«ذو النون المصري»… سيد الزاهدين في أرض الكنانة
هو القائل: “إذا صحت المناجاة بالقلوب استراحت الجوارح”.. فقيه عرف الله حق وعرف الحياة وحصل علما أهله ليكون من العارفين الأتقياء.. إنه “ثوبان بن إبراهيم” الملقب بـ (ذو النون المصري) زاهد مصر الأشهر.
وهو من أوائل المتصوفة، يذكره بن خلكان فيقول:” وكان أوحد وقته علما وورعا وحالا وأدبا، وهو من بين المعدودين من رواه الموطأ عن الإمام مالك”.
وقد ولد في أخميم في قلب صعيد مصر في 179 هــ، وقيل بأن أبوه كان نوبيا، وكان “أبو الفيض” أحد الأوائل المؤثرين من أعلام التصوف، عاش حياته في “الجيزة” وزار الحجاز، الشام والعراق، وكان أحد بناة دعائم التصوف الإسلامي، وناله ما نال غيره من كبار المتصوفة من اتهام وتكفير وصل إلى القتل، برغم ما وصل إليه من درجة دعته لأن يطلق عليه “زاهد مصر” في عصره.
ولاتجاهه للزهد والورع حكاية بها من الحكمة والتفكر ما جعله يهجر حياته العادية إلى دنيا الله، ويحكي عنها ذو النون فيقول:” خرجت من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق ببعض الصحارى، ففتحت عيني فإذا بقنبرة (عصفور) عمياء سقطت من وكرها على الأرض، فانشقت الأرض فخرجت منها بوتقتان إحداهما ذهب والأخرى فضة، بإحداهما سمسم وفي الأخرى ماء، فجعلت تأكل وتشرب منه، فقلت:حسبي، قد تبت ولزمت الباب إلى أن قبلني”، ومنها يخرج زو النون بروح جديدة آمنت أن الخالق قادر على كل شيء وأن رضاه أهم ما يرجو في حياته.
ووصل ذو النون من العلم والتعبد إلى أنه كان يعرف اسم الله الأعظم، وهو ما سمعه “يوسف بن الحسين” الذي أشار إلى أنه دخل مصر وخدم ذو النون سنة، بعد أن عرف ذلك، ثم طلب منه أن يعرفه باسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، فقال له :يا أستاذي إني قد خدمتك ووجب حقي عليك، وقيل لي إنك تعلم اسم الله الأعظم، وقد عرفتني ولا تجد له موضعا مثلي فأحب أن تعلمني إياه.
وبدأ ذو النون بمرحلة الاختبار لتلميذه ليرى إن كان على قدر الأمانة لحمل الاسم الأعظم أم لا فتركه ستة أشهر ثم بدأت أولى الاختبارات التي رسب فيها بما يؤكد عدم قدرته على حمل أمانته، فخرج الزاهد الورع من بيته و طلب من ابن الحسين أن يوصل أمانه لصديقه المقيم بالفسطاط، وفحمل طبقا مشدود في منديل وبدأ رحلة السير من الجيزة حيث دار ذي النون في الطريق إلى الفسطاط، وطوال الطريق يفكر.. مثل ذي النون يوجه هدية إلى فلان..؟، وما هي؟ فما أن بلغ جسر النهر حتى ضاق بالانتظار وقتله الفضول فحل المنديل وكشف الطبق فإذا بفأر يقفز منه.
يغتاظ ابن الحسين بشدة و يلقنه “ذو النون” الدرس قائلا :”يا أحمق جربناك، أئتمنتك على فأرة خنتني أفائتمنك على اسم الله الأعظم؟ مرّ عني فلا أراك أبدا”
ويذكر ابن خلكان في الوفيات أن الخليفة المتوكل طلبه سنة 245 فلما وصل أنزله الخليفة في بعض الدور وأوصى به رجلا، قال له استقبل أمير المؤمنين بالسلام، لكن ذو النون الورع المعتز بنفسه وعندما خرج للأمير قال له الرجل سلم على أمير المؤمنين، فكان رد ذو النون “ليس هكذا جاءنا الخبر”، إن الراكب يسلم على الراجل، فتبسم المتوكل وبدأه بالسلام وقال له: أنت زاهد مصر، فقال كذا يقولون ثم وعظ الخليفة، الذي بدوره أكرمه ورده إلى مصر.
وتشير بعض الأخبار الأخرى إلى أن هذا أتى بعد أن اتهمه الناس بالزندقة، فلذا أرسل المتوكل في طلبه إلا أن العابد الورع عندما جاءه وعظه حتى بكى المتوكل، فرده إلى مصر مكرما.
ويقال بأن الناس اتهموه بالزندقة وقاطعوه، فلم يستطيعوا تقبل كلامه، وحديثه وكفروه، فلما مات ووفقا للشهادات أظلت الطير جنازته، فعرفوا قيمته.. ، وفي هذا الإطار يشار في وفيات الأعيان أن ذا النون خرج وفي رجليه القيد ويساق إلى “المُطبِق” والناس من حوله يبكون وهو يقول:” هذا من مواهب الله تعالى ومن عطاياه، وكل فعاله عذب حسن طيب”، وأنشد:
لك من قلبي المكان المصون كل لوم علي فيك يهون
لك عزم بأن أكون قتيلا فيك والصبر عنك ما لا يكون
فقد أعلن بذلك رضاه أن يظلمه الناس ويجوروا عليه بل ويكفروه ويصل به الحال إلى سدة المقصلة.. وبعد وفاته أظلت الطير جنازته محلقة في السماء حتى مدفنه، فعرف وقتها الناس أن ظلما بينا قد وقع على الزاهد الورع “ذو النون المصري” أحد أقطاب التصوف في القرن الثاني الهجري.