دراما الطبيعة وتحرر الشكل في لوحات “إيناس مصطفى”
كتب.. محمد عكاشة
في معرض الفنانة “إيناس مصطفى” المقام في قاعة الفنان رخا بعنوان “حوار مع النفس وحوار مع الطبيعة وحوار مع الأبيض والأسود وحوار بين الخطوط والظلال والأشكال” والتي أنتجت أعماله بطريقة المونوتيب في الطباعة على القماش، وفن المونوتيب كما أشارت monotype هو مصطلح يوناني ينقسم إلى مقطعين mono يعنى منفردا أو وحيدا في نوع، وtype يعنى شكلا أو رسما أو تأثيرا يتكون بالضغط، وفن الطباعة الأحادية يصعب استنساخه، ويمتلك تأثيرات رائعة ينفرد بها من حيث الخطوط والظلال والملامس.
وقد وظفت فى هذه اللوحات خامات البيئة الشعبية مثل أعواد الحنة وأعواد الجريد وخامات أخرى، وقد اعتمدتْ فيه على الحس المباشر أو الحى والتلقائي، الذى يظهر التكوينات وكأن الزمن وتراكم الأيام هو الذى رسمها، فنجد خطوطا بيضاء سميكة ورفيعة متراكمة، محققة زوايا ومناظيرا مختلفة ومتنوعة، على خلفية سوداء ساهمت بشكل كبير فى ابراز تلك التشكيلات وكأنها منحوتة على جدران، أو كأنها لوحات جرافيك مرسومة بأقلام حبر مختلفة الدرجات، أو كأن اللوحة فى الأصل كان لها تصميم مسبق قبل أن تنفذ بهذا الشكل، واللوحات مليئة بعلاقات بين الأبيض والأسود، وبين الأفقي والرأسي، تُظهر فيها أشكالا خرافية مجردة أشبه بجذور أشجار، وأشبه بكهوف وطرق وخنادق تتعلق بها كائنات أسطورية، فمن شأن الحركات العشوائية أن تبرز كحروف عربية حرة ترسم أشكالا أشبه بالأرابيسك، خاصة في لوحة الجريد، فقد تناغمت الخطوط العمودية والأفقية، وتشابكت فى عدة زوايا لمناظير معمارية، كسرت فيها سيمترية الأشكال وذلك بتحريكها الأعواد للأمام وللخلف، والأشكال تراها معبأة بحس شعبي، أو من الجائز أن نقول عليها سريالية شعبية كسريالية حامد ندا، أو تجريدية كتجريدية صلاح طاهر، وإذا كانت الواقعية تحاكى الواقع من خطوط وظلال ودرجات لونية متعددة، فإن هذه اللوحات ظهرت وكأنها خطوط خارجية لأشكال واقعية في الأساس، ولكنها خطوط دقيقة مفصلة تغنيك عن بقية الألوان.
إن لدى كل إنسان منا مخزونا بصريا، ومن مهامه استقبال مايراه ليترجمه بما يتوافق معه، ولا يوجد حائل في أن يضيف هذه الأـشكال الجديدة إلى هذا المخزون، والبصرية لا تتوقف عند تلقى الأشكال الواقعية فقط، بل تتلقى أيضا التكوينات التجريدية بقيمها التشكيلية، وتلعب النفس البشرية الدور الأسمى فى ترجمة هذه الأشكال إلى حس يعبر عما تكنه هذه النفس، والبصرية أيضا من الجائز أن تحول الأشكال الواقعية إلى أشكال مجردة، أو إلى تكوينات سريالية تتآلف مع العقل الباطني للشخصية، وللوحات رجع صدى مختلف للتأمل فى التفاصيل الدقيقة، لتربطها بما حولها، والأبيض والأسود، كالنهار والليل، يبرز دور كل منهما بنسب واحدة في اللوحات، رغم أن الأسود ماهو إلا خلفية لتلك الأشكال الفوضوية، لكنه عنصر أساسى فى إظهار تلك الفوضى الخلاقة لحيوة مليئة بدراما حية، وموسيقى صاخبة فى الأغلب، وإيقاعات عالية وهادئة في آن، وإذا كانت الفنانة “إيناس مصطفى” قد طرحت عنوانا لهذا المعرض تحت مسمى “حوار” فمن الأرجح أن نطلق عليه “صراع” أيضا، خاصة أن الأبيض عكس الأسود، وحركة الخطوط سريعة متضادة، وبطيئة هادئة ومتداخلة ومتضادة، أحدثتْ إيقاعات تعبر عن هذا الصراع والتضاد، ولأن النفس البشرية تنقسم إلى نفس “جزئية” ونفس “كلية” كما تحدث إخوان الصفا عن النفس البشرية من قبل، لذا أرى أن اللوحات تتحاور مع النفس الجزيئة التي تخص ذات المتلقي الواحد، وتتحاور أيضا مع النفس الكلية التى تشمل كل من يشاهدها، على اعتبار أن هناك خطوطا عريضة لا تخطئها أية عين، ألا وهى تلقائية الأشكال كمنهج من شأنه أن ينتج تشكيلات مقننة، من الفوضوية إلى الإستقامة المقننة والمصممة لهذا الغرض، أما ما تتلقاه النفس الجزيئية فهو رهين حالة صاحبة المزاجية، أو حالته الروحية، فهل هذه اللوحات ستتناص فى كل هذه التشابكات المتصارعة؟!
إن ما لا تخطئه العين هي الحالة الثورية تماما، كثورات الطبيعة، كالفيضانات والعواصف والزلازل والبراكين، وثورتها التى تدفع بحممها لأعلى ولأسفل، وسرعان ما تجف محدثة أشكالا نحتية تشبه الغابات والبحار والسماوات والبحيرات، وتشبه الحيوانات والطيور، وتشبه الوجوه والأجساد فى حركات توحى وتعبر عن هذا الفيضان الشعوري، الذى تحالف مع فيضان الطبيعة، فيضان خلق حياة عاشت فيها كائنات من قبل، وبقيت بصمات هذه الكائنات، باقية كتراث على تلك الحياة المشحونة بالحكايات.