دراسة تكشف عن سبب اختفاء الطاعون في أوروبا
نشر باحثون دراسة تتبعت مرض الطاعون الذي أنهك أوروبا لقرون قبل انقراضه عام 1945، في حين لا يزال منتشرا في بعض أنحاء العالم.
ذكر الباحثون في دراستهم تحت إشراف باربرا برامانتي، من جامعة أوسلو، والتي نشرت في العدد الحالي لمجلة “بروسيدنجز ب” التابعة للأكاديمية الملكية للعلوم في بريطانيا.
ويذكر البحث انه قضى وباء بشكل خاص على شريحة واسعة من السكان الأوروبيين في العصور الوسطى، إذ توفي ملايين الأوروبيين جراء طاعون جستنيان، بدءا من القرن السادس.
وتسبب طاعون الموت الأسود، وفقا لدراسات، في وفاة ما يصل إلى 50% من الأوروبيين في القرن الـ14. أما ما يعرف بالوباء الثالث أو الجائحة الثالثة، فبدأ في أواخر القرن التاسع عشر، في الصين.
ورغم انتشار “الجائحة” على مستوى العالم، إلا أنها اختفت من أوروبا بشكل دائم منذ عقود، وذلك رغم كثرة بؤر التفشي.
استطاع الباحثون تحت إشراف برامانتي، اعتمادا على تقارير طبية معاصرة لفترات تفشي الطاعون، إعادة رسم مسار الوباء في أوروبا وتقفي قصة انقراضه، بما في ذلك الأسباب وراء تجاوز القارة الأوروبية الوباء.
وحسب الباحثين فإنه تم تسجيل قرابة 1700 حالة إصابة و 457 حالة وفاة في الفترة بين عام 1899 و 1947.
وكانت أغلب الوفيات في العقود الأولى، وكانت المدن ذات الموانئ البحرية والموانئ الداخلية هي الأكثر تضررا، وخاصة مدن بيريه ومرسيليا ولشبونة ولندن وليفربول.
كان آخر تفشي للطاعون عام 1945، في مدينة تارانتو، جنوب إيطاليا، حيث مرض 30 شخصا وتوفي 15 آخرون.
وحسب الباحثين فإن الجائحة بدأت أواخر القرن الـ19 في إقليم يونان، الذي كان منذ فترة طويلة يشهد تفشي أوبئة.
وصل الوباء عام 1894 إلى حاضرة غوانزو، ثم هونغ كونغ، حيث انتقلت عدواه للطبيب السويسري الفرنسي ألكسندر يرسين، بادئ الأمر كبكتريا، سمي الوباء فيما بعد بوباء يريسينيا، على اسم الطبيب.
وكان قد اكتشف يرسين أيضا علاقة بين المرض والفئران، وبعدها بقليل تم التوصل إلى أن القمل حامل أساسي للبكتريا المسببة للوباء.
وطالت الجائحة من الصين أجزاء واسعة من جنوب آسيا وأستراليا وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وأفريقيا، وكذلك أوروبا.
وعندما توفي بحارة في لندن مجموعة من الأشخاص الذين جاءوا، عام 1896، على متن سفينة من الهند، دعت السلطات لمؤتمر صحي دولي في البندقية في فبراير 1897، تلاه مؤتمر دولي آخر عن الطاعون في مدينة شنيانغ الساحلية في الصين، شارك فيه خبراء من 11 دولة، من بينها ألمانيا والنمسا والمجر. واعتمدت على اثره الهيئات الصحية في أوروبا سياسات حذر، وذلك بعد حالات تفشٍ سابقة لأمراض معدية أخرى، مثل الكوليرا والجدري والسل.
ومن الإجراءات الوقائية التي تم اتخاذها في أوروبا ضد الطاعون: فحص السفن القادمة لأوروبا بحثا عن آثار للوباء، وكان الخبراء يحرصون خلال هذا الفحص على معرفة حالات الاشتباه لدى ركاب السفينة، ولكنهم كانوا أيضا يبحثون عن فئران نافقة على متن السفينة، وكانوا يتأكدون من نظافة السفن وخلو حمولتها من أي آثار تلوث، “ورغم إجراءات الرقابة فإن أوروبا شهدت خلال الجائحة الثالثة العديد من حالات التفشي، ولكن معظمها بقيت محدودة “، حسبما أوضح الباحثون.
كانت السلطات تولي الجرذان اهتماما خاصا، وخاصة جرذان الموانئ، والفئران التي تعيش بالقرب من الإنسان، ولكن لم يعرف حتى الآن مدى خطورة هذه القوارض في نقل الوباء.
فرغم الكشف من وقت لآخر عن فئران انتقلت إليها العدوى، إلا أنه كان من الصعب حصر نسبة هذه الفئران من إجمالي الحيوانات المصابة.
ولكن يذكر انه عندما أصيب سكان مقاطعة ايست سوفولك، شرق انكلترا، بالطاعون، بشكل منتظم بين عام 1906 و عام 1918، تم صيد أكثر من 266 ألف فأر خلال ثلاث سنوات، تبين أن 60 فأرا منها فقط كانت مصابة بالعدوى، حسبما أوضح فريق الباحثين.
وأفاد الباحثون: “بشكل عام فإن العلاقة بين القوارض التي تعيش في المدن وإصابة البشر بالطاعون خلال الجائحة الثالثة في أوروبا، كانت أقل بشكل واضح عن علاقة هذه الحيوانات بتفشي الطاعون في الهند والصين”. وتابع الباحثون: “تشير الأعداد المنخفضة للفئران التي أصيبت بعدوى الطاعون أثناء حالات التفشي الأوروبية إلى أنها كانت تلعب دورا صغيراً نسبيا في انتقال الطاعون”.
ورجح الباحثون أن ذلك ربما كان سببا في أن ضحايا الطاعون في أوروبا كانوا أقل نسبيا، عنه في مناطق أخرى.
اتضح أيضا أن البشر كانوا يصابون بالعدوى عبر عوائل مؤقتة للجرثومة، مثل القمل أو كانوا ينقلون العدوى لبعضهم مباشرة، وخاصة عدوى طاعون الرئتين.
لذلك فإن السلطات الأوروبية كانت تحرص على عزل المرضى والأشخاص الذين كانوا على احتكاك بهم، وكانت تمنع التجمعات البشرية الكبيرة، وتوصي بالاحتياطات الصحية الخاصة بالنظافة والتعقيم. يرى الباحثون أن هذه الإجراءات الوقائية مثل تزويد المنازل بالمياه والصرف الصحي وإنشاء حمامات داخل الشقق، كانت سببا رئيسيا في وقف انتشار الطاعون في أوروبا.
كتب الطبيب الفرنسي أدريان بروست عام 1897 انه “لا شك في أنه لم يعد في إمكان الطاعون التسبب اليوم في كوارث مثل التي أحدثها الموت الأسود في القرن الـ14”.
ولكن الطاعون لا يزال موجودا حتى اليوم في كثير من الدول الأخرى في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وذلك لأسباب، من بينها أن الجرثومة المسببة له لا تزال تحتفظ بمخزون في الحيوانات، اذ أشار الباحثون الى انه “يؤدي انتقال الطاعون من هذه المخزونات الحيوانية كل عقد لتقارير عن وجود آلاف من حالات الإصابة بالطاعون”.
وأضافوا أن نقص أعداد القوارض في أوروبا سبب جذري في أن الطاعون لم يعد يمثل تهديدا صحيا في القارة الأوروبية.