سكان دمشق يصارعون من أجل البقاء بعد الحرب
الشارع الذي يؤدي من الحدود مع لبنان إلى دمشق لا يترك أي مجال للشك فيما يتعلق بهوية المنتصر في الحرب التي تركت ظلاً ثقيلاً على الشرق الأوسط في السنوات الثمانية الأخيرة. «أهلاً وسهلاً بالقادمين إلى سوريا المنتصرة»، كتب على لافتة عريضة تعرض صورة الرئيس بشار الأسد وابتسامة كبيرة على شفتيه، في ظل علم سوريا، وفقاً لصحيفة “هآرتس” العبرية.
رغم أن الحرب لم تنته بصورة رسمية، إلا أنه واضح للجميع أن هذه اللافتة ومثيلاتها تمثل الوضع على الأرض بصورة دقيقة. ولكن بهجة الانتصار لم تجلب معها للسوريين بشرى إعادة الإعمار ووعداً بالتجدد. يبدو أن الحرب لم تنته، بل تغيرت فقط: المواطنون التعبون والمصدومون من العنف الفظيع يركزون أنظارهم على محاولة البقاء داخل اقتصاد مدمر، لا يظهر أي علامة على البعث، ولا تلوح في الأفق أرباح من «السلام».
حسب تقديرات الأمم المتحدة، سوريا بحاجة إلى أكثر من 250 مليار دولار من أموال المساعدات من أجل إعادة تحريك الاقتصاد. وهو مبلغ لا تستعد إيران وروسيا، حليفتا سوريا أثناء الحرب، لتقديمه. على الحكومة في طهران التباطؤ قليلاً: بعد أن منحت هذه في السنوات الأخيرة اعتمادات لدمشق، من أجل أن تشتري منها النفط ومن أجل دعم اقتصادها، الآن هي مرة أخرى تحت عقوبات أمريكية تمنع انتقال سفن المساعدة إلى سوريا. حقيقة أن الرئيس الأمريكي وضع حداً في الأسبوع الماضي للإعفاء لمشتري النفط الإيراني، يمكن أن تصعب على إيران أكثر ـ بالتأكيد على دعمها للشعب السوري. في المقابل، الدول القادرة على المساعدة، ومنها دول الخليج الغنية بالنفط، غير مستعدة لمد يدها لدولة تحالفت مع إيران التي تعتبر عدواً لها.
تداعيات صراعات القوى هذه، وتحديداً النقص في السيولة، يمكن أن تشاهد في شوارع دمشق، المدينة التي خرجت من دائرة الحرب قبل سنة تقريباً، مع هزيمة المقاتلين الذين احتلوا البلدات المحيطة بها. هذه أيضاً مدينة شهدت تزايداً كبيراً في عدد السكان في سنوات الحرب. حيث هرب المواطنون إليها من القتال الجاري في مناطق أخرى. الآن يبلغ عدد السكان فيها أكثر من 6 ملايين نسمة، تقريباً ضعف العدد الذي كان قبل ثماني سنوات.
هذه مدينة أخرى بمفاهيم كثيرة. في السنوات التي سبقت الحرب كانت العاصمة السورية تعج بالحياة مع قدوم الربيع؛ عربات مكدسة باللوز الأخضر شوهدت في شوارعها، سكانها كانوا يجلسون خارج المقاهي ويدخنون النرجيلة، عائلات كانت تخرج للتنزه. ولكن في زيارة للمدينة في الشهر الماضي، كانت تبدو باهتة تماماً، الحركة في الشوارع قليلة، الملاهي التي امتلأت بالزبائن في السابق تقف الآن فارغة في معظمها، والبائعون في السوق القديمة يشتكون قلة الزبائن. الحوانيت التي ما زالت مفتوحة اضطرت إلى التزود بمولدات بسبب انقطاع الكهرباء الدائم.
الوقود إحدى السلع المهمة التي يشعر بها السكان. إرسالية النفط الأخيرة من إيران التي اعتادت إرسال 3 ملايين برميل شهرياً، وصلت في شهر تشرين الأول قبل تجديد العقوبات. الآن طوابير السيارات لا تنتهي، على طول عدة كيلومترات يقفون ساعات من أجل وضع 20 لتراً في السيارات ـ هذه هي الكمية المسموح للسوريين بشرائها مرة كل خمسة أيام. هذا الترف في المناطق التي تقع تحت سيطرة الحكومة.
