خاص|| لِتَداخُلِ الهويتَين الكردية والثورية معانٍ ثمينة.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة الثانية عشرة)
ذهبتُ وأبي إلى أمسية أخرى. وكأن هناك قوة خفية تُنَظِّمُنا، على الرغم من أن كل شيء كان يجري تلقائياً إلى حد ما. إذ ثمة انفتاحٌ على التغيير والتحديث، وابتعادٌ عن العصبية والتَّزمُّت. وهذا ما هيَّأ لنا مواجهةَ الكثير من الأمور دون وعيٍ منا. كانت الأمسية هذه المرة من تنظيمِ “الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني” . لم يدرك أبي مضمون هذه الأمسية جيداً، ويبدو أن ذلك يَعود إلى شحّ معلوماته، وإلى الاكتفاء بمعرفةِ أنها أمسية كردية.
لقد كنا غرباء عن جوهر الظاهرة الكردية، إذ نُعرّف أنفسنا عموماً بأننا “عَلَويون”. لم يَكُن الانتماء الكردي مذكوراً في جواز السفر، ولا في دفتر السجل العائلي، ولا في الكتب الموجودة في أماكن العمل، ولا في مؤسسات الدولة الرسمية. فكل مواطن في الجمهورية التركية هو “تركي”، أكان من مدينة “تونجلي” أم من “قيصري” أو “تراقيا”. ولَم يَكُن هذا أمراً ذا شأن، لأنّ أحداً لَم يبحث في الأصول القومية لأي أحد. بل ولَم يَكُن ثمة هكذا تمييز حتى في التيارات اليسارية والثورية المتواجدة! على الرغم من ذلك، كان “علي غولتكين” و”كمال بورقاي” معروفَين في ديرسم بـ”هويتهما الكردية”. وكانت مفردة “الكردي!” تُقال على سبيل الشتم والمذمّة. كانت الكتب لدى هؤلاء وفيرة، ومن بينها كتاب “مشاكل الشرق” للكاتب “إسماعيل شيم” .
لقد كنا مشرقيين في تلك الأمسية. وهذا ما لفتَ أنظارنا. إذ لا أحد يتحدث عن الانتماء الكردي أو الهوية الكردية. من أين عثر أبي على خبر تلك الأمسية؟ وما الذي ساقَه إليها؟ فهو مجرد عاملٍ مهتمٍّ بأسرته ومولَعٍ بأطفاله. لكنه من المتعلّمين في المدارس القديمة. وعليه، فإن إنهاء المرحلة الابتدائية فيها كان كافياً لأن يَكونَ إنساناً متنوراً. زد على ذلك آثار الجوهر العَلَويّ لديه، والذي يُجَنِّبُه الانزلاق في العصبية. كان أبي صاحب مبادرة، حتى أكثر من أخي الأكبر، الذي تميَّزَ بهدوئه، وبمواقفه واهتماماته غير اللافتة للأنظار.
ذهبنا ثلاثتنا إلى تلك الأمسية. ارتديتُ قميصاً وتنورة طويلة، واعتمرتُ الشعر المستعار على رأسي. لكن الأمسية كانت مختلفة تماماً. ذلك أن كل الحضور كانوا يرتدون الأزياء الوطنية. بل حتى إن الأجانب أيضاً كانوا يرتدون زيّنا الوطني. فتَحوَّلَ الجمهور إلى لوحة من الألوان الزاهية. القاعة ليست كبيرة، بل أَشبَه بصالةِ مطعم. تم التحدث في الأمسية باللغتين الكردية والألمانية. حتى مُقدّم الأمسية كان يرتدي بنطالاً واسعاً من القماش، وقميصاً فضفاضاً، ويَعتمر الكوفية. لم نستطع فهمَ شيء من حديث اللغة الكردية، عدا بضعة مفردات. ولدى ترجمته إلى اللغة الألمانية، فهمَ أبي مضمون الكلام إلى حد ما.
ثم شاهدنا فيلماً وثائقياً يعرض معلومات عامة عن الحركة البرزانية وعن مهاباد، ويتحدث عن أتاتورك وديرسم والشيخ سعيد وكوجكري. كما عَرضَ الفيلمُ أناساً حِلّيقي الرؤوس ومقيَّدين بعضاً إلى بعض، لدى الحديث عن مجزرة ديرسم؛ ليُركّز بعد ذلك على الحديث عن قوات البشمركة. لقد تناول الفيلمُ الحربَ والمعارك والصراع. إذ تطرق إلى حربِ عام 1974 ومقاومة البشمركة ضد النظام العراقي. واستعرض صوراً لصَدّام الفاشي. لكنّ صورَ مصطفى البرزاني تكررت مراراً. إذ ظهرَ وهو في الجبال، يرتدي زيّ البشمركة، ويتمنطق الحزام العسكري المعبَّأ بالرصاصات والمستند على قطعة القماش التي تُسمّى “شوتك”، والتي تُلَفُّ حول الخصر.
