خاص|| علَّمتني أمي على الصراع والتمرد معاً!.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة العاشرة)
قرر أبي في ذاك العام أن يأخذني وأخي الأكبر إلى ألمانيا. لم أكُن أرغب تَركَ المدرسة. إذ كنتُ أنهيتُ المرحلة الإعدادية، وأود الاستمرار في الدراسة. بل وقد أبرزَت ميولي نحو التمريض لديَّ الرغبةَ في التسجيل في مدرسة الصحة. كنتُ أجهل خصائص المدارس الداخلية. لكنّ معارفنا من الفتيات القريبات كنّ يدرسن فيها. فابنةُ خالي تدرس في “الثانوية المهنية للبنات في ألازغ”، وابنةُ عمي تدرس في قضاء “آقتشاداغ”. كنتُ معجبةً بنمطِ علاقاتهما العائلية، وأفكر في الابتعاد عن عائلتي، عسى محبة أمي لي تزداد أكثر. إنّ مقاربات أمي تدفعني ضمنياً إلى العيش بعيداً عن العائلة.
كانت البنتان التوأم آخِرَ العنقود في عائلتنا. وقد سُمِّيَتا على اسمَي صديقتَيَّ في المدرسة الابتدائية: فريدة ونسيبة. وكانت تربيتُهما بالغةَ الصعوبة. ففي كل مرة تندب أمي حظّها فيها، كانت تقول: “كأني استطعتُ تربيةَ ولد واحد، حتى رزقني الله بتوأم!”. لكني كنتُ سعيدةً ضمنياً بوجودِهما. حتى إنني أذكر أنه عندما كانت أمي حاملاً بهما، وتؤنّبني وتستاء من أنني بنت، كنتُ أقول في قرارة نفسي “ليتَ كان لديّ أختان أخرَيان”. لكني، بطبيعة الحال، لم أكُن أقصدُ أن تَكونا توأماً! بل أعتقد أنني كنتُ أقصد زيادةَ عدد البنات. ولَمّا وُلدَت البنتان التوأم، سررتُ كثيراً، وكأن الله استجاب لدعائي. وبالطبع، كنتُ -أنا أيضاً- ألاقي الصعوبة في الاعتناء بهما.
عموماً، كنتُ أهتم بـ”نسيبة”، بينما تهتم أمي بـ”فريدة”. إذ نقَمّطهما ونُغذّيهما سويةً، لدرجةِ أن الجيران كانوا يقولون أن “نسيبة هي ابنة سكينة”. إن فريدة شقراء ناصعة البياض، بينما نسيبة سمراء. إنهما توأم كاذب. وقد زاد خضوع أمي لعملية الزائدة الدودية إبان ولادتهما من تعقيد الأمر بالنسبة لي. فتدبير المنزل وتحمّل مسؤولياته، ورعاية التوأم، كان يسحقني بأعبائه وأنا في ذاك العمر. إذ اضطررتُ لتعلُّم كل شيء في سن مبكرة.
كنا حينها سبعة إخوة، وأنا أكبر البنات فيهم. وفيما عدا أخي الأكبر، كان الباقون أصغر مني سناً، وبحاجة إلى الرعاية. وعلى الرغم من قيامي بالطبخ والغسيل وشراء الاحتياجات وغيرها من الأعمال المنزلية، إلا إنني لم أستطع إرضاء والدتي بكل الأحوال. فبينما تُعِدُّني نساء الجيران مثالاً من ناحية نشاطي في المنزل وتحمّلي المسؤوليات رغم صغر سني، إلا إن أمي، وعلى النقيض من ذلك، لا تُعجَب بأعمالي، وتَعثر على العيوب فيها. إنها امرأة نكدة للغاية. فكثرةُ الأولاد وغياب أبي، قد جعلاها وحيدة ومستاءة وحانقة تحت عبء العائلة. فهي تعجز عن تحمّل كل ذلك. كما إن مزاجها العصبي يُزيد من تعقيدات الأمور، ويجعلها بلا رحمة.
أطلقتُ على أمي في السنوات اللاحقة لقبَ “تاتشر”، نظراً لنمط علاقتها معنا، وسيطرتها الفجة، وتعسفها، وشبَهها نوعاً ما بـ”مارغريت تاتشر”. أعتقدُ أنه ما يزال لقبُها هذا سارياً في المنزل. كما شبَّهتُ أبي بـ”ويلي براندت”، “السيدة الحديدية” التي أدارت شؤون الدولة. في حين أصبحَت أمي “زينب” دويلةً في العائلة، لأنها تُديرها وفق القواعد التي تعرفها هي وتفهمها هي، وباللغة التي تريدها هي. تُعَدّ أمي أحد أهم الأشخاص الذين أثروا في حياتي. لذا، سأسرد عنها الكثير. فبينما حوَّلَتني إلى متمردة، فقد علَّمَتني خوض الصراع أيضاً. بالتالي، فإني أدِينُ لها بالكثير.
