رايتس ووتش: إسرائيل بنت منذ 1948 نحو 900 بلدة يهودية وترفض بناء بلدات عربية
في تقرير موسع بعنوان “سياسات إسرائيل التمييزية تحاصر الفلسطينيين” مكون من عدة أقسام، تقول منظمة “هيومن رايتس ووتش” إن سياسة تضييق الخناق على التجمعات السكانية الفلسطينية تتخطى الضفة الغربية وقطاع غزة، لتطال الفلسطينيين في البلدات والقرى الفلسطينية داخل إسرائيل.
وحسب المنظمة الدولية تنحاز هذه السياسة إلى مصلحة المواطنين اليهود ضد مواطني إسرائيل الفلسطينيين (ويُطلق عليهم أيضا “عرب الداخل” أو “فلسطينيو الداخل” أو “عرب الـ 48”)، وتقيّد بشدة إمكانية وصول الفلسطينيين إلى الأراضي بغرض السكن وإتاحة نمو سكاني طبيعي.
ويقول إريك جولدستين، مدير قسم الشرق الأوسط بالإنابة في هيومن رايتس ووتش، إن هذه السياسة الإسرائيلية، على جانبَيْ الخط الأخضر، تحشر الفلسطينيين في أماكن مكتظة، بينما تمنح أراضي واسعة للبلدات اليهودية، لافتا إلى أن “هذه الممارسة معروفة جيدا في حالة الضفة الغربية المحتلة، لكن السلطات الإسرائيلية تفرض سياسات الأراضي التمييزية داخل إسرائيل أيضا”. وتسيطر السلطات الإسرائيلية مباشرة على 93% من الأراضي، بما فيها القدس الشرقية المحتلة.
أما “سلطة أراضي إسرائيل”، وهي مؤسسة حكومية، فتدير هذه الأراضي التي تسيطر عليها الدولة وتوزعها. ينتسب نصف أعضاء مجلس إدارتها تقريبا إلى “الصندوق القومي اليهودي”، المفوَّض بشكل صريح بتطوير وتأجير الأراضي إلى اليهود دون أي فئة سكانيّة أخرى من السكان. كما يمتلك الصندوق 13% تقريبا من الأراضي والتي تُفوَّض الدولة باستخدامها “بغرض استيطان اليهود فقط”.
المدن المختلطة
يشكّل مواطنو إسرائيل الفلسطينيون 21% من سكان البلاد، غير أن منظمات حقوقية إسرائيلية وفلسطينية قدّرت في العام 2017 أن الأراضي التابعة لإدارة البلديات الفلسطينية تشكل أقل من 3% من مجمل الأراضي في إسرائيل. يعيش معظم الفلسطينيين في إسرائيل في هذه البلدات، رغم أن بعضهم يعيش في “مدن مختلطة” مثل حيفا وعكا. كما استخدمت العديد من القوانين العسكرية والقوانين الجديدة لمصادرة أراضي الفلسطينيين الذين تحولوا إلى لاجئين أو مواطنين فلسطينيين مهجرين، عبر إعلان الأرض على أنها “أملاك غائبين”، والاستيلاء عليها ثم إعلانها تابعة للدولة. ويقدر أن 350 من أصل 370 بلدة وقرية يهودية أنشأتها الحكومة الإسرائيلية بين 1948 و1953 شُيِّدَت على أراضٍ مصادَرة من فلسطينيين.
بلدات جديدة.. لليهود فقط
لم تخفق سياسة الأراضي في السنوات الأخيرة في إبطال مصادرات الأراضي السابقة فحسب، بل زادت القيود في الكثير من الحالات على الأراضي المتاحة للنمو السكاني. وسمحت الحكومة، منذ 1948، بإنشاء أكثر من 900 “بلدة يهودية”، دون أن تسمح بأي بلدة للفلسطينيين باستثناء قلة من القرى والبلدات الصغيرة التي تخضع لتخطيط الحكومة في النقب والجليل، ويدخل ذلك في جزء كبير منه في خطة الحكومة لتجميع البدو المتفرقين في البلاد.
ويورد التقرير في القسم الأخير بلدة عين ماهل (قضاء الناصرة) البالغ تعداد سكانها حوالي 13 ألف فلسطيني، مساحتها حوالي 5,200 دونم ومحاطة من جميع الجهات بمدينة “نوف هجليل” ذات الأغلبية اليهودية، والتي كانت حتى العام 2019 تحمل اسم “الناصرة العليا” أو بالعبرية “نتسيرت عيليت”. يبلغ عدد سكان “نوف هجليل” حوالي 41,200 شخص ومساحتها نحو 33 ألف دونم، هاجر كثير منهم من أوروبا الشرقية في الثمانينيات والتسعينيات.