أكثر ما أثّرَ فيّ في تلك الأمسية، هو البيت الوحيد من إحدى الأغاني الكردية، والذي بقيتُ أدندن به مدةً طويلةً، إذ يقول: “لن ننسى طريق لينين، لن ننساه”. لقد غنّى الجميعُ العديدَ من الأغاني على شكل جوقة، رافَقَتهم ألحانُ البزق. ثم دَبَكَ الجميعُ ورقصوا. لم يتمالك أبي نفسه تجاه الدبكة! سيما وأن ابنه وابنته بجانبه. لكني لم أرغب الرقص في هذا الوسط، بل وكنتُ على وشكِ البكاء حنقاً وأسفاً، لعدم ارتدائي الزي الوطني. سخِرَ أبي من حالي هذه قائلاً: “أنّى لي أن أعرف أن الجميع سيرتدي الزي الوطني؟ وحتى لو عرفت، فمن أين لي أن أعثر لك على الزيّ بين ليلة وضحاها؟ ثم إن فستانك طويل وجميل، فتعالي نرقص سويةً”. لكنه لم يستطع خرقَ عنادي.
لكن، ما الذي خجلتُ منه حينذاك؟ ولِمَ اكتسبَ الأمرُ هذه الأهمية بالنسبة إليّ؟ علماً أني كنتُ قَبلَ ذلك أخجل من الهوية الكردية، ومن عدم إتقان أمي للُّغة التركية، ومن عدم قدرتها على التحدث بها كما الأتراك. أما الآن، فإني أخجل من عدم ارتدائي الزي الوطني الزاهي دليلاً على “انتمائي الكردي”، ومن اختلافي عمّن حولي في الأمسية. قد يبدو الأمرُ بسيطاً وساذجاً. لكنّ مشاعر الخجل التي اختلجتني، كانت تعبيراً عن البحث عن الهوية الكردية، ومحاولةً لتَبَنّيها. ثم إنّ لتَداخُلِ الهويتَين الكردية والثورية معنى ثميناً.
أُصيبَ مَلاّكُ منزلنا بوعكة صحية خطيرة. كنتُ أعتقد حتى حينها أن له ولدٌ وبنت. لكننا علِمنا حين مرَضِه أن له ابنةً أخرى، وأنها البِكرُ من بين أولاده، وأنها تقطن في برلين الشرقية. أي أن قِسماً من العائلة موجود في برلين الغربية، والقِسم الآخر في برلين الشرقية. لكنّ النظام مختلف بين الطرفَين. تُرى، كيف يَكون العيشُ في بلد اشتراكي؟ كان أخي يذهب إلى هناك مراراً، لكنه لم يشرح لنا الوضع هناك جيداً. كنتُ شاهدتُ المدينةَ من أحدِ المناظير الموضوعة في أحد الأبراج من على جدار برلين. لكني لم أدرك حينها الفرق بين الطرفين. إذ رأيتُ الأبنية المدمَّرة التي يُعاد بناؤها، وخطاً طويلاً من الفراغ يبدأ من حافة الجدار نحو الداخل، تتخلله لافتات تتضمن إشارات الخطر وتحذّر منه. كانت الأسلاك الكهربائية الشائكة تعلو الجدار، وكأنها حدود تفصل بين دولتَين.
دُعِيَت ابنةُ مَلاّك منزلنا عن طريق القنصليات المعنية، وقُبِلَ الطلب. تُرى، كيف ستَكُون رؤيةُ أحد الأشخاص المترعرعين في ظل نظام اشتراكي؟ تحمّستُ للفكرة، واعتراني الفضول. بعدما جاءت الابنةُ البِكر، دعوناها إلى منزلنا، وأَمطَرناها بوابلٍ من الأسئلة الفضولية حول: ما هي الحرية والمساواة؟ كيف كانت حياتها؟ وكيف انتهى التمييز بين الغني والفقير؟ وقد ردَّت على أسئلتنا مشيرةً إلى أنها تَملك منزلاً وسيارة، وأن الجميع يعمل، وأن إزالة آثار دمار الحرب ليس بالأمر اليسير. كانت شخصيةً ناضجة وواعية، على عكس إخوتها السذّج.