نجح أبي في إقناعي وأخي الأكبر للذهاب معه إلى برلين. إنها المرة الأولى التي أبتعد فيها بهذا الشكل عن ديرسم والعائلة، وعن أمي زينب. لكن الحنين والندم والحزن كان يتعاظم لديّ مع بُعدِ المسافة. كنتُ أبكي أحياناً. تُعَدّ “ألازغ” أولَ مدينة رأيتُها بعد ديرسم. وقد ذهبَت الحافلة حينها إلى إستنبول مباشرةً، فاقتصرَت معرفتي بهذه المدينة على ما رأيته أثناء محطات الاستراحة على الطريق. إذ عبَرنا بعض الأماكن مساءً، فلَم أستطع مشاهدتَها. كنتُ أُرهقتُ جداً في ذاك السفر. إذ أُصِبتُ بالغثيان والتقيؤ طيلة الطريق. في حين أن أبي وأخي الأكبر متعوّدان على هكذا رحلات. لفتَت نظري الكتابات المدوَّنة حول “حزب الحركة القومية MHP” على اللوحات المنصوبة على مداخل ومخارج قوفانجيلار وألازغ. فهذه الأماكن معروفة بكثافةِ الفاشيين فيها، وكأن تلك الكتابات تؤكد ذلك. أما في مدن “قيصري” و”يوزغات” و”بولو”، فتَعود الكتابات إلى “حزب الحركة القومية” و”حزب العدالة”، ونادراً ما تَجِدُ عباراتٍ تعود إلى “حزب الشعب الجمهوري”.
وأخيراً وصلنا إستنبول. إنها كبيرة جداً. لم يَكُن قد انتهى بَعدُ بناءُ “جسر بوغاز”، الذي أُسِّسَ في ذاك العام. إنه جسر طويل وضخم يَعلو البحر. وقد لفتَ انتباهي كثيراً. كان لنا أقارب في إستنبول، لكننا فضَّلنا النزول في الفندق. لقد قُطِعَت بطاقات سفرنا بنحوٍ يتزامن مع عودةِ أبي، كي لا نتأخر عن الموعد. كان “بابا فخري”، أحد ملاّكي الخطوط الجوية التركية، ينتمي إلى مدينةِ أبي ويُعَدّ صديقاً مقرَّباً منه. لذا، فقد قطعَ له بطاقات السفر هاتفياً. شعرتُ بفضول لمعرفة “بابا فخري”، وتصورتُه للوهلة الأولى رجلَ أعمالٍ مُهيباً. رأيته لاحقاً في برلين: حقاً إنه عمٌّ محبوب ومهيب.
إنها المرة الأولى التي أستقِلُّ فيها الطائرة. كانت رحلة ممتعة، لاسيما ذاك الجمال الخلاّب الذي يتجلى أثناء عبور الطائرة بين السحاب. إذ خِلتُ أني أقفز على كومة من القطن الأملس. كان منظراً مثيراً، إذ أراه وأشعر به لأول مرة. ولكني لم أستغربه، بل تكيَّفتُ معه بسرعة. حاكيتُ أبي أو أخي الأكبر في فعلِ كلِّ ما كنتُ أجهله. كما لم أَلقَ أية صعوبة في تناول وجبة الطعام المقدّمة في الطائرة. تزوّدَت الطائرة بالوقود في صوفيا. “إذاً، أصبحنا في بلد شيوعي!”. كنا قرأنا عن بلغاريا بنحو مختلف في درس التاريخ. فهي بلد ذو نظام اشتراكي، مما جذب انتباهي أثناء العبور منها. لكننا نزلنا في مطارها فقط. “تُرى، كيف هي علاقات الناس هنا فيما بينهم؟”. حاولتُ رصدَهم لتحديد ما يميزهم. لكنّ عناصر الشرطة مختلفون هنا. إذ لم تختلجني تلك المشاعر التي كنتُ أشعر بها عندما كنتُ أمرّ بجانب عناصر الشرطة التركية.