“نوف هجليل” هي “مدينة مختلطة” رسميا، 26 % من سكانها حاليا فلسطينيون، لكن السلطات الإسرائيلية نظرت منذ البداية لها على أنها “بلدة يهودية ستؤكد الوجود اليهودي في المنطقة”، كما كتب أول رئيس وزراء إسرائيلي ديفيد بن غوريون عام 1957.
أيضا، قال مدير دائرة التخطيط في الجيش الإسرائيلي يوفال نيمان إن المدينة “ستعزز الطابع اليهودي وتحافظ عليه في الجليل ككل”. شكّلت الناصرة العليا جزءا رئيسيا من إستراتيجية الحكومة لـ “تهويد الجليل”. كتب الحاكم العسكري في الشمال آنذاك العقيد ميخائيل ميخائيل أن الناصرة العليا “ستبتلع” الناصرة، وهي مدينة فلسطينية، وينتج عنها “نقل مركز ثقل الحياة من الناصرة إلى الحي اليهودي”.
الحكم العسكري
تحيط “نوف هجليل” المتاخمة للناصرة، بـ عين ماهل بالكامل وتتشعب بين خمس بلدات وقرى فلسطينية أخرى، ما يعيق إنشاء منطقة بلدية فلسطينية كبيرة متواصلة مجاورة بل حولت هذه البلدات إلى جزر محاصرة من كل الاتجاهات. وخلال الحكم العسكري الذي خضع له معظم المواطنين الفلسطينيين، بمن فيهم سكان عين ماهل، أنشأت السلطات الإسرائيلية عام 1957 جزءا من “الناصرة العليا” على الأراضي التي صادرتها من عين ماهل، بموجب إجراءات شملت القوانين التي تحكم “أملاك الغائبين”، كما هو موثق في كتاب المحامي حسين أبو حسين، وهو من مدينة أم الفحم، والمحامية البريطانية الحقوقية فيونا مكاي. استمرت المصادرة بعد نهاية الحكم العسكري، بما فيها مصادرة أكثر من ألف دونم إضافي في منتصف السبعينيات. وطبقا لمعطيات مسؤول حالي في المجلس المحلي، مساحة عين ماهل اليوم هي حوالي ثلث مساحتها الأصلية.
البحث عن مأوى مفقود
وتقول المنظمة الدولية إن سياسات تخطيط السكان تلزم بالبناء ضمن المركز السكني في القرية البالغة مساحتها 2,000 دونم تقريبا. وتتابع: “مخططا عين ماهل، الأول في 1982 والثاني في 1996، خصصا معظم أراضي البلدة للاستخدام الزراعي”. وتنقل “هيومن رايتس ووتش” عن سعيد أبو ليل، وهو مدرس متقاعد، قوله إن الذين يعيشون في مركز البلدة السكني يواجهون مثله أزمة سكن، مع انتقال عديد من الشباب على مضض خارج القرية، بما فيه إلى نوف هجليل/نتسيريت عيليت بحثا عن مأوى. ويقول أبو ليل إن الخطط المعمارية وفرت مساحة أكبر للبناء السكني، لكن كثيرا من الأراضي المخصصة كانت ملكيات خاصة، مرجحا أن إعادة تخصيص الأراضي الخاصة لن يؤدي بالضرورة إلى توفير مساكن لأولئك الذين لا يملكون أراضي ولا يستطيعون شراءها – والذين يمثلون من 20 إلى 30 % من سكان عين ماهل، بحسب تقدير أبو ليل الذي يؤكد الحاجة إلى تخصيص ما يعرف بـ “أراضي الدولة” لتحقيق هذه الغاية.
