رواية محسن عبد العزيز “شيطان صغير عابر” شاهدة علي الثمانينيات والتسعينات.
كتب.. فراج فتح الله
(في القاهرة القاسية كنت أبحث عن سيدة مثل زينات صدقي في شارع الحب، وإذا احتدت شهوتي أبحث عن تحية كاريوكا في شباب امرأة، اختلطت الأحلام بالأفلام والفتيات بنجمات السينما، وكان الفرق بين الواقع والسينما أبعد من المسافة بين أرضك والسماء).
نصب لنا الكاتب محسن عبد العزيز في روايته “شيطان صغير عابر” فخ التصنيف، فهو يكتب الرواية بمنطق القصة القصيرة، وسوف نتعامل مع العمل علي أنه رواية مكتملة الأركان، بها قدر من التجريب والاختلاف عن المألوف، كما فعل إبراهيم أصلان في “وردية ليل” والكاتب سيد الوكيل في “الحالة دايت”.
قسم الكاتب روايته إلي ستة فصول، داخل كل فصل من سبعة لتسعة أجزاء، ما عدا الفصل الأخير والفارق قسمه نصفين، ويمكن أن نطلق علي كل جزء قصة قصيرة مكتملة، في محاولة لتفتيت الحدث، أو لنقل نقل الصورة الكاملة للقرية في التسعينات من مختلف الزوايا، وعبور البطل/ الشيطان/ الراوي نفسه من القرية الصغيرة إلي العاصمة القاهرة بعد غواية الصحافة له. جمل صغيرة وحدث واحد في كل جزء، له مقدمة ووسط ونهاية مدهشة، قد لا يتعدى بعضها بضعة أسطر بتكثيف شديد وحدث وحيد وشخوص محددة، داخل كل جزء/قصة يوجد تصاعد زمني يجمعهم مكان واحد، فهي أشبه بقطع الفسيفساء، تتجاور مع بعضها البعض لتكمل الرحلة بحلوها ومرها، وما فيها من استعراض الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية أيضا، للقرية في صعيد مصر.
عند تناولنا رواية “شيطان صغير عابر” والصادرة عن مركز المحروسة هي الرواية الأولي للكاتب محسن عبد العزيز، بعد مجموعة قصصية “ولد عفريت تؤرقه البلاد” عام 1999 م، والمجموعة القصصية الثانية “مروة تقول أنها تحبني” عام 2004 م، وعدد من الكتب السياسية والفكرية.
سنجد أنه في الفصل الأول، والذي يستخدم فيه أفعال الماضي ويعقبها بأفعال المضارع ليدخلنا في أحداث زمان كأنها تحدث الآن، يستعرض رؤيته للقرية من منظور طفل ما قبل المدرسة، وفي الفصل الثاني يدخل المدرسة ويستعرض تحولات القرية من منظور صبي صغير، وهكذا مع توالي الفصول يكبر الشيطان وتكبر الرؤية، ليقابل شياطين القرية وشياطين القاهرة الكبار، ليصل للواقع المعاش حاليا، وليتضاءل أمام قسوتهم وغبائهم وجورهم عليه وعلي الغلابة أمثاله، ففي الفصل الرابع يستعرض وبالأسماء بعض الشخصيات المجاورة له في القرية، ابن عزيزة /عادل أبو سعد / …. شخصيات حقيقية ــ جسد وروح ــ يستخرجها الكاتب من مشاهدته ومعاشرته لبعضهم، شخوص غير مألوفة، وغير معتادة بعضهم يثير الضحك أو الشفقة أو التعاطف، تأخذ من السارد العليم والسارد مع دور البطولة لفترات، وفي الفصلين الخامس والسادس الأخيرين تصعب الحياة وتسقط الأحلام الواحد تلو الآخر، ويظل حلم الصحافة صامدا رغم كل شيء.
الموت حاضر، حزن مستمر، قسوة الحياة، شقاوة ولعب عيال القرية، أمنيات بسيطة لا تتحقق، حب كبير، بيت كبير، زوجة أب، أيام المدرسة الأولي البكر، أصدقاء كثر وشخصيات قروية قوية ساذجة ومتفردة في ذات الوقت، رؤية أولي وأخيرة لراقصة، وغواية الصحافة، عبور للعاصمة، شيوخ آخر الزمان، ثم تقوم ثورة.
