ذا أتلانتيك: داعش لم ينتهي والبغدادي يحاول اجتذاب السعوديين والمصريين
على مدار ما يقرب من عام، يتساءل مراقبو نشاط تنظيم الدولة داعش ما إذا كان أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم، على قيد الحياة أو لا. ويوم الأربعاء 22 أغسطس 2018، عاد البغدادي إلى الظهور للمرة الأولى منذ 11 شهراً؛ إذ نشر خطاباً مسجلاً بمناسبة عيد الأضحى.
وتحدث البغدادي في الخطاب الذي تصل مدته إلى 55 دقيقة -وهو أطول خطاب له ينُشر علناً- عن الأحداث الأخيرة، ما يشير إلى أنَّه سجَّل هذا الخطاب في الأسابيع القليلة الماضية.
عودة ظهور تنظيم الدولة في مناطق سبق أن خسرها
جاء الخطاب وسط تقارير عن معاودة داعش الظهور في ديالى وصلاح الدين وكركوك بالعراق، وجميعها مناطق خسرها تنظيم الدولة قبل سنوات. وفقد التنظيم الإرهابي، بشكل عام، نحو 98% من المناطق التي كان يسيطر عليها في السابق. وأعقب الخطاب أيضاً تقديرات مثيرة للدهشة، صدرت عن كلٍّ من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) والأمم المتحدة، تفيد بأنَّ التنظيم لا يزال لديه أكثر من 30 ألف مقاتل في العراق وسوريا.
وكانت الأفرع التابعة لـ»داعش» في دول مثل أفغانستان ومصر أكثر فتكاً ونشاطاً، بشكلٍ ملحوظ، في الأشهر الأخيرة. بعبارة أخرى، يبدو أنَّ «داعش» مرَّ بمرحلة انتقالية مُنسَّقة بالتحول من دولة خلافة إلى تمرد، دون التعرُّض لتصدُّعات. واستخدم البغدادي، الجريء، في خطابه تاريخ تنظيم داعش -كميليشيا صغيرة ضمن شبكة كبيرة من الجماعات المتمردة تشن حرباً ضد الأميركيين- لحشد المؤمنين بأفكار التنظيم.
لكن لماذا ركز أبو بكر البغدادي في خطابه على السعودية ومصر!
تحدَّث البغدادي أيضاً عن نية تنظيمه نشر نفوذه عبر المنطقة، وهي نقطة متكررة في تصريحات «داعش» منذ أن بدأ يفقد الأراضي في عام 2016. وحاول التنظيم اجتذاب السعوديين عبر التحدث بلغة الإسلام الأصولي المقبولة هناك، وحاول أيضاً اجتذاب المصريين عن طريق حملة القمع السياسي التي يقوم بها الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر. وفي يونيو/حزيران 2017، شنَّ «داعش» هجوماً داخل العاصمة الإيرانية طهران، وهو أول هجوم من نوعه في تاريخ الجهاد السُنّي. وهاجم المسلحون مبنى البرلمان الإيراني وضريح مؤسِّس الجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله روح الله الخميني؛ ما أسفر عن مقتل 17 شخصاً. وكان ذلك جزءاً من محاولة «داعش» تقويض تنظيم القاعدة، الذي تجنَّب المواجهة مع إيران، وكذلك لوضع نفسه في مكانة المُدافِع عن أهل السُنّة ضد جميع أعدائهم.
البغدادي إذاً ليس خليفةً حزيناً مُحبَطاً يندب خلافته المفقودة؛ بل يبدو أنَّه تجاوز هذه المرحلة، ساعياً إلى إلهام تنظيمه لإعادة أعظم نجاحاته من أجل رسم مسارٍ إلى مجدٍ مستقبلي. وأوضح خطابه أنَّ «داعش» يتذكر دروس العقدين الماضيين جيداً. أمَّا ما إن كان أعداؤه يتذكَّرون تلك الدروس هم أيضاً أم لا، فهذا هو الحد الفارق بين النصر والهزيمة.
ليُعيد رسم مسار جديد للتنظيم
وبعيداً عن افتتاحيته الوعظية، رسم خطاب البغدادي مساراً لـ»داعش» لإعادة تنظيم الدولة صفوفه؛ إذ دعا البغدادي في أحد المقاطع الرئيسية للخطاب إلى شن هجمات فردية بدول غربية، وضمن ذلك تفجيرات وعمليات دهس بالسيارات وهجمات بالبنادق والسكاكين. كانت مثل هذه الدعوات في السابق تأتي فقط من المتحدث السابق باسم «داعش». لكن هذه المرة، من المرجح أنَّها ستحمل ثقلاً أكبر؛ لكونها تأتي من الشخص ذاته الذي نصَّب نفسه خليفة.
حتى إنَّ البغدادي قد حدد توقعاته كمَّياً: فشنُّ هجوم واحد في الغرب يساوي ألف هجوم بالشرق الأوسط، وهي نسبة تعيد إلى الأذهان الهجمات الإرهابية للجيش الجمهوري الإيرلندي في بريطانيا قبل عقود مضت، والذي اعتبر أنَّ تفجيراً واحداً ببريطانيا يعادل 100 تفجير في إيرلندا الشمالية. يعلم «داعش»، شأنه شأن القوميين الإيرلنديين العنيفين قبله، أنَّ مثل هذه الهجمات ستثير دعاية وردود فعل أكبر من ذبح 200 شخص من المدنيين الدروز في جنوب سوريا أو تفجير سيارة بقلب بغداد.
