رجال صينيون وهنود يعانون الوحدة بسبب أعدادهم التي تفوق النساء
لم يحدث شيءٌ كهذا قط في تاريخ البشرية؛ إذ أدى مزيج من التفضيلات الثقافية ومرسومٍ حكومي بتقييد عدد المواليد والتكنولوجيا الطبية الحديثة إلى اختلال التوازن بين الجنسين على نطاق واسع بأكبر دولتين في العالم، فأصبح عدد الرجال يفوق عدد النساء بمقدار 70 مليون بالصين والهند، حسب تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية
وعواقب وجود هذا الكم الهائل من الرجال -الذين يمرون الآن بمرحلة البلوغ- بعيدة المدى؛ ففضلاً عن الشعور السائد بالوحدة لعدم توافر عدد مناسب من النساء، يشوِّه عدم التوازن سوق العمل، ويرفع معدلات الادخار في الصين، ويخفض الاستهلاك، ويضُخِّم قيم ممتلكات معينة بدرجةٍ غير طبيعية، ويزيد معدلات جرائم العنف والاتجار غير المشروع والدعارة في عددٍ متزايد من الأماكن.
ولا تقتصر هذه العواقب على الصين والهند؛ بل تمتد إلى عمق جيرانها الآسيويين، وتشوِّه اقتصادات أوروبا والأميركتين أيضاً. وبدأت تداعيات الزيادة البالغة في عدد الرجال، التي بالكاد يُعترَف بها، تظهر في الأفق.
وحذَّر لي شوزو، الديمغرافي البارز بجامعة شيان جياوتونغ، قائلاً: “في المستقبل، سيكون هناك ملايين الرجال الذين لا يستطيعون الزواج، وهذا قد يُشكِّل خطراً كبيراً على المجتمع”.
نسبة مدمرة في مجتمع يمثل سدس سكان العالم
من إجمالي سكان الصين، البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة، يفوق عدد الذكور الإناث بنحو 34 مليون ذكر، أي ما يعادل تقريباً جميع سكان ولاية كاليفورنيا الأميركية أو بولندا الذين لن يجدوا زوجاتٍ أبداً ونادراً ما يمارسون الجنس. جديرٌ بالذكر أنَّ سياسة الطفل الواحد الرسمية في الصين والتي كانت ساريةً من عام 1979 إلى عام 2015، كانت عاملاً كبيراً في حدوث هذا الخلل؛ إذ قرر ملايين الأزواج أن ابنهم يجب أن يكون ذكراً، حسب تقرير الصحيفة الأمريكية.
أمَّا في الهند -تلك الدولة التي لديها تفضيلٌ مترسِّخ بعمق للأبناء والورثة الذكور- يزيد عدد الذكور على الإناث بـ37 مليون ذكر، وفقاً لآخر تعداد أجرته. واستمر عدد الإناث حديثات الولادة في الهبوط مقارنةً بحديثي الولادة من الذكور حتى مع نمو تطوُّر البلاد وازدهارها. ولا شكَّ في أنَّ اختلال التوازن بين عدد الذكور وعدد الإناث يخلق فائضاً من العُزَّاب ويُفاقم الاتجار بالإناث، سواءٌ العرائس أو ربما البغايا. وأرجَع بعض المسؤولين ذلك إلى ظهور تكنولوجيا انتقاء الجنس في السنوات الثلاثين الماضية، وصحيحٌ أنَّها صارت محظورة الآن، لكنَّ استخدامها ما زال منتشراً.
وفي البلدين، يزيد عدد الذكور على عدد الإناث تحت سن العشرين بـ50 مليون ذكر، حسب سيمون دينير مدير مكتب صحيفة The Washington Post الأميركية في العاصمة الصينية بكين.
تحاول كلتا الدولتين متأخراً النظر في السياسات التي أوجدت هذا الجيل ذا الأغلبية الذكورية الكبيرة. ويقول خبراء ديمغرافيون إنَّ تلاشي تداعيات هذه الزيادة البالغة سيستغرق عقوداً.
