في قصة حياته سنقترب كثيرا من حالة وطنه، الذي لا يزال يدور في فلك الاعتراف به كدولة مستقلة ذات سيادة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشريف، و لتكون المفارقة أن العالم الذي لا يزال بانتظار اعلان الدولة الفلسطينية هو نفسه العالم الذي اعترف به شاعرا مجيدا، وله حضوره البارز في الملتقيات الإبداعية والشعرية المختلفة.
يعود الشاعر «موسى حوامدة» بنا إلى تاريخ الخليل، ويحكي عن طفولته ومسارات الحياة في الخليل التي هي حياة كل فلسطيني. ..
يستكمل حوامدة في الحلقة الثانية حكايته مع الحياة من مسقط رأسه بالخليل، أرض التجار والأنبياء، فيقول لـ «الديوان»:
أبي كان يعمل في إدارة (المشروع)، وهي بقالة عائلية كبيرة، تم تأسيسها على الطريقة الاشتراكية التعاونية، حيث تم جمع مبلغ من المال من المقتدرين الراغبين في بداية الخمسينيات، كانت عبارة عن دينار أردني واحد لكل سهم، وبعد أن تجمع لديهم رأسمال كاف، ولأن أبي كان تاجراً، افتتح أكثر من بقالة، واحدة منها مع ابن عمةٍ له، لم تدم طويلاً، أسندت له مهمة إدارة المشروع مقابل راتب شهري.
ما أن كبرتُ، صرت أذهب معه إلى المشروع، وأنا أحسُّ بالزهو، معتقداً أن المحلَّ هذا ملكٌ لنا، حتى رأيته مرة يصفع أخي الأكبر، لأنه مدَّ يده، وتناول بعض حبات قضامة، دون أن يطلب منه ذلك، عرفت أن كل هذه البضائع ليست لنا، فحرمت نفسي من تشهي أي شيء، على كثرة البضائع المعروضة والمغرية.
كانت إدارة أبي صارمة للمشروع، وكان يرفض أن نأخذ شيئاً مجاناً، لا بل كان يعاملنا بحزم، وكنت أراه يسجل ما تطلبه والدتي، في دفتر كبير على أوراقه خط أحمر، كما كان يسجل لعدد كبير من المشتركين، لم يكن أبي متعلماً، ولكنه صار يعرف كيف يكتبُ الأسماء كصورة، وكيف يسجل الأرقام والبضائع كصورة أيضاً، تعلم ذلك من نفسه وعلى طريقته، فربما كان يتعلم ذلك مضطراً، حين يطلب من البعض تسجيل الأسماء والأغراض، في الدفتر المذكور، وحَفظَ ذلك، بل صار يعرف كيف يُقلِّد رسم الأسماء المتدوالة، لكنه لم يكن يعرف الحروف أو القراءة، ولا يعرف تهجئة الكلمات، لكنه يعرف كيف ينطق الأسماء والأغراض والأرقام المدونة.
على كل يبدو أن خبرته القديمة، وصداقاته الكثيرة مع تجار الخليل، ونزاهته المبالغ بها، ساهمت في إنجاح المشروع، فصار مليئاً بالبضائع، وحقق أرباحاً سنوية، دفعته إلى اقناع الجمعية، بشراء تراكتور زراعي، ليقوم بأعمال الزراعة والفلاحة من حرث ودرس للحبوب ونقل للمحاصيل الزراعية، بأسعار محدودة لأعضاء الجميعة، وأسعار أعلى قليلاً لغير الأعضاء.
وقد نجحت الفكرة في البداية، وحقق التراكتور أرباحأ أيضاً، حين كان يعمل عليه سائق من خارج البلد، لكن إصرار البعض على ضرورة تعليم أحد أعضاء الجمعية قيادة التراكتور، فهي عملية سهلة كما تبدو، كانت بداية خسارة المشروع، وتفكك الجميعة، فيما بعد.