كان البابا (رجل الدين) يمازحنا في هذا الموضوع، مثلما جرت العادة لديه في أغلب المواضيع. فكلما تطرَّقنا إلى الهوية الكردية لـ”علي غولتكين”، وكلما تحدثنا عن الاشتراكية أو الشيوعية، كان يستذكر العمّ إبراهيم من قرية عرش الخليل، قائلاً: “إذا أسَّستم الدولة الكردية، فنَصِّبوا العم إبراهيم رئيساً على تلك الجمهورية”. وقد ضحك في تلك الليلة أيضاً، وسخِرَ من أسئلتنا الحماسية. بل واغتاظ من اهتمامنا بالاشتراكية قائلاً: “ماذا سيحصل لو اشتريتُ لكل واحد منكم سيارة؟ فالاشتراكيةُ سهلةٌ جداً، ما دامت هي هكذا”.
إنه لَأمرٌ جميل أنْ نتعرف على الاشتراكية ممّن عايشوها، بعدما كنا نتحدث عنها ونغني لها ونتداولها بمعانيها الضيقة. إذاً، إنها ليست محض خيال. بل ويمكن أن تتحقق في حال النضال في سبيلها. لَم أَكُن قد طالعتُ عن كثبٍ الكتبَ المعنية بها وقتذاك. لكنّ نموذجَها الملموس موجود أمامنا. فألمانيا الشرقية في جوارنا. ولو أردنا، لاستطعنا الذهاب إلى هناك رسمياً من البوابات. وعلى الرغم من رغبتي الجامحة في ذلك، إلا إن أخي كان يزورها في كل مرةٍ دون إخطاري. لم يتصور أخي أنني نظرتُ إلى ألمانيا الشرقية من أبراج الجدار. فهي، أي ألمانيا الشرقية، كانت لغزاً بالنسبة لي. وكنتُ أودّ رؤيةَ جوانبها المختلفة التي تتميّز بها. لم أحقق رغبتي تلك، على الرغم من إمكانية تنفيذها. لكنّها ظلّت منتعشةً في مخيلتي، وكأنها تعني الوصولَ إلى الاشتراكية، أو اعتبارها المستقبلَ بذاته.
يتعب أبي كثيراً بسبب عملِه ثلاث نوبات. وهذا ما أثّر في صحته، واضطررنا لإحالته إلى المشفى للمعالجة. لقد كان شخصٌ واحدٌ يعمل، ويتقاعس تسعةٌ آخرون عن العمل. إنه ظُلم! بكيتُ أحياناً لعدم تحمُّلي ذلك. فأبي بات يصعد درجات المنزل بصعوبة، لدى عودته من العمل. لذا، لعنتُ جرسَ المنبّه كلما رنّ صباحاً لإيقاظ أبي. فغالباً ما يذهب أبي إلى العمل دون تناول الفطور. وعندما يأخذ معه الطعام الذي أُعدّه له في بعض الأحايين، كنتُ أرتاح وأُسعَد قليلاً. بل وأغتبطُ عندما أطهو الأطعمة التي يحبها أبي، وأشعر أنني أقدّم مساهمة جيدة له. لكني بالمقابل شعرتُ بالاستياء من الانشغال فقط بأمور الطهو والتنظيف، وأحسستُ أن ذلك لا يَروي ظمأي. وقد عبَّرتُ عن حنقي هذا ذات مرةٍ بالقول: “وهل أنا خادمة؟”. لكنّ ذلك لَم يُجدِ نفعاً. لا ريب أنني برَدّة فعلي تلك لم أقصد استيائي من خدمة أبي أو أخي. بل قصدتُ المتطفلين المنفعيين والمتسكعين من الضيوف الكثر الذين كانوا يزوروننا مراراً. كما إنها ردةُ فعلٍ على رفضِ أبي لرغبتي في العمل، بل وتعييبه ذلك بالقول: “وماذا سيُقال عني؟ سيقال: إن إسماعيل يُشَغّل ابنته الصغيرة! ثم ماذا عساي أفعل إن حصل لكِ مكروه؟ هنا بلد الكفار.. وأنتِ ترين بعينيكِ كثرة الأشقياء والزعران الثملين في الشوارع… لا… قطعياً… مستحيل!”.