حكايات مؤلمة.. رجال بلا حبيبات!
تستعرض صحيفة واشنطن بوست قصصاً شخصية تبيِّن مدى تأثير هذا الخلل في التوازن بين الجنسين، ونوجز تأثير ذلك في الحياة القروية والصحة العقلية، وانتشار الشعور بالوحدة والاكتئاب على نطاقٍ واسع بين الرجال، وخلو القرى من سكانها، وتعلُّم الرجال الطهي وتأدية الأعمال المنزلية التي لطالما كانت مقتصرة على النساء.
لم يحظَ “لي ويبين” بحبيبةٍ قط؛ فعدد الصبيان كان يفوق عدد البنات في القرية الجبلية المنعزلة التي نشأ فيها، والمصانع التي كان يعمل بها في سن المراهقة، ومواقع البناء التي يعمل فيها حالياً ويحصل على أجرٍ متواضع.
واليوم، وهو في الثلاثين من عمره، يعيش في مهجعٍ خانق شبه خالٍ مع 5 رجالٍ آخرين بمدينة دونغ غوان جنوب الصين، يحتوي على أسرِّة بطابقين بجانب الجدران، وأعقاب سجائر منتشرة على الأرضية.
وقال “لي ويبين”: “أريد العثور على حبيبة، لكنَّني لا أملك مالاً ولا فرصة لإيجادها. فالفتيات يضعن معايير عالية جداً؛ إذ يُردن منازل وسيارات؛ لذا لا يرغبن في التحدُّث معي”.
ولا تقتصر مشكلة “لي” على أنَّه فقير ويكافح لتوفير ما يكفي من النقود لشراء شقةٍ خاصة به؛ بل تكمن كذلك في أنَّ عدد الذكور في الصين يفوق عدد الإناث بكثير. وفي الصين، يمنح الزواج وضعاً اجتماعياً، ويضغط الآباء والأمهات بشدة على أبنائهم لولادة أحفاد. ويوصف العُزَّاب الذين هم على شاكلة “لي”، باستخفافٍ، بأنَّهم “غصون جدباء”؛ لعدم توسيعهم شجرة العائلة.
ولكن، كما يعلم أي عاملٍ في الغابات، فالغصون الجدباء تُشكِّل خطراً لا يقتصر عليها.
وفي مدينة دونغ غوان، حيث تبلغ نسبة الرجال إلى النساء 118 إلى 110، قال “لي” إنَّه تخلَّى فعلياً عن الأمل في العثور على حبيبة، مضيفاً أنَّه يقضي وقت فراغه في اللعب على هاتفه أو مرافقة زملائه في العمل إلى صالات الكاراوكي أو جلسات تدليك القدمين.
وقال “لي”: “إنني وحيد.. الحياة مملةٌ وموحِشة!”.
المجتمع يريد ذكوراً والأم تريد إناثاً
حين كانت أُم باتي -زوجة أحد المزارعين في قرية باس بولاية هاريانا الهندية- تُنجِب أطفالاً، كانت تدعو الله ليرزقها بحزمة فتياتٍ ذوات عيونٍ جميلة، لكنَّها كانت تُرزق بذكر، ثم ذكر ثانٍ، ثم ثالث إلى أن صار لديها 7 صبيان. وكان جيرانها في القرية يشعرون بسعادةً غامرة لأجلها في كل مرةٍ تُرزَق فيها بطفلٍ جديد؛ إذ كانوا يقرعون أطباقاً فولاذية كي يعلم كُل من في الحي أنَّ صبياً جديداً قد وُلِد.
ومع ذلك، فهذه ثقافةٌ تشهد رغبة الآباء والأمهات في إنجاب مواليد ذكور أكثر من رغبتهم في إنجاب الإناث؛ كي يتمكنوا من إشعال محارق الموتى الهندوسية ووراثة الممتلكات ورعاية الآباء والأمهات المسنين. وكما تقول إحدى عبارات المباركة السنسكريتية: “ليجعلكِ الله أمّاً لـ100 ابن”.