مستغلاً التوترات الدبلوماسية التي تشهدها المنطقة
ادَّعى أبو بكر البغدادي كذلك أنَّ أميركا في عهد دونالد ترمب تعاني انهياراً عصبياً نتيجة حربها التي استمرت عقدين ضد الجهاديين في المنطقة، مستشهداً بالتوترات بين واشنطن وأنقرة بشأن سجن تركيا القس الأميركي أندرو برانسون، والعقوبات الأميركية ضد تركيا، ورفض حكومة أردوغان الالتزام بنظام العقوبات الأميركي ضد إيران. كل هذا يحدث، كما يقول، بينما «رقعة الجهاد آخذة في التوسع». وعكس خطابات البغدادي السابقة، التي احتدَّ فيها غضباً ضد الاختلال الوظيفي الداخلي لـ»داعش» وفقدان الأراضي المُسيطر عليها، بدا هذه المرة واثقاً بقدرة تنظيمه على الصمود في وجه العاصفة الحالية.
ولتوضيح كيف سيتحول داعش إلى تمرد، أشار أبو بكر البغدادي إلى الماضي؛ إذ ردد الكلمات الأيقونية للمؤسس الأصلي للتنظيم، أبو مصعب الزرقاوي، من عام 2006: «لقد أُضيئت الشرارة هنا في العراق، وستستمر حرارتها تشتد حتى تحرق الجيوش الصليبية في دابق»، وهي بلدة تقع شمال سوريا، ستكون –وفقاً لبعض التفسيرات الإسلامية- موقعاً لمعركة ملحمية بين الجيوش الإسلامية والمسيحية. يشير «داعش»، في كثيرٍ من الأحيان، إلى كلمات الزرقاوي باعتبارها نبوءة؛ إذ لم تكن هناك أي علامات على حدوث عدم استقرار بسوريا في الوقت الذي أدلى فيه بخطابه هذا. أشار البغدادي أيضاً في نقطتين من خطابه، إلى العراق باعتباره مصدر الشرارة، وقال إنَّ الحرب تجدَّدت بعد فقدان الأراضي.
معلناً استراتيجية جديدة: رصاصة واحدة ضد المحتل وتِسعٌ ضد المرتدّين
أشار البغدادي كذلك إلى المقاتلين القبليين السُنَّة الذين ساعدوا الولايات المتحدة في التخلص من تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق»، وهو التنظيم السابق على ظهور «داعش»، من المدن والبلدات السُّنية في عام 2007. وعلى الرغم من قلة أعداد أفراده، أطلق تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» حملة ناجحة امتدت سنوات للقضاء على هؤلاء المقاتلين السنَّة، كجزءٍ من استراتيجية أُعلنت أيضاً بطريقة النسبة والتناسب: رصاصة واحدة ضد المحتل الأميركي وتِسعُ رصاصات ضد المرتدّين. ولمح في كلمته، إلى أنَّ المرء ينبغي أن يُركِّز معظم قوته على هزيمة الشيطان الداخلي.
ودعا البغدادي إلى تكتيكٍ كان قد لجأ إليه تنظيم الدولة عدة مرات بنجاح كبير: التسبُّب في تآكل وتفتُّت الفصائل السُنّيّة من خلال مزيجٍ من عمليات القتل المستهدف والتجنيد. ووعد بأنَّ المعارضة السورية ستلقى المصير نفسه. وناشد أيضاً جنود المعارضة أن يتركوا قادتهم «الخائنين»، الذين اتهمهم بالخيانة بعد سلسلة من اتفاقات الاستسلام مع النظام السوري.
ووجه «نيرانه» بشكل خاص للقبائل السنية
وفي إشارة أخرى إلى القبائل السُنّيّة، ذكر أبو بكر البغدادي أنَّ القوات العراقية لا تزال تعتمد بشكل كبير على قوة النيران الأميركية لصد هجمات «داعش». وقال إنَّ مقاتلي داعش طاردوا أفراد القبائل الكبيرة بالعراق في وضح النهار، على الرغم من النداءات المتكررة من زعماء تلك القبائل إلى الميليشيات الشيعية والحكومية في بغداد لتوفير الحماية.
بدا «داعش» في الصيف يستهدف قادة المجتمع المحلي والميليشيات البارزة وقوات الأمن دون خشية من أي عقاب. ونصب المسلحون كمائن للقوات الموالية للحكومة، وما تزال تلك القوات تطلب في كثير من الأحيان شن غارات جوية أميركية؛ لاحتواء مجرد هجمات داعشية صغيرة. وفي الآونة الأخيرة، على سبيل المثال، سيطر تقريباً نحو 20 مقاتلاً على منشأة نفطية ضخمة في قلب منطقة مُؤَمَّنة من جانب التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بدير الزور، ولم يجرِ تحييدهم إلا عبر الغارات الأميركية.