يوم الأرض الأول
ويوضح طبيب الأسنان مروان حبيب الله (53 عاما) أن السلطات الإسرائيلية صادرت حوالي 11 دونما من أرضه عام 1976 كجزء من مصادرة حكومية أوسع لحوالي 20 ألف دونم أشعلت احتجاجات يحيي ذكراها النشطاء كل عام في 30 مارس/آذار تحت عنوان “يوم الأرض”. ويقول حبيب الله أيضا إنه رفع دعوى قضائية، أدت إلى عرض تعويض مالي عليه لكنه رفضه، وتمتلك عائلته من تسعة إلى عشرة دونمات أرض في المنطقة الزراعية قرب المنطقة المبنية، ولكنه غير قادر على البناء عليها، مؤكدا أنه ليس لديه خيار سوى البقاء في منزله على أرض ورثها عن جده في مركز البلدة السكني، الذي يقول إنه صغير جدا لعائلته المكونة من ستة أفراد. فكر في الانتقال إلى نوف هجليل، لكنه قال إنه لا يستطيع تحمل الإيجار هناك. أما ساهر أبو ليل (40 عاما) هو أخصائي علاج طبيعي، حاصل على شهادة عليا من جامعة تل أبيب، وأب لخمسة أطفال، فيقول إنه غادر عين ماهل، حيث نشأ، إلى الناصرة العليا عام 2010 بسبب أزمة السكن. ويوضح أنه ما كان لينتقل لو تمكن من بناء منزل على قطعة أرض مساحتها أربعة دونمات تمتلكها عائلته في جنوب شرق عين ماهل، لكن السلطات الإسرائيلية خصصت تلك المنطقة للاستخدام الزراعي. وتتابع المنظمة الدولية التي نادرا ما تفرد تقاريرها للمواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل: “سعى أبو ليل إلى شراء منزل في عين ماهل عام 2015، لكنه قال إن البنك حرمه من القرض، مدعيا أن العقار لن يحقق عائدا جيدا إذا تخلف عن السداد”.
لليهود فقط
وحسب “هيومان رايتس ووتش” فقد ضيّقت السلطات الإسرائيلية على عين ماهل، بينما سمحت لـ “نوف هجليل” بالنمو بسرعة. وتضيف: “بالبناء على أراضي الدولة وتخصيصها كمنطقة تطوير ذات أولوية، استثمرت السلطات الإسرائيلية بكثافة في نوف هجليل، بما يشمل إنشاء “منطقة تسيبوريت الصناعية”، التي تشمل مصانع ومجمّعا لشركات التكنولوجيا المتطورة، ومن المقرر أن تغطي 3,560 دونما. نوف هجليل، حيث المقر الرئيسي لمصنع شوكولاتة “شتراوس إيليت”، تتلقى جميع عائدات الضرائب المحلية من هذه الصناعات؛ لا تذهب أي من هذه الضرائب إلى البلدة التي تحيط بها: عين ماهل”. كما تستذكر أيضا أن السلطات الإسرائيلية لم تخصص أي جزء من أراضي المدينة للزراعة، وفقا للمديرة العامة للبلدية حافا بخار. وتتابع: “على النقيض من ذلك، لا توجد في عين ماهل مناطق صناعية كما أن المناطق المخصصة للمساحات العامة قليلة”. وتنقل عن سعيد أبو ليل قوله إن بلدته عين ماهل “مكان للإقامة، لكن ليس للعيش”.
وتشير المنظمة الدولية إلى انتقال آلاف المواطنين العرب الفلسطينيين إلى “نوف هجليل” في السنوات الأخيرة، حيث اشتروا بشكل كبير ممتلكات من اليهود الإسرائيليين الذين أعيد توطينهم هناك كـ مهاجرين وكسبوا ما يكفي “للانتقال نحو حياة أفضل في وسط البلاد”، وفقا للصحفي البريطاني جوناثان كوك المقيم في الناصرة. وتعزو بخار في التقرير الدولي وصول الفلسطينيين في “نوف هجليل” إلى حقيقة أن “البلدات المجاورة ليس لديها مساحة للنمو” وأشارت إلى أن “نوف هجليل” قدمت قطعة من أرضها لمقبرة لسكان عين ماهل، لكنها لا ترغب في “التخلي عن الأرض”، بالنظر إلى “طموحنا في الوصول إلى 100 ألف مواطن”. وتقترح بخار بدلا من ذلك أن تبني إسرائيل “مدينة جديدة للمواطنين العرب” وتقول إن المدينة “تجلب عائلات يهودية للاستقرار” من أجل “ضمان بقائها يهودية”. وحتى اليوم لا توجد في نوف هجليل مدرسة حكومية لنحو 3 آلاف طفل عربي فلسطيني في سن الدراسة، ما يجبر معظمهم على التنقل إلى الناصرة. وتقتبس المنظمة الدولية عن رئيس بلدية “نوف هجليل” شيمعون غابسو حينها عام 2013 ما قاله لـ صحيفة “واشنطن بوست”: “أفضّل أن أقطع ذراعي اليمنى على بناء مدرسة عربية”.