كل هذه الخيوط والتي تبدوا متفرقة، يلقيها الكاتب في وجه القارئ، لتتعقد وتتشابك معبرة عن حقبة كاملة من حياة القري المصرية، الثمانينيات والتسعينات تحديدا، حياتنا نحن ــ أسباب تؤدي إلي نتائج ــ مر بها الكاتب وعبر عنها لتنتج الفصل الأخير من الرواية، معقد ومشتت وخارج عن السياق مثل حياتنا، غير المفهومة وغير المبررة، حتي لو قامت ثورة، فتكون مرتبكة مهزوزة وغير مفهومة ومتشابكة ولا تفضي لحقيقة ما.
هو عابر سبيل يسير سريعا، يمر بتأن علي أغلب جوانب الحياة مرورا عابرا، يكفيه أن يلقي نظرة ويطلعنا علي الجرح، يعرض لنا صورة أقرب لأشعة المرض والمريض، وبكلمات قليلة موجزة يصف الحالة لنستنتج نحن ما نشاء، وليبحث الأطباء والحكماء عن العلاج.
شيطان محسن عبد العزيز شيطان مؤدب، و”خايب” أحيانا، فالكاتب يستخدم لفظة شيطان بمعني الولد العفريت كثير الحركة و”التنطيط”، يحيك بعض الحيل والمقالب للأصدقاء وللأخوة ولأهل بلدته مع بعض الخبث، الولد الفاهم كثير الدهاء، كثير الشقاوة، الولد الشقي كما استخدمها محمود السعدني متحدثا عن نفسه، وتشبه معني صديقنا، أو صاحبنا كما استخدمها طه حسين في الأيام، خاصة ونحن نستشعر بعض الذاتية في ثنايا الرواية، وتشابه حياة البطل/الراوي مع الكاتب، ولعل بعض الخيال في السرد أبعدنا عن تأكيد ذلك.
فنجد هذا الشيطان المؤدب يكتفي في علاقته بالنساء بملامسة الثياب.
الفصل الثالث صـ 63،64 ــ الحب الكبير. (من شارع واسع لشارع ضيق نسير، لا نخاف العتمة ولا كلاب الليل، نمشي قريبين../ تمس تنورتها جلبابي، وأحس أنفسها وتحس أنفاسي..).
أو مشاهدة الراقصة التي أتت للقرية، فقط المشاهدة والتصفيق.
” الفصل الثالث ص، 43 ــ الراقصة في البلد ـ
(المرة الأولي وربما الوحيدة التي تنزل فيها “رقاصة” بلدنا، راقصة حقيقية ببدلة رقص مفتوحة من الجانبين ….. /في آخر الليل نزلت الراقصة من فوق المسرح ورقصت في أرض الشارع…../ ففي تلك الأيام كانت قريتنا قادرة علي أن يكون في أفراحنا راقصة…….).
وتتجلي قمه الشيطنة لديه عندما يدعي علي أمه المريضة ( يا رب اللي يمرض ما يقوم من المرض تاني) ، ” مرض ” صـ 15 ــ الفصل الأول . ويختفي الشيطان بعدها تقريبا.
يتماهى محسن الكاتب في المكتوب، ويتلبس كل منهما الآخر في كل لحظة، فلا نعرف علي وجه اليقين حدودا للشخصية عنده، فجميع شخصيات قريته في صعيد مصر حاضرون، يبدون تمثيلا لفكرة مجردة، وتجسيدا لشخصية مفتوحة تجمع العديد والمتناقض من الصفات، وقابلة للتشكيل والكتابة مرات ومرات، فتكتسب قدرا من شرعية الوجود واستقلالية الحياة وتفرد الملامح علي نحو ما يجعل راقصة القرية، لاعب مركز الشباب، مدرس الحساب، والشيخ قصير الثياب، شخصيات لها تاريخ وحاضر ومستقبل.
(… سئمت، ثلاثون عاما أشرب من بحر الأكاذيب فلا أنا شبعت ولا البحر نفذ …./ الموت صار حلما…../ كفرت بالآمال و الأحلام… ، /كفرت لكنني لم أكن أملك صنما لأكسره…./ كل شيء كان قاسيا ، لكن كانت هناك مقدرة علي الاحتمال لا أعرف من أين ؟ …. ).
الموت حاضر، والحياة بلا أحلام، حياة أقل ما يقال عنها أنها جافة.
هي بلا شك رواية خارجة عن المألوف، أخذت من القرية مسرحا لأحداثها، يروح ويجئ في مساحة محددة، ليصور ويبرز الموجود.