خاص|| يسارية أجاويد هي البديل الأفضل لليسارية الثورية.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة التاسعة)
ثمة بيت مكوَّن من غرفتَين ومسقوف بالتراب، في الحديقة الأمامية للمبنى الذي نسكنه في ديرسم. وقد بات من الصعب العثور على بيتٍ للإيجار، سيما بالنسبة للطلبة، وبالأخص في فصل الشتاء، أو بالأحرى أثناء افتتاح المدارس. وكرَدّةِ فعلٍ غريزية لدى الآتين من المناطق الريفية عموماً، فقد كان جميعُهم يحبّذون استئجار البيوت بالقرب من أقاربهم أو أبناء قريتهم أو معارفهم، لاعتقادهم أن معارفهم سيهتمون بهم أكثر. ولم يَكونوا مخطئين. فالمدينة مزدحمة وخليطة. وبالتالي، فإنها تُخيفُ كل وافدٍ من الريف، بطبيعة الحال.
أَجَّرَ صاحب المنزل أسطحَ المنازل الموجودة في الحديقة أيضاً لطلابٍ من أبناء قريته ومعارفه من القرى المجاورة، والذين غالباً ما يكونون شباباً، وقلّما تستأجر الفتيات أيضاً من معارفه. لكنّ تأجير المنزل لطالبة أو اثنتَين أصعب، نظراً لكثرة المستأجرين. وعلى الرغم من قلة عدد المستأجرين للمنزل عموماً في بداية السنة، إلا إن العدد يتضاعف تدريجياً مع الزمن. وأغلبهم من طلاب الإعدادية والثانوية.
أما أولاد صاحب المنزل، فيسكنون في دوائر الطابق الأول من المبنى. كنا تعرَّفنا على أحد الثوريين في هذا المنزل. فتحدث هو أيضاً عن دنيز كزميش ورفاقه في فترة الأحداث ساخنة. وأشار إلى ربطة العنق التي كان يرتديها هو، موضحاً أنها هدية من “ماهر تشايان”. وبدأ بِعَدِّ أسماء بعض الذين قضوا في الحادثة، مشيراً أن مجموعة من هؤلاء ذهبَت إلى قريتهم وتحدثَت معهم. كما ذكر أنه ثمة طلاباً جامعيين ثوريين من قريتَي “هالبوري” و”تشوكور” والقرى المجاورة لهما.
كان الأخ الأكبر لـ”ولي تايهاني” أيضاً يدرس في أنقرة. وهو أرمني. وطالما لفتَ ذلك أنظارنا. دُقَّ بابُ بيتنا منتصفَ إحدى الليالي، فإذا برجل ضخم الجثة يسأل عن أخي الأكبر، الذي كان موجوداً في المنزل وكأن لسان حاله يدل على أنه على موعد مع شخص ما. إذ بقي لوحده في إحدى الغُرف، متظاهراً أنه منشغل ببعض الأمور. أما الضيف، فلم يدخل المنزل، موضحاً أنه سيترك المدينة فوراً، وأنّ عليه العودة سريعاً. كنتُ سأَعلَم لاحقاً أن هذا الضيف لم يَكُن سوى الأخ الأكبر لـ”ولي”، الذي كنتُ أعرفه غيابياً.
استردّ الضيفُ بسِريةٍ وخِفّةٍ مسدسَه الكبير الذي كان قد سلّمَه لأخي سابقاً. لم ينتبه أخي آنذاك إلى أني أجلس في الصالون. فأضواء الصالون كانت مطفأة، وأضواء الغرف باهتة. سررتُ حينها، اعتقاداً مني أن أخي الأكبر ينشغل بالأمور السرية، واختلجَتني مشاعر مختلفة.
كانت الكتب القليلة التي في منزلنا قد جلبَها أخي الأكبر. ومنها: روايات “فقير بايكورت” و”يشار كمال” و”كمال طاهر”، وكتاب شعري لـ”توفيق فكرت”. كنتُ أحب جداً الاستماع إلى تلك الأشعار، حينما يقرأها أخي بصوته العذب الأجش. لكني كنتُ أحبُّ نبرة صوته أكثر، عندما يغني أغنية “الغرنوق الزاهي”. ثم تأسفتُ كثيراً لَمّا قيل لي أنها أغنية فاشية. لكني بقيتُ أحب الأغنية وأدمدمها حتى الآن.
وجدَت الظواهر اليسارية والثورية العامة معانيها تدريجياً في أذهاننا، ولو بإطارها الضيق. بل وتغيَّرت الأغاني التي كنا نغنّيها، ليَدخل اسمُ دنيز وماهر ورفاقهما عليها. وتغيّرَت كذلك معايير العروض السينمائية والأغاني والكتب المنتقاة. ولم يتخلّف أحد عن حضور أفلام “يلماز غوناي”، لدرجةِ نفاد كل البطاقات المتعلقة بعروض أفلامه، ما كان يستدعي التناقس على شرائها مسبقاً. كان الجميع يحضرُ أفلامَه، حتى ولو وقوفاً، لتدوّي الشعارات طيلة عرضِها. وقد تضمَّن أحدُ أفلام “مراد صويدان” مشهداً للإعدام، بَكاه الكثير من المتفرجين. لكنّ الجميع عبّروا عن ردّات فعلهم بضربِ أقدامهم على الأرض احتجاجاً وغضباً. كما أصبحنا نستمع لأغاني المطربَين “محسوني” و”زماني”، التي أثّرت فينا وزادت من حماسنا وعنفواننا.