دورة تعليم اللغة أيضاً لم تُجدِ نفعاً لنا. فهي كنايةً عن الدروس الأساسية التي كنتُ تلقيتُها في المرحلة الإعدادية من الدراسة. بل كنا نتبادل الأحاديث باللغة التركية أثناء الدورةِ أكثر من تداوُل الدروس. سيما وأن بعض الفتيات كنّ يأتين للتسلية وقضاء الوقت. وكان أخي يأتي ليتغامز مع بعضهن ويمازحهن ثم يذهب. كنتُ أعود إلى المنزل بمفردي أحياناً، فيستاء أبي ويغضب. صادَقَ أخي فتاةً إيرانية لفترة. إنها من أكراد إيران. وقد أحبّها أبي. لكنّ صداقة أخي معها لم تَدُم طويلاً، لأنه لم يرغب الزواج منها. إذ له معاييره الخاصة، ولا يُعجَب بسهولة بأي أحد. لكن مصاحبته للفتيات بهذا النحو المؤقت والمخادع والمُضِرّ ليس سلوكاً سليماً. وعندما ذكرتُ ذلك له ذات مرة، غضب أخي وشتمَني وقال: “لا تتدخلي في هذا الشأن”. وباتت شتائمه تتحول إلى “مفرداتِ مَحَبّة!”. وقد عبَّر أبي عن قلقه في هذا الشأن بين الفينة والأخرى، مشيراً إلى سلبية الصداقات الساقطة، ومؤكداً على أن بلاد أوروبا شاسعة، وأنها تصهر الإنسان وتُخرِجه عن طوره بكل سهولة.
باتت علاقتنا حميمة مع الزوجة الألمانية لـ”علي”، الذي هو من مدينة مازكيرت. فهي تفهم وتتحدث اللغة التركية إلى حد ما، على غرار ما كنتُه بالنسبة إلى اللغة الألمانية، فكنا نفهم على بعضنا بعضاً. إن العطالة بلا معنى بالنسبة لي. ولهذا السبب لم تَجذبني فكرةُ مجيئنا إلى ألمانيا. في الحقيقة، برلين مدينة جميلة. إلا إن حدائقها ومتاجرها الضخمة لم تَروِ ظمأي. فحتى المياه والمرتفعات التي في حدائقها مصطنعة. وكذلك حال الطرقات والتلال والوديان! إني أحنّ إلى غابات ديرسم، وإلى قراها، وإلى نهر منذر. لا شك أنه ثمة أماكن بالغة الجمال في برلين أيضاً. فأنا أغتبط لقُربِ حيّنا من حديقةٍ واسعةٍ تشطرها قناة مائية من الوسط. وأستمتع بالسير على ترابها وبساطها الأخضر، وبوَطءِ مروجِها النظيفة.
ذكرتُ لجارتنا الألمانية رغبتي في العمل خارج أوقات الدراسة، وطلبتُ منها مساعدتي في إيجاد عمل لي. فقَبلت، وبدأنا نجوب عدة أماكن سويةً، إلى أن عثرنا في النهاية على عملٍ في متجر كبير. لم تَكُن طبيعة العمل شاقة، إذ عليّ أن أذهب مرةً في الأسبوع، لأَصُفَّ السِّلال والصناديق، وأرتّب المكان. كانت وثيقةُ الدراسة بحوزتي، بالإضافة إلى الهوية والصورة الشخصية ووثيقة السكن. أي أن أوراق الثبوتيات كاملة، ما عدا وثيقة سماحِ أبي بالعمل. فأنّى لي أن أستمر بالعمل من دون إذنه؟
علِمنا من الرسائل الآتية إلينا في تلك الأيام أن أمي حامل. استشطتُّ غضباً وانفجرتُ في وجه أبي قائلةً: “كفى! ماذا عساكم فاعلين بهذا الكمِّ من الأولاد؟”. غضب أخي أيضاً. أكد أبي خجِلاً ومُحرَجاً أننا على حق. ولكنّه حصلَ ما حصل. رفضَ أبي موضوعَ عملي. فلم أستطع الذهاب إلى العمل، حتى ولو يوماً واحداً. فقلتُ له حانقةً: “إذاً، أرسلني، لا أود البقاء هنا”. انشغل أبي بإقناعي كثيراً، وشرح لي مدى سعادته عندما يجد طعاماً طازجاً وساخناً، ويكون أطفاله بجواره لدى عودته من العمل. لكنه اقتنع في نهاية المآل أن إرسالنا إلى موطننا هو الأفضل.
ترجمة: بشرى علي