سكينة جانسيز: حياتي كلها صراع! (الحلقة السادسة)
لقد قُتِلَ “محمد قلان”!
أولُ ما خطرَ ببالي آنذاك، هو الشرطي الذي ضرب العمّ علي! إنه ذاته الشرطي الذي يسكن المنزلَ المجاور لنا! أي إنه جارنا. لقد تعرفتُ عليه. لكن، كيف له أن يفعل هذا؟ كنتُ أذهب إلى ذاك المنزل لزيارة أطفالهم الذين هم أصدقائي في المدرسة. كما كانت علاقةُ أمي جيدة مع ربة ذاك المنزل، وتزورها بين الحين والآخر. لم تَكُن العلاقة معهم حميمة تماماً. إذ إنهم حذِرون تجاهنا، ولا يثقون بنا، لعِلمِهم أن أهل المنطقة لا تحبّ الشرطة عموماً. مع ذلك، كانت لنا معهم علاقةُ جيرةٍ حسنة حتى تلك اللحظة، وإن شابَها البرود والتحفظ.
شرحتُ الوضعَ لأمي، التي لم تُصدّقني في البداية، ثم تظاهرَت بعدم الاكتراث. لكني عاهدتُ نفسي ضمناً: “لن أذهب إلى ذاك المنزل بعد الآن”. لم أستطع نسيان تلك الحادثة، سيما الضرب المبرح الذي طال العمّ علي والعمّ ولي والناس الآخرين، واتحاد المحتشدين ومقاومتهم كالجسد الواحد. لقد أخذوا العمّ علي والعمّ ولي إلى المخفر. بل وأَمسكَ ذاك الشرطي بشاربِ العمّ ولي في ميدان الاشتباك قائلاً: “سأنتفه شعرةً شعرة يا ابن موسكو!”. ويبدو أن صدرَه أيضاً مُشعرٌ، إذ أقسَمَ الشرطي بنتفِ شَعرِ صدرِه أيضاً! فكرتُ في معنى هذا التهديد، وحزنتُ على العمّ ولي، وتخيلتُ ألمَه عندما ينتفون شعرَه.
أَحكمَت زوجةُ ذاك الشرطي، الذي هو جارنا، إقفالَ باب منزلها ذاك اليوم. لم يخرج أحد منهم، بل وبكَوا خوفاً. لكن أمي لم تَنسَ مُراعاة الجيرة، فدقَّت بابهم قائلةً: “لا تخافوا، ما من شيء يذكَر”، في محاولة منها لتهدئة روعهم. لم أَستطع حينها إدراك معنى هذا التصرف، لأن المشاعر المتضاربة كانت تختلجني: تُرى هل كان يجب أن تسير الأمور هكذا؟ هل هو جُرمٌ أن يَكونَ شخصٌ ما ابناً أو زوجةً لشرطي؟ لكن ذاك الشرطي قد ضرب العمّ علي والعمّ ولي وآخرين. كما ضربَ عناصرُ الشرطة الآخَرون أفراداً من الحشد وشتموهم. إذاً، كل عناصر الشرطة متشابهون. وعوائلهم أيضاً كذلك!
لم تنقطع الشعارات الصدّاحة أبداً ذاك اليوم. كان مبنى المخفر يقع في حي “دميرولوك”، بجانب مبنى الاستخبارات التركية المعروفة باسمِ “مِيت MİT”. دوّى صوت طلقات الرصاص هناك، فبثّ الذعر في نفوس الناس. تحدثَت أمي مع نساء الجيران، فعلمَت منهن أن أزواجَهن جميعاً ليسوا في بيوتهم. كما لَم يأتِ أخي الأكبر وخالي حسين أيضاً إلى المنزل. ولكن، شاعَ خبرٌ بعد مدة قصيرة، حرَّكَ كل أهالي المساكن: لقد قُتِلَ “محمد قلان”!.
إن “محمد قلان” هو أخو زوجةِ خالي حسن. ذهبنا إثر ذلك إلى منزلهم. كان الكل يبكي ويندب وينحب ويصرخ. شرحَ خالي أنه كان مع “محمد قلان” قُبَيل الحادثة، وأنهما تناولا الخمر معاً، وأنه لا يُصدّق مقتَله. كان محمد قلان متوسط العمر. فلماذا ولأيّ سبب قُتِل؟ إذ لم يَمَسّ أحداً بسوء يوماً ما. انتشر خبر مقتله سريعاً.