لكنّ كل ذلك لم يَرتَقِ آنذاك حتى إلى مستوى تشكيلِ نواةِ التطوُّر على أساس واعٍ وعلمي. ربما كانت مجرد دلالاتٍ على الإعجاب. لكنها، بطبيعة الحال، لعبت دوراً في رسم وصقل الملامح المتشكلة لاحقاً. لكن تأثيراتِ النزعة “الأجاويدية” أيضاً كانت موجودة بالمقابل. إذ عُرِفَ “قره أوغلان” على أنه المنقذ. بينما لم تَكُن الظاهرة اليسارية قد تحوَّلَت بَعدُ إلى تنظيم ثوري نضالي، ولم ترسِّخ بذلك استدامتَها. في حين أثّرَت المجموعةُ الثورية في الأوساط بنحو مذهل. وعليه، فلو أن التيار اليساري نجحَ آنذاك في التحول إلى تنظيم طليعي، وفي ترجمة ذلك إلى أنشطة ملموسة؛ لَمَا تمكّنَت اليسارية الأجاويدية من الانتعاش، ولَمَا استطاعت أن تؤثر إلى هذه الدرجة. فالطاقة الكامنة لدى شباب ديرسم خاصةً ولدى شعبها عامةً، قد تأثرت جداً بعمليات الصهر. وعليه، استطاعَ أجاويد[1] دغدغة مشاعر تلك الشرائح، والتغلغل بينها لدرجةِ التصويت له ولحزبه “حزب الشعب الجمهوري CHP” في الانتخابات. كم كان سخيفاً أن نبحث عن الأفضل بين أحزاب النظام القائم، وأن نرى الأفضلَ تمثيلاً للدولة على أنه المنقذ! إذ ثمة عجزٌ عن التمييز بين اليسارية الثورية المناهِضة للدولة، وبين اليسارية الكمالية الممثلة للدولة. بل وسادَ التطلّع إلى دمجِ التيارَين في “اليسارية الأجاويدية”، ليغدو تجذيراً للاغتراب عن الذات، ولكن بشكلٍ مختلف.
عُدَّ ارتداءُ القمصان الزرقاء التي ترمز لأجاويد، ولصق ملصقاته، والترويج الطوعي له في الانتخابات، والمشاركة في التظاهرات لأجله؛ عُدَّ نشاطاً رئيسياً للشرائح اللاواعية، التي تزعم أنها يسارية. ومَن لم يَقدر على المشاركة في النشاط اليساري السري، كان يعمل على مناهضة الدولة من خلال يساريةِ “حزب الشعب الجمهوري”. فـ”أجاويد” بالنسبة لهؤلاء هو بمثابة المخلِّص. إذ إنه أفضل من “ديميريل” ومن غيره على الأقل! وبالطبع، فإن الوجه الآخر للأمر، هو أن أجاويد يسعى بمعيّة الدولة إلى التحكم باليسار الراديكالي، ويَعرضُ ذاته على أنه البديل لليسارية الثورية، ويروِّجُ علناً للروح المنقذة لدى “قره أوغلان”. نخصّ بالذكر أن مساعيه في جمعِ المعارضة الفظة للدولة في ديرسم تحت مظلةِ النزعة الدولتية لـ”حزب الشعوب الجمهوري”، ودمجِها به، كانت الأكثر واقعيةً!
جاء أجاويد إلى ديرسم في تلك الأثناء، أي أواخرَ عام 1973. وأُعِدَّت له مراسيمُ مهيبة. واستنفرَت كل الحافلات الصغيرة والكبيرة وحتى العربات. وعجّت كل الطرقات والأماكن، وصولاً حتى بلدة قوفانجيلار وجسر مازكيرت وسيهَنك. اغتظتُ جداً لأني لم أستطع الذهاب خارج مركز المدينة. إذ أبقانا أبي ننتظر في شرفةِ أحد الفنادق، وقد ارتدينا قصمان أجاويد الزرقاء، وعلَّقنا صورَه على صدورنا من جهة اليسار. لكنّ ذلك لَم يَروِ ظمأنا، فشرعنا نكتب بالطلاء الأحمر على الأعمدة الإسمنتيةِ لشرفة الفندق: “قره أوغلان آتٍ! قره أوغلان هو السلطة!”.
انتظَرنا في شرفة الفندق المقابل لمبنى البلدية، فترامَت الساحةُ أمامنا. عجّت السقوف والشرفات بالمنتظرين، حتى قبل وصول أجاويد. ثم بانَ أجاويد ومعه زوجته “رهشان أجاويد”، يلوّحان بأياديهما. تحمّسَ المحتشدون، ودوّت الشعارات. ثم بدأ أجاويد كلامه من شرفةِ مبنى البلدية بادئاً بجملة: “أهالي تونجلي الأعزاء!”. لكنّ إسكاتَ المتجمهرين مستحيل. فأصوات الصفير والشعارات لا تتوقف. ومع ذلك، واصَلَ أجاويد كلامه، متحدثاً عن الغلاء والضرائب والفقر. وقدَّمَ الكثير من الوعود.
[1] أجاويد: هو مصطفى بولند أجاويد. سياسي تركي. وقد تولى منصب رئاسة الوزراء في تركيا أربع مرات من عام 1974 حتى عام 2002. وشغل منصب رئاسة الحزب الجمهوري من 1972 وحتى 1980، ورئاسة حزب اليسار الديمقراطي من 1987 وحتى 1988. توفي عام 2006.
ترجمة: بشرى علي