“حتى يجد الأسود مَنْ يُحبه” عمل روائي جديد لــ “محمد صالح البحر”
عن دار روافد للنشر والتوزيع صدرت للروائي محمد صالح البحر رواية جديدة تحت عنوان “حتى يجد الأسود منْ يُحبه”، والتي تدور أحداثها في أجواء ضبابية، تتراوح بين الواقعي والحلمي، وينسج البحر شخصيات روايته الجديدة من الألم والغربة والوحدة والحنين المفرط في قسوته، والعشق المذبوح دوما تحت أنصال الأنانية والجشع والرغبات المنفلتة باتجاه جوع لا يشبع، لكنها رغم كل ذلك لا تكف أبدا عن البحث عن ذواتها المفقودة، أو التطلع إلى مستقبل مغاير ومضيء، كأنه يُبقيها تحت قسوة الشمس لتتخمر فيكتمل نموها، أو يُبقيها في دهاليز الظلام المعجون بألم الماضي وغربة الحاضر، لكي تنبت لها حواس أخرى تضاف إلى حواسها الطبيعية، هكذا ينضج النسيج على مهل ليماثل عملية إعداد كبرى لمهمة أكبر، سرعان ما سنكتشف أغوارها الدفينة مع سريان السرد وتوالي الأحداث، لنجد أن ثمة مدينة جديدة ـ وكبرى أيضا ـ قد نمتْ مع نمو الشخصيات، وتحققت مع تحقق أحلامهم باتجاه المستقبل، وأنها مدينة ذات طابع خاص، ومحرم دخولها إلا لمن شابه تكوينهم تكوين شخصيات الرواية، أو توحدتْ أرواحهم بهم.
يبدو “الوليد” كشخصية محورية في الرواية، تدور معظم الأحداث من حوله، ويتتبعه السرد أينما ذهب، لكننا سنكتشف مع الوقت أنها مجرد تقنية يمكن أن نطلق عليها “تقنية المصدر” الذي تتفرع منه الأنهار، أو “تقنية الجذع” الذي تخرج منه الفروع ليكتمل نمو الشجرة، ويتجسد شكلها النهائي بتفريعاته وأوراقه الوارفة، وأنها تتناسب تماما مع عمله ككاتب يخوض غمار معركة قاسية مع التيه، بعدما هجرته الكتابة قبل ثلاث سنوات، لكنه لا يكف عن البحث عن ذاته، عن محاولة ايجادها في الحب المفتقد بكل أشكاله، أو رؤيتها في مآسي الآخرين التي تتجسد من حوله، وتتشابك مع مأساته لتمنعه من الهروب، وتفرض عليه المواجهة، إنها شخصية محورية بحق، وليست رئيسية تستأثر بدور البطولة ولا تظهر الشخصيات أو الأحداث إلا من خلالها، بل كثيرا ما يزيحها السرد ليخلق المساحات الكافية، التي يتحقق من خلالها الوجود الموازي لبقية الشخصيات، فتحية وليلى وموسى ونوارة والعمة وميرو، لنكتشف في النهاية أننا نقف بإزاء بنية صوتية تشكل العمود الفقري للبناء الفني للرواية، بناء متداخل ومتشابك لا تتيح الشخصية فيه نفسها بسهولة، بل ستدعوك دوما إلى بذل الجهد اللازم للتعرف عليها، ومرافقتها في رحلة البحث عن ذاتها المنسحقة تحت قسوة الحياة وتراكم الأخطاء، ستفتح أمام عينيك كل الأبواب التي أُحكم غلقها من قبل، لتكتشف كل شيء على حقيقته، بلا زيف أو تجميل، ومهما بلغت خطيئته أو وصل ألمه أو لامست روحه المعذَّبة أطراف الأفق، ستفعل كل ذلك لتحملك على الوقوف أمام إنسانيتك، ثم تترك لك الحرية في أن تفتح بابا للتسامح والغفران، وتحملك إلى الوقوف على أعتاب مدينتها الجديدة، ثم تترك لك حرية الدخول للعيش فيها.
تلعب اللغة دورا رئيسا في تميز الرواية، فهي تنحت بعمق غائر للإمساك بدواخل الشخصيات، وإقامة متن سردي قوي ومتماسك رغم تشابك الأحداث وتداخلها، تمتلك قدرتها التعبيرية بذات القدر الذي تمتلك به القدرة على التدفق السلس للانتقال بين الشخصيات والأزمنة والأماكن، ترسم حدودها وتنقش تفاصيلها بدقة، وتتراوح لحظتها الآنية بين الماضي والتطلع إلى المستقبل برشاقة تمكنها من إقامة عالمها المتخيل بواقعية أسطورية وصدق.
عن عمارة تملؤها الوحدة، وتطحنها الغربة، ويميتها الألم، وهي تقف وحدها في مواجهة بحر متلاطم وأفق مسدود وليل مظلم، لكنها تنجح في إقامة مدينة جديدة من حولها، وتشهد على لنجاحها صخرة العشاق بامتدادها اللا متناهي في الزمن، تدور أحداث الرواية المتميزة “حتى يجد الأسود مَنْ يُحبه” للكاتب محمد صالح البحر، لتشكل إضافة مهمة في مسيرته الروائية، ومسيرة الأدب العربي المعاصر.
“حتى يجد الأسود مَنْ يُحبه” هي الرواية الرابعة في مسيرة البحر، والكتاب الثامن له إضافة إلى ثلاث مجموعات قصصية، ومسرحية للطفل.