وحسبَما قيل، تسلسلت الأحداث كالتالي: تجمَّعَ حشد غفير أمام مبنى المخفر، وبدأوا إطلاق الشعارات التي تطالب بالإفراج عن المحتجَزين. ثم شرع أحد شباب قريتنا، وهو “حسن كوجوك أوبا”، بحَرق العلَم التركي. فتذرّع عناصر الشرطة بذلك لإطلاق الرصاص الحيّ عشوائياً على المحتشدين. لكن الحشد لم يتحرك. وتفاقمت الأحداث وعمّت الأرجاء. حاول الكثير من الناس تجنّب الرصاص بالاختباء في الطرقات الفرعية بالحي.
ثم اتّضحَت حادثة مَقتَل محمد قلان: كان ثملاً حين طرَقَ إلى مسمعِه حظرُ العرض المسرحي حول “بير سلطان عبدال”، ووجود موقوفين من الحشد بعد اندلاع الاشتباكات. فتوجَّهَ محمد قلان لتهدئة الأوضاع، مُلوِّحاً بمنديله الأبيض، اعتقاداً منه بالقدرة على إنهاء ما يجري. لقد اعتقدَ أن الشباب غاضبون من حظر العرض المسرحي. لذا، تقدّمَ صارخاً: “لا داعي لكل ردود الفعل هذه. ليتَها عُرِضَت هذه المسرحية كي لا يحصل ما حصل. الشباب محِقّون في غضبهم. إذ اشتروا البطاقات، ووفدوا إلى مبنى السينما. فلِمَ الحظر في آخِر لحظة؟ سيما وأن الممثلين قد أتوا من أنقرة! ثم إنهم استحصلوا الإذن الرسمي لأجل ذلك. وقد عرَضوا مسرحيتَهم هذه في كل مكان. فلماذا تُحظَر هنا!؟”. أنّى كان لمحمد أن يعلم أنه سيصبح شهيدَ ذاك اليوم؟
عندما سار محمد في الشارع، تأهب شرطي لإطلاق الرصاص من نافذة إحدى المنازل. ولدى اقترابه أكثر، دسَّ محمد يدَه في جيب بنطاله لإخراج منديله ثانيةً، فقُتِل. هكذا، بكل بساطة، وبلا سبب!
أثار هذا الحادث حنقة المحتشدين حول مبنى المخفر، ليُدوّيَ شعارُ “محمد قلان لا يموت!” في عنانِ سماء ديرسم على حين غرّة. عندما طرقَ هذا الشعارُ مسمعي، تشكلَت لديّ إشارة استفهام أخرى: ما معنى أن يقالَ عن الشخص الذي مات أنه لا يموت!؟ لماذا لا يموت الشهداء؟
استُقدِمَت التعزيزات من مدينتَي ألازغ وأرذنجان، وأُعلِنَ حظر التجوال في شوارع “تونجلي” حتى إشعار آخر. انتظرَ الجميع طلوع الشمس بارتباك وقلق، مخافةَ أن يأتي نبأُ موتٍ جديد في كل لحظة. لقد مُنِعَ الخروج أو الدخول من وإلى ديرسم. وعجَّت الأحياء والشوارع بقوات الشرطة والدرَك. ضاقَ طوق الحصار تدريجياً حتى الصباح. وبدأ التفتيش في كل مكان، ليُحتَجَزَ المشاركون في “أعمال الشغَب”. اعتُقِلَ العديد من الشبان الذين حاولوا الخروج من ديرسم عبر أراضيها الفسيحة، بعد وقوعهم في كمائن الشرطة.
كانت تلك الليلة كالكابوس. شاهدنا مع طلوع الفجر، بوضوح ملموس وعن كثب، كيفيةَ تطبيقِ حظر التجوال. إذ طُوِّقَ مبنى الثكنة العسكرية أيضاً في ساعات الصباح الباكرة. ولمّا همّت أمي بإزالة ستائر النوافذ، فزعَت من فوهة البندقية التي كان الجنود في الشارع يصوِّبونها نحو نافذتنا على بُعدِ بضعة أمتار. زاد فضولنا مع إطلاقِ صرخة الذعر. باشرت أمي بتنظيف المنزل، لتُبعِد أنظار الجنود وشبُهاتهم. ألقيتُ نظرة من النافذة، فرأيتُ الجنود منتشرين في كل الأطراف بمسافةِ خطوتَين تفصل كل واحد منهم عن الآخر. كان الجميع في حالة تأهب. خلَت الشوارع والأزقة من المدنيين تماماً. إذ اعتَقَل الجنود كل مَن في الشوارع، دون تمييز بين كبير أو صغير. دُقَّ بابُ منزلنا بقوة، وسمعنا صوتاً أجشاً يقول: “افتحو الباب، سنقوم بالتفتيش. لا تعاندوا أو تقاوِموا. وإلا، فسنطلق الرصاص الحي!”.