بَدَت أم باتي، في بعض الأحيان، كما لو كانت أمّاً لـ100 ابن؛ إذ كانت تعمل من شروق الشمس حتى الليل. وكانت تُواسي نفسها بفكرة أنَّها قد تُرزَق يوماً ما ببنات أخ أو بنات أخت أو حفيدات كذلك لتتبادل القصص معهن ويساعدنها في واجبات الطهي.
ولكن بحلول الوقت الذي وصل فيه ابنها الأكبر سنجاي -الذي يبلغ من العمر الآن 38 عاماً ويعمل طاهياً- إلى سن الزواج، تسلَّلت ممارسات الأُسر في منطقتها، مثل التصوير غير القانوني بالسونار، إلى المدن الكبرى؛ ومن ثَمَّ، تسبب الإجهاض في خسائر فادحة. وحين بدأت مع زوجها البحث عن زوجات مناسبات للزواج المُدبِّر -الذي ما زال عرفاً سائداً- من أبنائها، لم تكن هناك عرائس مناسبات؛ فالشابات القليلات تزوَّجن جميعاً، أمَّا أولئك اللاتي لم يتزوجن، فغادرن بحثاً عن فرص أفضل في مكانٍ آخر.
تقضي أم باتي، (60 عاماً)، أيامها حالياً في الطهي والتنظيف لزوجها وأبنائها البالغين، الذين تتراوح أعمارهم بين 22 و38 عاماً؛ إذ يلتهمون الكثير من أرغفة الخبز التي تعد من الأغذية المنزلية الرئيسية، ولقد تشكَّل كل رغيفٍ منها في يدي أم باتي الخشنتين من أثر العمل الشاق؛ إذ تغوصان في عدة أرطالٍ من الدقيق يومياً.
وقالت أم باتي: “لا نمتلك خياراً آخر، فالأمر ليس في أيدينا”.
حلم الزواج يتبدد
كان سوريش كومار يحلم في يومٍ من الأيام بالزواج في موكبٍ يمر عبر أزقة قرية باس برفقة عروسٍ مزيَّنة بالذهب، واحتفالٍ أشبه بالاحتفالات التي كانت طقوساً شبه عالمية للرجل الهندي.
ولكن بعد انفصاله عن مخطوبته، لم يعثر على عرائس أخريات مناسبات، حتى إنه عاد إلى الدراسة ليحصل على شهادته الثانوية، على أمل أن يصبح خاطباً أكثر جاذبية.
لكنَّه لم يعثر على عروس. والآن، صار كومار في منتصف الثلاثينيات من عمره، أي أكبر بكثير من العمر الذي يُعَد هو الأنسب للزواج في الهند، وبدأ يواجه حقيقيةً صعبة: لن يعثر على زوجةٍ ويكوِّن أُسرة.
وقال كومار: “الناس يقولون لي: (ليس لديك زوجةٌ ولا أطفال ترعاهم، فلماذا تعمل بجِدٍّ كبير؟!)، فأضحك من الخارج، لكنَّ الألم الذي يعتصر قلبي لا يدركه أحدٌ سواي”.
كيف ينظر المجتمع إلى الرجال العزّاب؟
الرجال العزاب معزولون ومهمَّشون في القرارات الأسرية الكبرى وعُرضةً للسخرية، ولا يحصلون إلَّا على قليلٍ من الدعم وخدمات الصحة العقلية. والأسوأ من ذلك، ففي الثقافة التقليدية للقرى، ينعدم أمل الذين فاتهم قطار الزواج في أن يحظوا برفقةٍ نسائية؛ إذ تصبح المواعدة أو مرافقة حبيبة أمراً مستحيلاً بالنسبة لهم.