إن ألمانيا بلد كبير. وقد مررنا بمدن شتوتغارت وفرانكفورت وبرلين. قال أبي حين وصلنا برلين الشرقية: “انظروا، هاهي برلين الشرقية”. وشرح لنا كيف انقسمَت برلين وبُنِي الجدار الفاصل بين قسمَيها. كنا تعلّمنا في المدرسة خصائص النظام في ألمانيا الشرقية. لكنّ رؤيةَ جغرافيتها ونمط حياتها أمر مختلف، دون شك. لكننا كنا نَعبرُ منها فحسب. هبَطنا في مطار برلين، واستقلّينا السيارة نحو مدينة دورن، فمررنا من بوابة كبيرة في مدخل الشارع رقم 10. وبعد عبورِنا عدة أبنية، وصلنا إلى منزل من طابقَين، في نهاية الأبنية الشاهقة. أول ما أعجَبَني هو أن المنزل منفصل ومتواضع. فضخامة المباني لم تَكُن جذابة أبداً. قصَّ علينا أبي كيف أنه لم يعثر على منزل آخر، وأن بقاء أشخاص كثر في هكذا أماكن صغيرة ليس صحياً، بل وممنوعاً! أي أننا سنبقى في مكانٍ مخصَّص لشخص واحد. إذ هناك غرفة واحدة، وصالون صغير، بالإضافة إلى المطبخ والمنافع.
لماذا قرر أبي إحضارَنا أنا وأخي إلى هنا؟ فهنا يُعَدّ -على حد تعبيره- “بلد الكفار”، الذي لم يحبّه بسبب صعوبة ظروف العمل، والسبب الأهم هو بُعدُ أبي عن أطفاله وعائلته. سيما أن كِلَينا قد توقَّفنا عن الدراسة. لا يرمي أبي إلى تشغيلنا. فأنا في الرابعة عشر من عمري، وأخي في السابعة عشر من العمر. إنّ مقاربة أبي منه غريبة. فهو الابن البكر، ما خصّه دائماً بامتيازات مختلفة. لكنّ أمي لم تتقبل أبداً تلك الخصوصية. تميَّزَ أخي باختلافه عنا في المنزل أيضاً. فكل أشيائه مميّزة: فهو دائم النظافة، وملابسه مكويةٌ وناصعة دوماً. ويَحدث أحياناً أنه كان يبدل ملابسه مرتين أو ثلاث مرات في اليوم. لا أذكر أني رأيتُ جورباً أو قميصاً متّسخاً له. وإذا حصل، فإنه كان يقيم القيامة. كان يستيقظ آخِر الجميع، وتُجهَّز مائدة الطعام له وحده. لم يعرفْ حتى كيف يملأ كوبه بالماء من الإبريق الذي على الطاولة. كما لا يعجبه طعام المنزل، وغالباً ما يأكل في المطاعم. كانت أمي تتأسف من حاله هذه، وتتذمر قائلةً: “إنك تذهب لشرب تلك الشوربة القذرة في المطعم، ولا تأكل الطعام النظيف في المنزل. فماذا عساي أنتظر من ولد مثلك!”. كان ابناً عاقاً في نظرها.
إن طعام أمي نظيف ولذيذ. كانت لأخي الأكبر عادات غامضة. إذ يذهب كل صيفٍ إلى إستنبول أو أنطاليا أو أنقرة، ليُرسل أبي النقود التي يحتاجها إلى هناك. وإلى جانب ذلك، كان أخي الأكبر يضغط على أمي كي ينتزع منها النقود، بل ويطلب نقوداً إضافية من أبي كلما تراكمت عليه الديون. فكلما أتى أبي إلينا، كان يسدّ الديون المتراكمة على أخي. وعلى الرغم من قوله لأخي: “اتّقِ الله!”، إلا إنه لم يكن يغضب منه. إن أبي رجل لطيف حقاً. ولعل مقاربته هذه هي التي جعلَت أخي يعيش متطفلاً ولا يرحم أو يتألم في هذا الخصوص. ولم يغيّر وضعَه هذا أبداً. إذ له معاييره الخاصة ونمطه الخاص في كل الأمور. فلا يتأثر بتغيير المكان أو البلد. وغالباً ما أثنى الآخرون على خصوصيته هذه في الحياة الاجتماعية، وقابلوها بالرضا. حتى أمي لم تستطع التحكم به أو تغيير خصائصه! فأبي متسامح إلى أقصى الحدود مع أخي. بل ولَم يُعِدّه مجرد ابن. إنما قدَّرَه، وافتخر به كفتى يافع. وحتى جيراننا الألمان لم يقتنعوا أن كِلانا وَلَدان لأبي. فكِلانا في سن المراهقة، لكنّا نبدوا أكبر سناً بسبب طولِ قامتَينا. في حين بدا أبي شاباً حيوياً ومرِحاً.