كان منزُلنا الثالثَ على اليمين من مدخل المساكن مباشرة. هذا يعني أنه قد تم القفزُ على منزلَي الشرطيَّين اللذَين قبلَنا، ليبدأ التفتيش من بيتنا. وفورَ فتحِ الباب، دخلوا مهاجمين بأبواطهم العسكرية كالذئاب. سألوا أولاً عن أبي، فردّت أمي أنه في ألمانيا. لم يَكُن ثمة رجل آخر يلفت نظرهم. فأخي الأكبر ما يزال صغيراً. لكنهم كانوا سيَعتقلونه بالتأكيد، في حال علِموا أنه جاء إلى المنزل منتصفَ الليل. دمدمَت أمي بصوتٍ خافت: “أتدخلون البيت بأبواطكم؟”.
رَدّ قائد الجنود غاضباً جازماً: “أجل سيدتي، هكذا ندخل كل الأماكن!”. وكأني به يقول: إننا ندخل كل المنازل بهذا الشكل. وما من شيء يميّز بيتكم. كانت هذه الكلمات تهديداً صريحاً، إذ عنى بذلك: “لا تتكلمي أكثر، ولا تسألي أي شيء!”. فتَّشوا المنزل سريعاً، وبَعثَروا الأشياء دون أن يتضح عن ماذا يفتشون. بل حتى إنهم رفعوا السجاد ونظروا تحته. وبحثوا تحت أغطية الأرائك والسرائر وفي سلّات الألبسة، وبَعثروا كل شيء داهسين عليه بأبواطهم. أوعزَ قائد الجنود بين الحين والآخر: “هيا يا بُنَيّ! بسرعة، أسرعوا!”. وبعد انتهائهم، ذهبوا وأغلقوا الباب بقوةٍ أحدثَت ضجة كبيرة. استمرّ التفتيش في المساكن لساعاتٍ تخلَّلَها الصخب والصراخ وأصوات النعال وهرولة الجنود. كانت الحياة في ذاك اليوم مختلفة عن سائر الأيام.
انتقلت الأخبار بعد ساعات من زقاق إلى آخر: لقد اعتُقِل “علي أكبر”، الذي هو من مدينةِ “ملازكيرت” وابنُ قريةِ السياسي المعروف “كمال بورقاي”، وكذلك “متين غون غورموش” و”رضا” و”أردال”. تُرى، ما علاقتُهم بالأحداث؟ يبدو أنهم اشتبكوا مع الشرطة وأطلقوا الشعارات. إنهم يتَحَدَّون الدولة! لذا، ازداد الاهتمام بهم والتعاطف معهم. تساءلَ الجميعُ بفضول: تُرى مَن اعتُقِل عدا هؤلاء؟ مَن يهتمّ بهكذا أحداث؟ بدأت التخمينات بين الأهالي بشأن الأسامي. ودامَت الأسئلة المشحونة بالخوف والقلق فترةً طويلة.
كان هؤلاء الشباب المعتَقَلين بمثابة إخوة كبار يَلقَون الودَّ والاحترام والإعجاب من الجميع. فجميُعهم ثوار حماسيون. راجَت بعضُ الألفاظ اللافتة للأنظار لقلّة استخدامها وكثرة مخاطرها: “شيوعي، يساري، ثوري”. كانت تلك مفردات جديدة دخلَت حياتنا. كان هناك بعض الشعارات المكتوبة على اللافتات مُذَيَّلةً بتوقيع “TİP” . هناك شيء آخر أيضاً. أجل. إذ رأينا كتابات بالدهان الأحمر وبأحرف كبيرة على الدعامات الإسمنتية للجسر المعلّق في قريتنا: “نحو أيام جميلة وناصعة… TİP”. لم أَعِ ذلك، لكني أذكر جيداً أنني كنتُ أقرأ هذه العبارة كلما مررتُ من هناك. تركَت هذه الظواهر الجديدة علامة استفهام كبيرة في ذاكرتي.