بعد أن كثر اللغط والنقد لوجود سائق غريب، اقترح أبي أن يسوق التراكتور أحد أقاربنا، وهو أبو سليمان الملقب بالأزرق، والذي كان يعمل في حفر الآبار عند البدو في بئر السبع، ولا يعرف السياقة، فأتوا به، ولزم السائق الأصلي، عدة أيام، فظن أنه صار سائقاً محترفاً، فتم الاستغناء عن الغريب، وتسلم أبو سليمان دفة القيادة. ولكن قيادته كانت ضعيفة جداً، ولا يعرف كيف يتعامل مع التراكتور، فكان التراكتور يقفز منه كحصان جامح، حين ينطلق، ويأخذ وقتاً حتى يسيطر عليه، وحين يريد إيقافه، يكاد يقلب من شدة الضغط على الكوابح.
من الواضح أنا أبا سليمان يتعامل مع التراكتور كما يتعامل مع الحمار أو البقرة، ويظن أن شدة الضغط هي الطريق الأنسب، ووقت الحراث، نراه يضغط حتى تنغرز سكة الحراثة، عميقاً في باطن الأرض، ويبدأ التراكتور يمشي ببطء، ويبدأ العجل بالدوران مكانه، والأنين والشكوى اللتين لم تجعلا أبا سليمان يرفع قدمه قليلاً عن دواسة السكة، أو دعسة السولار.
وبدأ يكثر توقف التراكتور وخرابه، وتعطلت مصالح الفلاحين، وصارت تكثر سفرات أبي إلى مدينة نابلس لاصطحاب قطع الغيار، والميكانيكي المختص، وكان يعود متأخراً، وهو جائع لم يذق الطعام طيلة اليوم، لكي يوفر على الجمعية، وحين تعاتبه أمي، وتهمس أنه سيميت نفسه من الجوع من أجل أقاربه يغضب منها، فترد عليها عمتي، أن تسكت كي لا تغضب أبي.
وفي أغلب الحالات يقيم الميكانيكي، عدة أيام، حتى يعيد إصلاح التراكتور، الذي صرنا نرى أحشاءه ملقاة بجانبه، بعد أن يفكها قطعة قطعة، فصرنا نعرفها بالواحدة، ونراقب كيف يقوم بإعادة تركيبها، ثم يقوم بتشغيل التراكتور، وسياقته، وأبو سليمان غير آبه بالأمر، معتقداً أن الخراب في التراكتور نفسه، فهو مستعمل وليس جديداً، وإن كنت على يقين أنه لا يعرف نوع التراكتور، الانجليزي الصنع ماركة ماسي فارغسون، ولا موديله.
ربما كان لكل ذلك فائدة واحدة، وهي تذوقنا للكنافة النابلسية لأول مرة، والتي صار أبي يعود أحياناً وهو يحمل علبة منها، من نابلس.
يبدو أن الخلافات والاحتجاجات دبت بين الشركاء، بعد الخسارة التي تحققت من وارء قيادة أبي سليمان للتراكتور، وانتهت بتصفية المشروع.
وقتها، ساءت معاملة أبي لأمي، فقد عاد متأخراً ذات ليلة، وسمع أختي “نعمة” تبكي، لأن أمي شدت شعرها وهي تمشطها، فغضب منها، وحلف بالطلاق ألا تنام في البيت، وخرجت هي وعمتي، واعتقدنا أنهما ذهبتا للنوم عند دار عمتي الكبيرة “خضرة”، وهي دار خالي “خليل” الذي يعمل راعياً مع البدو في بئر السبع، وفي اليوم التالي، وبعد أن غادر أبي مبكراً، عرفت أنهما لم تخرجا من الحوش، حيث نامتا في الطابون.
بعد ذلك اضطر أبي للاستدانة واسئجار محل جديد مقابل بيتنا (العقد)، وبدأت تزداد عصبيته في تلك السنوات، ويبدو أنه لم يكن يجد من يمارس عليه غضبه ونزقه سواي، بينما ظل أخي الأكبر، موضع دلاله وتسامحه.
وللحديث بقية ..
