سكان غزة لا يريدون الحرب ويريدون الأمان
تعج جميع أرجاء غزة بصورٍ لا تمحى عن المعاناة وقصص الفقدان. من بين تلك القصص أسرةٌ مكوّنة من 9 أشخاص تعيش في 3 غرف صغيرة، ولا يمكنها الحصول على مياه الشرب إلا من زجاجات بلاستيكية تملؤها من أحد المساجد، وامرأة فقدت 37 شخصاً من أفراد عائلتها في الغارات الإسرائيلية على القطاع عام 2014، ورجلٌ يعيش مع 49 شخصاً في منزل أحد أقربائه بعدما سوِّي حي الشجاعية الذي كان يعيش فيه بالأرض.
الحياة موجودة.. رغم هجمات إسرائيل
لكن ثمة شيء آخر صامدٌ في الحياة اليومية بغزة لمسني بعمق، ألا وهو نوعٌ من المرونة العنيدة في مواجهة الكارثة، إصرارٌ على عيش حياة طبيعية أو على الأقل محاولة فعل ذلك.
كنت أسير مؤخراً على طول لسانٍ رملي يُشكِّل جزءاً من ميناء غزة، وكان المكان مفعماً بمظاهر الحياة اليومية: صيَّادون يسحبون شباكهم وهم يضحكون ويتمازحون، وأطفالٌ يلتقطون صوراً لأنفسهم، وعائلات تتجمع تحت مظلاتٍ شاطئية على طاولاتٍ بلاستيكية صغيرة في نزهةٍ بسيطة.
وكان هناك زوجان شابان مع أطفالهما الثلاثة وجَّها الدعوة لي ولرائد العثامنة مرشدي ومترجمي، للانضمام إليهم. كان الأطفال يأكلون بعض الرقائق ويتطلعون نحوي بخجل. وسكبت رنا ديلي مياهاً غازية بنكهة المانجو في أكوابٍ بلاستيكية صغيرة بينما قدَّم لي زوجها أحمد عبوةً مغلقةً من رقائق الشوكولاتة، لكنني رفضت بأدب، فضحك وقرَّب العبوة تجاهي أكثر قائلاً: «أنت في ضيافة فلسطينيين!»، أي إنَّ مقاومتي كرم ضيافتهم لن تُجدي نفعاً.
أخبرني أحمد بأنَّه -على الرغم من الصعوبات والأخطار المحدقة باستمرار- يحاول الوصول إلى هذا اللسان الرملي كل يوم؛ لتصفية ذهنه والتمتع بشعور الحياة الطبيعية. ويصطحب أسرته معه مرة أو مرتين في الأسبوع. وقال لي: «أريد أن أتشارك الحياة وبعض الأشياء مع عائلتي وأطفالي؛ لأثبت لهم إمكانية تحقيق شيءٍ ما. لا نريد سوى الشعور بالأمان».
سمعت هذه الجملة تتردد مراراً وتكراراً في أنحاء غزة، من مخيمات اللاجئين إلى سوق الخضر، وفي بعض المكاتب وغرف المعيشة والمطاعم والفنادق، والشاطئ والميناء.
لا شك في أنَّ إسرائيل هي الطرف الرئيسي بالخوف والمعاناة المسيطرين على سكان القطاع. ففي حرب عام 2014، قتلت الصواريخ والقنابل الإسرائيلية 500 طفل، ودمرت 18 ألف مبنى وشرَّدت 108 آلاف شخص. لكنَّ ذلك يخفي تحته مباشرةً انتقاداتٍ من سكان القطاع قلَّما يبوحون بها، تحمل غضباً واستياءً متكرراً تجاه «حماس«؛ بسبب ما يقولون أنه استفزازات الحركة لإسرائيل بإطلاقها صواريخ على بلدات حدودية إسرائيلية، وتنفيذ عملياتٍ ضد جنود إسرائيليين.
نريد الحياة، حتى مع أمطار القذائف!
قال أبو أسامة (75 عاماً)، صاحب متجرٍ مزدحم في سوق الجمعة المفتوح بغزة، وهو يجلس على أحد الأقفاص ويعتمر قبعةً بيضاء صغيرة ويحتسي الشاي العربي المُحلَّى في كوب من البلاستيك: «ألقي باللوم عليهم جميعاً». وكان أحفاده متجمعين حوله في أثناء حديثنا، ثم سألته: «أتلقي باللوم عليهم جميعاً، وضمت ذلك إسرائيل وحماس؟». فكرَّر رده قائلاً: «جميعاً»، مستخدماً بذلك ممارسة شائعة في المجتمعات العربية المقموعة: ألا وهي انتقاد السلطات بتعميم اللوم على الجميع. وألقى أبو أسامة باللوم كذلك على السلطة الفلسطينية والولايات المتحدة والمجتمع الدولي الذي يشعر بأنَّه تخلى عن غزة. وصبّ العجوز لعناته على الجميع.