كان المخفر يقع في حي “دميرولوك”. وتَسمعُ البيوت المجاورة له صرخات المُعذَّبين. فالذين أُخِذوا في حادثةِ “بير سلطان عبدال”، احتُجِزوا هناك مدةً طويلة، وتعرضوا للتعذيب. وبالفعل، نُتِفَ شاربَا العمّ ولي الأحمرَان. يُقال أنهم أطفأوا السجائر على صدره أيضاً. لكنه أسدَلَ شاربَه الأحمر الكثّ ثانيةً بعد الإفراج عنه، واستردّ ثانيةً مظهرَ “ابن موسكو” القديم. كما أصبح أكثر إباءً واهتماماً بكل ما يحيط به. أي أن “ولي” الذي كان منزوياً على ذاته في قريته، بدأ بتَعَلُّم الشيوعية، وزادَ تَعَلُّقه بأخيه الأكبر “علي”، لقناعته أن تحَدّي الدولةِ وإلحاق اللكمات بعناصرها أمر لا يجرؤ عليه أيٌّ كان.
يقال أن الغشاء الطبلي لأُذُنَي “علي أكبر”، الذي ينتمي لعشيرة “بيلفانك”، قد تمزّق أثناء التعذيب. وبالفعل، أصبح يضع القطن في أذنَيه من حينها، ولا يسمع بهما جيداً. أما الشبان الآخرون، الذين تقرّحَت كُعوبُ أقدامهم من الضرب المبرح، وأولئك الذين أُطفِئَت السجائر على أقدامهم أو في مختلف أماكن أجسادهم، فتناقَلُ أهالي ديرسم أخبارَهم شهوراً عديدة، واستذكروهم متأسفين على أحوالهم أو مفتخرين بمقاومتهم.
أثّرت تلك الأحداث في العوائل. فالدولة بالنسبة لأهالي ديرسم هي ذاتها دولةُ عام 1938. لقد تعرَّفوا عليها آنذاك! وهذا ما يعني: المجازر، والقمع الوحشي، والنفي. وعليه، ما كان لهم أن يثقوا بالدولة، ولا بأي أحد “آخر”، لأنهم شهدوا الخيانات. إذ برز منهم زعماء دنّسوا أقرب العلاقات والصداقات. لم تَعُد العشائر تثق ببعضها بعضاً. فقد طعنَهم من الخلفِ مَن ضحكَ في وجوههم، ونكثَ بهم مَن وَعَدَهم. وكأن الهزيمة والاستسلام أصبحا قدراً محتوماً. لقد خسروا كل شيء في العام 1938: إذ شهدوا البسالةَ والخيانة معاً، وانتهى أمرُهم. لقد وضعوا نقطة كبيرة حاسم على ذلك العام!
أحداثُ ديرسم مجدداً؟ “ياللهول، فليحفظنا بابا دوزجون، ولا يُرينا تلك الأيام ثانيةً!”. لقد شهدَت مدن ألازغ وبينغول وأرزنجان المجاورة ذلك. لذا، لا محل للثقة! هكذا انطوَت ديرسم على آلامها لدرجةٍ انعكست على مرثياتها. فما الذي أَنجَزَه “الشيخ سعيد ” حتى يفعل الآخرون شيئاً؟ حتى هو عجز عن فعل أي شيء! أما “علي شير ” و”بسه ” فهما مجرد ملحمة. لكن أهالي ديرسم لا يريدون خوض المخاضات عينها اليوم أيضاً. فالدولة منظَّمة ومتراصّة بكل أجهزتها، وأصبح الاستعمار مؤسساتياً، واجتُثَّ جوهرُ أهالي ديرسم من الجذور. كان بعض الشبان يتحركون بعنفوانِ جهالةِ الشباب، وسيجلبون البلاء لأنفسهم بانفعالاتهم الحماسية تلك! فهذه الدولة خائنة، لم تثق يوماً بأهالي ديرسم، ولم تحبّهم أبداً. بل حتى إنها أَعدَمَت أكثر الخونة سفالةً أو قتلَتهم بالرصاص. فالدولة تعي تماماً أنّ مَن يتجرد إلى هذه الدرجة من وجوده وكينونته، ومَن يتسبب بالأذى الشنيع لأقرب المقرّبين دون رحمة، فلن يَكون منه نفعٌ للدولة. لقد أدركَت الدولةُ جوهرَ أهالي ديرسم جيداً. إذ دُفِنَت “الهوية الكردية” لآخِرِ مرة وبطريقةٍ مُعتَبَرة في شخصِ هؤلاء.