«لقد اعتقدت أنه في اللحظة التي ستنتهي فيها الحرب، ستتعزز العملة وسيتحسن مستوى الحياة»، قال سعيد الخالدي، الذي ينقل الخضروات في شوارع المدينة. أزمة الوقود تعتبر كارثية للخالدي (63 سنة)، خسر محلاً للأثاث ومنزلين له في ضواحي العاصمة في العام 2013، والآن مرة أخرى يتوقع أن يفقد مصدر رزقه. «لقد انتظرت 19 ساعة من أجل الحصول على 20 لتراً من الوقود. هذه الكمية لا تكفي للسفر على طول المسار»، قال. «نحن ننتقل هنا من أزمة إلى أزمة».
قرب المكان يوجد سالم صالح، موظف حكومي (50 سنة)، خرج للتو من سوق الخضار والفواكه بأيد فارغة. «لم أشتر أي شيء لأن كل شيء غال جداً»، قال. لقد توقع أن يكون سعر كيلو البطاطا 300 ليرة سورية (أقل من نصف دولار)، لكن السعر كان 400 ليرة بسبب ارتفاع أسعار النقل في أعقاب النقص في الوقود. بالنسبة لصالح الذي يكسب 70 ألف ليرة سورية في الشهر، هذا كثير جداً، وليس بمقدوره اعتماد فرق 100 ليرة للكيلو. «الأسعار مرتفعة جداً بالنسبة لدخلنا».
الوجه الآخر للعملة هو الثمن المرتفع الذي يجب على الأسد دفعه بسبب ارتباطه بطهران. «انتصرت حربه في سوريا تقريباً، لكنه غير قادر على الاستمتاع بثمار النصر، بسبب شراكته مع إيران»، قال أيهم كامل، المسؤول عن البحث في شؤون الشرق الأوسط وإفريقيا في شركة الاستشارات «ايوراسيا غروب». «الإيرانيون يستطيعون أن يرسلوا آلاف الجنود ليموتوا من أجل الأسد ونظامه، لكنهم غير قادرين على إرسال الأموال».
الأزمة هي أيضاً نتيجة للعقوبات التي فرضت على سوريا منذ القمع العنيف الذي مارسته الحكومة على المتظاهرين في 2011. هذه أضرت بصناعة نفطها وقلصت الاقتصاد، الفاسد أصلاً، الذي لم تتم إدارته كما يجب. كل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى أن 83 في المئة من السوريين يعيشون الآن تحت خط الفقر، حسب تقديرات الأمم المتحدة. وهؤلاء مرتبطون بالحكومة وبقوتها الاقتصادية، حيث إن مواد مثل الخبز والأرز والسكر والشاي، خلافاً للنفط، مدعومة من الحكومة. «الفقر في الدولة يقفز إلى أعلى، البنى التحتية للخدمات الأساسية تضررت أو دمرت، والنسيج الاجتماعي متوتر إلى الحد الأقصى»، قال في الشهر الماضي اخيم شتاينر من الأمم المتحدة.
أحد الأمثلة الواضحة على الخراب نجده خارج دمشق. عين ترما مثلاً، البلدة التي كانت في السابق معروفة بمصانع الجلود والنسيج والأزرار، سقطت في أيدي النظام قبل سنة تقريباً. شبيهاً بالبلدات الأخرى التي تحيط بالمدينة، العديد من الأحياء تحولت إلى أنقاض. كل المباني مهدمة، الشوارع محطمة، وصمت مخيف يسود الشوارع، يخرقه تغريد العصافير. صورة الرئيس مع المكتوب تحتها «الأسد انتصر» معلقة على عامود أمام كشك مفتوح فيه مشروبات خفيفة للبيع.
منطقة واحدة تم تأهيلها تقريباً في الفترة الماضية، المنطقة الواقعة حول الشارع الرئيسي. رسمياً يستطيع 25 ألفاً من بين الـ 150 ألفاً من سكان البلدة العودة إليها. عدد منهم قاموا بذلك. هكذا كان يمكن أن نرى في أحد أيام الشهر الماضي عدداً من الطلاب يتجمعون خارج إحدى المدارس التي أعيد تأهيلها.
مالك نزال (35 سنة)، فتح محلاً للمشروبات الكحولية قبل سنتين في ذروة الحرب. في السنة الأولى تضررت الأمور لأن المتمردين قصفوا المنطقة. ولكن بعد ذلك انتعشت الأعمال قليلاً. عندها فرضت العقوبات على إيران من جديد. «في السابق كان الزبون يطلب زجاجة نبيذ ويأتي كل يوم. الآن يأتون مرة في الأسبوع ويطلبون كأساً فقط».