسرار اللازمة، وكانت المكتبة تضم إلي جوار ذلك الصور القليلة لطفولتي في سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت، ذكريات ربع قرن كامل انهارت بسهولة مفرطة تحت ثقل ظلام ليلة وحيدة وباردة، أتت بلا وحي يخبرنا بضرورة وجود سفينة ما، ولم ترحم فرحتنا البكر بزواج الصديق الأول في شلتنا الكبيرة.
هكذا ظللتُ بعدها لسنوات طويلة أعيش بفكرة أنني رجل بلا ذكريات، وفي الشتات العظيم الذي خلقته تلك الفكرة، وألبسته رداء اللامبالاة، ووجهته نحو اللا شيء واللا مستقبل، أتي الوعي والإبداع كطوق نجاة مرتديا ثياب الحكمة، وقاذفا بداخلي سؤاله الضخم، ومصرا علي الفوز بإجابة شافية، وماذا بعد؟! كان ضخما لا وحشا، وكان من الرحمة بحيث سرسب إلي داخلي ما يخبرني بما يشبه اليقين، أن بيتنا القديم لم يكن مكان المكتبة، وأن مكانها الحقيقي يكمن هنا، وأشار إلي رأسي.
تعودت عصر الذاكرة، وتتبع الصور، ومع الوقت نبتت لي عين سحرية، وشقت طريقها إلي الكائن الأزلي القابع بأعمق أعماق الداخل، والمتواري خلف الزمن وتراكم أحداث الحياة، لم أعثر علي كتبي وأسراري فقط، بل عثرت علي صوري أيضا، وأضاف عصير الذاكرة إليها الكثير والكثير من الصور التي لم تسجلها عدسة الكاميرا، حتى قبضتُ علي طفولتي كاملة، فانتهت مرحلة الشتات وعرفتُ ذاتي إلي حد كبير، فالعثور علي الطفولة ليس نزهة للتريض في منتزه وقت شروق الشمس، ولا سباحة واهنة في بحر هادئ وقت الغروب، العثور علي الطفولة هو عثور علي مفتاح الكنز الذي سيلج بك إلي ذاتك، وبالنسبة للمبدع هو العثور علي الكنز نفسه دفعة واحدة، فلم تعد الحياة فقط أجمل وأبهى من الشتات، بل وصاحبة عمق أيضا، وهو العنصر المميز للإبداع بعد امتلاك أدواته، ليس عمق الامتداد في الزمن، فجميعنا كذلك، بل عمق الامتداد في الذات، عمق الخصوصية الذاتية التي تستمد كينونتها من الكائن الأول الأزلي القابع بالداخل، والذي لا يشبه أحدا، ولا يشبهه أحد.
الطفولة نبع دائم الوجود إلي جوار المبدع، لا ينضب ولا يستعصى علي المجيء حين تتم دعوته بصدق، وهنا تكمن الصعوبة، فالكتابة عن الطفولة تحتاج إلي هذا الكم المرعب من الصدق، والذي تعجز عن حمله كثير من الأقلام التي تستسهل الانسكاب علي الورق، أو لا تحتاج إلا إلي التريض والعوم علي السطح بغية الوجود العشوائي، نعم الكتابة الإبداعية كلها تحتاج إلي ذلك الصدق، لكن الكتابة عن الطفولة سترميك مباشرة في مواجهة الكائن الأزلي بداخلك، لتجد الأمر وكأنه وقوف بين يديّ إله، يصعب الكذب أو التجمل في حضرته، ويحاسبك بقدر ما يهبك، وأنا لا أكاد أعرف أكان من حُسن حظي، أم من سوئه، أن أواجه كائني الأزلي في بداية الطريق، كنت خارجا من متاهة الشتات بعين سحرية مكتملة، وكانت نظرتها شاملة وحادة، وطريقها إلي العمق الداخلي ممهد إلي أقصي مدي، لم أكن أتحسس طريقي أو أسير ببطء كاشف، بل انزلقت دفعة واحدة لأرتمي في حضنه، كانت ضمة الكائن أشبه بضمة القبر، تتكسر لها الأضلع، لكنها قادرة علي إعادة التكوين تماما كما كنتُ في سيرتي الأولي، كان اسم القصة “صورة الحزن الدائم” ضمن مجموعتي القصصية الأولي “أزمنة الآخرين” وكانت طفولة خالصة وصادقة، وقادرة علي رصد التغيير الذي أصاب قرية “المعني” بفعل مرور الزمن، ومن يومها لم أفارق النبع، وظل الماء يجري من تحتي مع كل قصة أو رواية، وصارت الطفولة شبحا يكتنف الحكايات أيا كان شكلها، وبصدق لم أزل أدفع ثمنه إلي الآن.
وكنتُ كلما مررتُ علي مراهقتي وشباب ورجولتي ينبت بداخلي في كل مرحلة كائن ما، يقف علي رأس الكائن الذي سبقه في المرور عليّ، لا ليمحو آثاره، بل ليستمد روحه وحياته ووجوده منه، فيتطاول شامخا من فوقه مشكلا مزيجا لكائن خارجي يشبهني إلي حد كبير، ويسترق إليهم النظر عبر عينه السحرية كلما أراد أن يخلو إلي نفسه من ثقل الحياة، ليجدهم جميعا يقفون علي رأس الكائن الأزلي الأول لطفولة التكوين، يستمدون منه ثباتهم في مواجهة شقاء الدنيا، هو أساسهم المتين، ونبعهم الذي لا ينضب، وسيدهم الذي لا يكل عن النفخ في أرواحهم لمواصلة الوجود.