«سارا فان دورين شاو»|| تجربة الواقعية.. ابتكارات فتحت منافذ للضوء لتراقص اللون
تعد “سارا فان دورين شاو” (1844-1918) واحدة من أبرز التشكيليات العالميات، صقلت معالم المنهج التعبيري الواقعي في الولايات المتحدة الأمريكية، وتركت إرثا ممتدا من الأعمال الفنية، كما ورّثت الفن والرسم لأبنائها وأحفادها الذين صنعوا مجد عائلة “شاو” الفني، فهي زوجة الرسام “تيودور اندرو شاو”، ووالدة المهندس “هاورد شاو”، وجدة التشكيلية والنحاتة “سيلفيا شاو”.
سحر الشرق وتأثيره على إبداعها
درست سارا الفن في معهد “شيكاغو للفنون الجميلة”، خاضت التعبيرية في الرسم الواقعي والطبيعي الذي مزجته برومنسيتها الخاصة، وحسّها العالي، دون أن تبالغ في ذلك، فقد نقلت المشاهد بدقة ذهنية تتبّعتها في الحركة والصورة، والجمالية التي تجاوزت المكان المرسوم نحو تفجير المكان المتخيل، في واقع رؤيتها التعبيرية تلك التي تناغمت مع أحاسيسها ورؤاها التي بدأتها من ذاتيتها، لتصل بها إلى الواقع الممتد إلى الآخر، كما مكنتها أسفارها وتنقلاتها من تنويع أسلوبها وألوانها وصورها، خاصة بعد اكتشاف مناظر طبيعية مختلفة سواء في الولايات المتحدة الامريكية أو في أوروبا أو في شمال افريقيا، حيث لامست سحر الشرق، ونقلته بألوانها وتذوقها وحسها العاطفي الذي انعكس على اللوحات، ويعرض متحف فرحات لهذه الفنانة مجموعة من الأعمال التي رسمتها في منطقة الشرق ضمن مجموعة المستشرقين.
لم تنفصل سارا عن حياتها العائلية التي كانت مزيجا من الحس الجمالي والذوق الفني، فخلقت مسارها انطلاقا من كل تلك التراكمات التي جعلتها ترسم عشقا في الفن، فقد اعتمدت على الفكرة الحالمة في الطبيعة، باعتبارها مكمنا واقعيا جماليا للإبداع، وفي الملامح البشرية رأت تنوع الألوان، وفي الضوء انبعاثات جديدة لرؤية تفجرت على مسطح لوحاتها، وفق تلوّن بصري لعلامات تبدلت حسب الأمكنة التي كانت فيها استخدام الألوان في المساحات المسطحة للوحة، انبنى عندها على الاختلافات من خلال هندسة الزوايا للفضاء، فقد اختارت الألوان برفق، اعتمادا على كثافاتها الضوئية وما يصلها من خلالها، حيث تُلبسها الملامح والاحساس، وتُجسمها بالضوء الذي ينتقل حسب دور كل عنصر من العناصر المكونة للوحة.
المغرب أعمال فنية مميزة
أما أعمالها التي رسمت فيها مدن المغرب، فقد اقتربت من المناظر الطبيعية المميزة لتلك الأمكنة بأسلوبها، فقد ابتعدت عن فكرة المستشرقين القدامى إلي معالجة الصورة حسب خيالها ومعايشتها للواقع، فأبدعت أعمالا ذات قيمة فنية عالية، غاصت في الأمكنة التي كانت ترى في اختلافها تميزا، عبّرت وفق ذلك التميز مستفيدة من كل الملامح الخاصة بالمتساكنين.
و نقلت يومياتهم بتفاصيلها وبكل ميزاتهم، كما دقّقت على طبيعة الأمكنة بكل ما يعنيها من ألوان وزخرف وعمارة وهندسة المدن، وفي ما يعيشه الناس في ملبسهم وفي حياتهم، بواقعية نقلتها جماليا دون مبالغات مبهرة في خيالاتها، ودون تجاوز حالم للواقع، فقد أنشأت لها من خلال ذاتيتها الغارقة في تتبع المكان صورة واقعية تجاوزت المشهد المألوف، ونقلته بإبداع ملون جعلها تمتلك التعبير الواقعي، وتهبه شاعرية جميلة الحضور، ابتكرت في إنجاز لوحتها ألوانها الخاصة، التي تنقلت بحركية من الدافئ إلى البارد، ومن الترابي إلى السماوي، تدرجات خلقت منعطفا جديدا جعلها تحمل الشرق كمكان بكل مشاهده وألوانه، سواء في تتبع الفضاءات، أوفي تناول الضوء والمحتوى المطروح في تلك الصياغات الهرمونية، التي بدت متناغمة مع كل عناصر اللوحة، كانت تنفذها باعتماد الألوان المائية والزيتية على الورق والقماش بدقة ورصانة التعبير، مع إضفاء حيوية على المحتوى، كانت تبعثها من خلال الظلال والنور في جدليات تتراكم وتتكاثف بدقة وحرفية وبراعة بسيطة وفخمة في نفس الوقت.
تقوم سارا فان دورين بتوطيد أسلوبها التحاوري، الذي يخلق جدلا جماليا بين ألوانها وعناصر اللوحة، وبين الخامات الجامدة التي تتحول إلى أدوات تعبيرية تكتسح المضامين الداخلية، وتخلق العمق في الحنين الصارخ بالمكان في واقعية التناول التعبيري، بتكثيفها لتداخلات الدلالية والأشكال الزخرفية التي تجدها في تفاصيل كل مكان، وفي ميزة كل فضاء، فالمواد والعناصر تنسجم في أدوارها بين البُعد الذاتي والنسق الجمالي المتصاعد، الذي يخترق المكان بمضامينه، وأبعاده الفنية التي تمنح للوحة خلودها.
*الأعمال المرفقة
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collection