وفي أمسيةٍ منذ وقتٍ قريب، أقامت إحدى الأُسر حفلةً على سطح منزلٍ للاحتفال بميلاد صبي. لكنَّ حفلات الترحيب بولادة البنات نادرةٌ جداً، لدرجة أنَّ الصحف المحلية تغطيها. وقبل وصول الضيوف، كان كومار جالساً عند أحد السلالم المجاورة يتصبب عرقاً على وعاءٍ من الحديد الزهر، ويتبادل النكات مع أصدقائه في أثناء قليه الفطائر الحلوة للضيوف.
وقال كومار إنَّه يحب الطهي، لكنَّه يُشعِره بالحزن أحياناً.
ففي أثناء أحد مهرجانات الحصاد في العام الماضي (2017)، تأخرت والدته ببلدةٍ أخرى، وتركت كومار وحيداً، فاضطر إلى إعداد الفطائر بنفسه. وبينما كان يقلب الكعك في الزيت المغلي، دمعت عيناه وهو يفكر في عدم وجود زوجةٍ ولا أطفال ليأكلوا الحلوى التي كان يصنعها.
وقال كومار إنَّه لو كانت لديه زوجةٌ، “لكان هناك شخصٌ يصنع له الشاي ويقول له متى يجب أن يستحم”. وأضاف: “ليست لدينا قيمةٌ كبيرة بصفتنا رجالاً غير متزوجين في المجتمع. فكل شخصٍ يقول لنفسه: ما المشكلة الموجودة لدى هذا الرجل فمنعته من الزواج؟، ما النقص في عائلته؟ وما العيب فيه؟”.
وحين يسدل الليل أستاره، يأتي معه الوقت الأوحش. فحين تنطوي القرية على نفسها، ويعود الرعاة مع أبقارهم من بِرك المياه، ويتصاعد الدخان من طهي وجبات العشاء، ويلعب الطلاب الصغار مرتدين أزياءهم المدرسية في الأزقة غير المستوية، يغلق كومار باب غرفته على نفسه.
وقال كومار: “أشاهد التلفزيون وأفلاماً رومانسية في بعض الأحيان. ماذا يمكنني أن أفعل؟! الأمر في يدي حينئذٍ. ما أشعر به في داخلي يبقى داخلي”.
لم يكن من المفترض أن ينتهي به المطاف إلى هذه الحال، فحين كان في المدرسة الثانوية، عاش قصةً رومانسية قصيرة مع إحدى زميلاته بالصف، كانت تبلغ من العمر 17 عاماً آنذاك، وكانت طويلة القامة ونحيفة، ذات شعر مُضفِّر بضفيرتين كانتا تصلان إلى أسفل ظهرها. وحتى الآن، لا يستطيع التحدث عنها دون أن يغني بعض الكلمات من إحدى أغنيات الحب الأوردية. وقال لصحيفة Washington Post: “كنت أبحث عنها على موقع فيسبوك بالأمس”.
لكنَّ قصة الحب اكتُشِفت وهما في المدرسة، فوضع والداهما حداً لها، وتزوجت زميلته في نهاية المطاف شخصاً آخر. ولم تتمكن أسرته من العثور على أي عرائس أخريات مناسبات له.
وقالت أمه “بهيما” وهي تجلس معه بعد الحفلة في الفناء الخافت بالمنزل المتواضع الذي يعيشان فيه: “نشعر بذلك، لكنَّها مشكلةٌ في كل بيت”.
وقال كومار إنَّ الضيق الذي يشعر به يكون واضحاً في بعض الأحيان.
وأضاف كومار: “أتعرف الحالة التي تنعدم فيها الرياح، وتتوقف النباتات والأوراق عن الحركة؟ هذا هو شعور الرجل الأعزب: حياته راكدة”.
وإضافة لذلك، هناك ظواهر مثل استقدام زوجات من خارج البلاد، بعدما يفشلون في العثور على زوجة من الصين، وكذلك يصعّب التنافس على الفتيات للزواج من تكاليف الزواج؛ إذ يلزم كثير من الشباب ببناء منزل حتى يتمكنوا من إقناع أُسرة الفتاة بجدارتهم بالزواج بها.