لكنَّ حديث سكان غزة الذي تكرر على مسامعي أمنيتهم في أن يعيش أطفالهم حياة طبيعية، أكثر من إلقائهم باللائمة على أي طرف.
قال أبو علي وهو يجلس على أريكةٍ بغرفة جلوس في حي الشجاعية بقطاع غزة: «لا أريد سوى الشعور بالأمان». وهذه الرغبة بسيطة بقدر ما هي بعيدة المنال لأبي علي وكل شخص آخر تقريباً في غزة. وبالنسبة لأبي علي وأسرته، فالعيش بالقرب من الحدود الإسرائيلية يحول هذه الرغبة إلى ضرب من الخيال المثير للسخرية. ففي أثناء حديثنا، كانت هناك طائرةٌ إسرائيلية من دون طيار تُحلِّق فوق رؤوسنا، وغالباً ما يكون ذلك نذيراً بهجوم صاروخي آخر. وفي عام 2014، أمطرت إسرائيل جزءاً كبيراً من حي الشجاعية بـ7000 قذيفة في غضون ساعة واحدة تقريباً ودمرته تماماً. وكان ذلك هجوماً فتَّاكاً لدرجة أنَّ جنرالاً أميركياً متقاعداً قال آنذاك: «يا للهول!»، ووصف معدَّل إطلاق القذائف بأنَّه «صادم» و»مبالغٌ فيه للغاية».
وقال أبو علي وهو يجلس تحت شجرة العنب التي يتخللها ضوء الشمس، وكان صوت الطائرة التي تُحلِّق من دون طيار أعلى من قوقأة الدجاج في مزرعة الخضراوات الخاصة به: «تلقيت مكالمةً (في أثناء تلك الحرب) من الشاباك الإسرائيلي تقول: (يجب عليك مغادرة هذه المنطقة)». وبعد التحذير الإسرائيلي، بدأ أبو علي بنقل عائلته إلى منزل صهره، لكنَّه قال إنَّهم تعرَّضوا لإطلاق قذائف من دبابات إسرائيلية في أثناء انتقالهم. وأضاف أنَّهم وصلوا في نهاية المطاف إلى منزل أحد الأقرباء، حيث عاشوا مدة أسابيع، وكانوا 50 شخصاً متكدسين في غرفتين!
«أريد أن أنام!»
وبعد أشهر من حرب 2014، عاد أبو علي أخيراً ليجد أنَّ منزله -الذي ادَّخر من عمله في مجال الإنشاءات بإسرائيل لبنائه- قد دُمِّر تماماً. وعلى مرِّ عام 2015، حصل على تبرُّعاتٍ من المملكة العربية السعودية وأعاد بناءه، وزيَّن مدخله الأمامي ببقايا قذائف بعض الدبَّابات. لكنَّه يخشى من التعرُّض لهجومٍ آخر؛ إذ قال: «أريد أن أنام جيداً. لا أشعر بالراحة هنا في منزلي. لا أحد يمكنه إيقاف الهجمات الإسرائيلية. والناس هم من يدفعون الثمن من دمائهم».
من الصعب فهم حجم الموت والإصابة بالشلل والعاهات المستديمة والتشرد المفاجئ والخوف المستمر خارج منطقة حرب مثل غزة. فأعداد الضحايا العامة معروفة جيداً، لكن ما حيّرني في هذه الرحلة هو معرفة مقدار الخسائر التي تكبدتها كل أسرة على حدة؛ إذ فقدت إحدى نساء القطاع التي تعيش الآن في مدينة رام الله 37 من أفراد عائلتها في حرب 2014. ليس هذا خطأ مطبعياً؛ بل 37 شخصاً كما قرأتم، بينهم 7 شبان في تفجير واحد.
الفلسطينيون يريدون أن يعيشوا حياة طبيعية في غزة
وقالت تهاني أبو دقة، وزيرة الثقافة السابقةُ في السلطة الفلسطينية: «لم يكونوا منتمين إلى أي منظمة مسلحة»؛ بل مجرد شبان فلسطينيين. وقالت لي تهاني كذلك إنَّ الصواريخ الإسرائيلية دمَّرت منزلها في غزة مع أنَّه كان فارغاً ومع أنَّ الحي أُخلِيَ بعد التحذيرات الإسرائيلية. وفي أثناء حديثنا، ظل هاتفها يومض وتنبعث منه أصوات إشعارات تتضمَّن تحديثاتٍ بشأن القتلى الذين يقعون ليلاً من جرَّاء الغارات الإسرائيلية الجارية في غزة، وكان من بينهم صبيٌ عمره 14 عاماً.