نقَلَت تلك الأحداثُ الجديدة أهاليَ ديرسم إلى ما قبل حوالي 30-35 عاماً. إذ تداولَت الألسنةُ بعد حادثة المساكن تلك أسئلةً من قبيل: تُرى، هل ستخلق الدولةُ أحداثَ عام 1938 مجدداً؟ هل ينخدع الشبان؟ مَن الذي يَخدَع ويتزعم الخداع دون أن يفكر بـ”الآخرين”؟ وفي السياق قيل أنه لعائلةِ “دمير” ثلاثة أو أربعة شبان، أكبرُهم “هاشم” طالبٌ في جامعة أنقرة. أما “متين غون غورموش”، فيدرس الثانوية العامة. يبدو أن هذَين الشابَّين هما أكثر مَن تأثر بـ”الخارج” وتفتّحت عيونهما. أما أولادُ عائلةِ “سويلماز” فأكثر وئاماً وطاعةً للوالدَين. لذا، لم يجذبوا الأنظار. بل حتى إن أباهم أكثر عصياناً منهم. كذلك هي حالُ عائلةِ “جتين”، التي كان أفرادُها فارعي القامة ولَبِقين ومحترمين، وبعضهم جامعيون أيضاً. لكنهم ترعرعوا كأطفال الأتراك، لأن أمهم تركية الأصل، وأبوهم تركيّ الطابع أكثر من أمهم. بالتالي، لم يَكونوا ضمن هذا الاحتمال بمظهرهم الهادئ، اللهم إلا إذا كانوا سريين للغاية. أما أولادُ “عثمان موطلو”، فيَمِينيّون. وهو يُعَدّ من أفضل الرجال لدى الدولة. لذا، كانت تلك العائلة، بنسائها ورجالها، في نظر أهالي المساكن، جزءاً من الدولة. بالتالي، كانت علاقة الجميع معهم محدودة وحذرة، لأنهم ليسوا حميميين ولا طبيعيين مع جيرانهم. بل اتّسمَت مقارباتهم بالمصلحة. وأصدقاؤهم هم من الموالين للدولة. أي أنه اختلفَ مستوى علاقاتهم مع عوائل الشرطة والأقرب إلى مَكانتهم عن نمط علاقاتهم مع العائلات المحلية. كان بعض العوائل يتودد إليهم إكراماً لعلاقات الجيرة، وبعضها الآخر يتملق. بالتالي، لَم يُحِبّ الأهالي أولئك المتملقين المحليين بالتحديد. إذ لا يمكن الوثوق بهذا النمط من العوائل. لذا، كانت ردود الفعل تجاه هؤلاء أكثر صمتاً، ولكنها أكثر استياءً.
كشفَت هذه الحادثة الأخيرة الوجهَ الحقيقي للجميع تقريباً، وأوضحَت لونَ (ميولَ) كل طرف، فأصبحت بمثابة ورقة عبّاد الشمس. إذ شهدَت ديرسم تفكُّكاً، وكأن الجميع يحدد طرفَه. انعكس ذلك على كل شيء في الحياة، بدءاً من العلاقات اليومية وحتى الضيافة، ومن تقديم الأضاحي إلى مناسبة عاشوراء، بل وحتى توزيع وجبات الخير التي يهتمّ لها الجميع بالأكثر. فأصبحوا لدى توزيعها يُقلّلون من مقاديرها دلالةً على قلة التقدير. وما عادوا يأخذون الهدايا في مناسبات الولادة أو الأعراس أو المراسيم أو الأعياد كما كانوا يفعلون سابقاً. بل وأحجموا أحياناً عن الزيارات في هكذا مناسبات. كانت هذه مواقف مقصودة. وأصبحَ مَن تتوافق مواقفُهم أكثر تقارباً من بعضهم بعضاً. بل حتى إن “شناي”، ابنةَ “عثمان موطلو”، ما عادت تُدعى كما في السابق للمشاركة في اللعب مع أترابها في لعبة القفز على الحبل أو لعبة المنديل أو الغميضة. ونادراً ما شارَكَ أولادُ عناصر الشرطة في هذه الألعاب، وذلك بشرطِ أن يكونوا أولادَ “عناصر جيدة من الشرطة”! أما الآخرون، فعائلاتهم أصلاً لا تتركهم يشاركون في هكذا ألعاب.
ترجمة: بشرى علي