يعج القطاع بالكثير من قصص الفقد المُفجعة التي تُسرَد فور السؤال عنها، فرائد -مرشدي في الرحلة- فقد 18 شخصاً من أفراد أسرته، بينهم إخوة وأعمام وأجداد في إحدى الهجمات عام 2006، بينما أُصيب 56 شخصاً آخرين من العائلة بجروحٍ بالغة. واضطر إلى إعادة بناء منزله مرتين. وقال لي رائد ونحن واقفون على سطحٍ مرتفع على شاطئ البحر: «أهم شيء في حياتي هو الشعور بالأمان»، مُكرِّراً رغبة سكان القطاع، وأضاف: «هذا كل ما في الأمر، لا أريد أن أكون مليونيراً ولا أن أصبح أي شيء، لا أريد سوى الشعور بالأمان وتوفير الأمان لأطفالي». وقال رائد: «من الممكن أن تنقلب حياتي رأساً على عقب في لحظاتٍ» بسبب رصاصةٍ أو قنبلة أو طائرة أو طائرة من دون طيار. لذا فهو يشعر بالقلق والتوتر دائماً؛ إذ قال: «حين تتصل بي زوجتي، أقول لها: (ماذا حدث؟)، وأريد منها إجابةً مباشرة عمَّا يحدث؛ لأنني لا أشعر بالأمان».
وقال مُحدِّقاً النظر في عينيَّ: «أتمنى أن تهدأ جميع الأمور»، وتخيَّل يوماً يجلس فيه مع أفراد أسرته مسترخين مستمتعين. وأضاف رائد أنَّ ذلك قد يتحقق في أحد الأيام الصيفية على الشاطئ الموجود أسفلنا، تحت مظلةٍ مع بعض اللحم المشوي وعصير الليمون بالنعناع، بلا خوف ولا توتر ولا رعب حين يتصل به أحد أفراد أسرته. وقال رائد ثانية: «أريد حياة الأمان».
ولا كهرباء
كان هناك العديد من العائلات على الشاطئ الموجود تحتنا مباشرة. وعلى بعد بضعة أميال شمالاً وجنوباً، كانت مياه المجاري تصب في المحيط؛ وذلك لعدم توافر كهرباء لتشغيل محطة الصرف الصحي. فالطاقة الكهربائية في غزة تتوافر مدة أربع ساعات فقط يومياً. ولكن هنا، حيث لم يتلوث الماء بشدة، يركض الأطفال مبتسمين وأجسادهم مكسوة بقطرات المياه. وهناك عربة تجرها الخيول تتجول على الشاطئ محملةً بعوامات بلاستيكية وألعاب رملية.
وقال محمد حلبي، الذي يعمل في بلدية مدينة غزة لمحاولة شراء المواد الأساسية لسكان القطاع في ظل الحصار الاقتصادي الإسرائيلي: «لقد مررنا بـ3 حروب منذ عام 2008. نتوقع أن تقع الحرب التالية في العام الجاري أو العام المقبل أو بعد 3 سنوات أو في الأسبوع المقبل. لذا أود القول إنَّ الجميع في غزة لا يحبون الخضوع. فهم يتمتعون بالمرونة تجاه الوضع بشكل عام. لا نستسلم بسهولة».
وعند العودة إلى الميناء، دوى صوت مفرقعات في جميع أنحاء المياه، فتبادل رائد، النظرات مع الوالدين الشابين أحمد ورنا ديلي، ثم قال رائد: «عُرس!»، فتعجبت قائلاً: «في يوم الأربعاء؟»، فأكد لي أنَّ ذلك صوت عُرسٍ، وأضاف: «الناس يحتفلون بالأعراس كل يوم». إنَّهم يصطادون ويتنزهون ويسبحون ويتزوجون. فسُكان القطاع لا يستسلمون رغم كل المعاناة التي يواجهونها.
وكما كان الحال بالعاصمة اللبنانية بيروت في ثمانينيات القرن الماضي، وسراييفو عاصمة البوسنة والهرسك في التسعينيات من القرن نفسه، يقضي الفلسطينيون بغزة ليالي الصيف في الهواء الطلق على الشواطئ وفي الحدائق وعلى قوارب الصيد خاصتهم ويسبحون في الماء رغم كل المخاطر.