لم يَكُن أبي منغلقاً أو ضيقاً في علاقاته. بل على العكس، فكأن الجميع أصدقاء له. أي أنه لم يتّسم بميزة أهالي ديرسم، الذين يحدّدون علاقاتهم ببعضهم بعضاً لا غير. بل لديه رفاق وأصدقاء من مدن سيواس وقيصري وإستنبول وقارس، ما جعلَ ضيوفَنا من مدن مختلفة. بل وله أصدقاء ألمان وأفريقيون وليبيون أحبّوه لحميميته وبساطته في تعامله. لقد أَحَبّ أبي أسرته وأولاده. وقد رصدتُ أبي في ألمانيا عن قُرب، فازدادت محبتي له.
في الحقيقة، عشعشَت أفكاره ومشاعره فينا على الدوام. إذ لم يتخلف قطّ عن المجيء إلينا في العطلة، ولا عن كتابة الرسائل إلينا. أما أغانيه وأشعاره ومواعظه، فكانت تنبع من حبه لنا. كلنا تأثرنا في الصميم لدى الاستماعِ إلى كاسيته الذي بعنوان “نصائحي لأطفالي”، والذي وضَّح لنا فيه على شكل بنودٍ الصوابَ من الخطأ في الحياة. واحتفَظنا بذاك الكاسيت مدةً طويلة. لطالما قلتُ لنفسي: “ليت أن ذاك الكاسيت موجود الآن كي أستمع إليه ثانيةً”.
إن هذه الخاصية جميلة في الزرادشتية. فالمواعظ والنصائح تعبِّر عن الالتزام والمودة. والنقد محفوظ ومُنبّه. وبأحد المعاني، فإن عالَم أبي يمثلنا. فهو مختلف عن الآباء الآخرين، الذين لم يأتوا لقضاء العطلة بين أُسَرهم، حتى بعد مرور سنوات؛ والذين تزوجوا ثانيةً في ألمانيا، على الرغم من أنهم متزوجون أصلاً؛ والذين تعلموا عادات سيئة كتعاطي الخمر ولعب القمار ومصاحبة النساء، فانقلبَت حياة أُسَرهم رأساً على عقب، وغالباً ما شتَّتتها. أذكر أني عندما كنتُ في ديرسم، كنتُ أسمع أسماء الكثيرين ممّن تزوجوا من نساء ألمانيات. بل حتى إن بعضهم أتوا بزوجاتهم إلى ديرسم، ما خلق معه التوتر والاضطراب. وهناكَ مَن تظاهر بالمَكر والخُبث، وزعم أنه تزوج بامرأة ألمانية ثرية بهدف الاستئثار بميراثها.
من أهم الجوانب الإيجابية المعروفة عن أبي، هي عدم مقاربته من النساء بهذا الشكل. لذا، وثقَ الجيران به دون سواه، فائتمنوه على زوجاتهم أثناء غيابهم. كان هناك امرأة فارعة القامة، اسمها “إنجا”، في المبنى الملاصق لمنزلنا، واسم زوجها “فيلي”، ولهما بنتٌ صغيرة. كانت تلك المرأة معجبة بأبي، أو ربما هو معجب بها. لكنه كان صادقاً لدرجةِ أنه شرح مستوى علاقتهما لأمي قائلاً: “لقد كبُرَ أولادنا. ومن المعيب أن تَكون لنا حياة أخرى بعد هذا العمر”. علاوة على أن أبي يحب أمي، وكنا نجزم مواقفنا في هذا الشأن لصالح أمي. كان أخي الأكبر يقول أحياناً ممازحاً: “والله لأَضربَنّك إن فعلتَها!”.
كان أبي يُسَرُّ بمقاربتنا، إذ يعلم يقيناً ثقتنا به. ومع ذلك، كان حذراً في تعامله. إذ يتجول برفقتنا، أو يُعلِمنا بالمكان الذي سيذهب إليه، أو يهاتفنا كلما تأخر في عمله أو رغب في الذهاب إلى مكان ما، ويجعلنا نتحدث مع مَن يرافقونه، فلا يترك لدينا أي مكان للشك. هذا هو نمط حياته، والذي انعكسَ علينا أيضاً، بطبيعة الحال. إلا إن أخي الأكبر كان ماكراً نوعاً ما، ويكذب أحياناً. لكننا كنا ندرك كذبه فوراً. ذلك أن الكذب صعب جداً إزاء مقاربة أبي. فأياً يَكُن، فإنه ليس من السهل الكذبُ على إنسان ذي قلبٍ طيب.
لم يُدمِن أبي على شرب الخمر أو السجائر، ولا على لعب القمار. فهو لا يدخّن، ولكنه يشرب القليل من الخمر مع ضيوفه، أو حين يكون في مضافة أحد ما. إذ لا يستطيع مقاومةَ الخمر. فيثمل باكراً، ويبدأ بعزف البزق والغناء حتماً، ثم يبكي. كانت كل أغانيه حول الفراق والحنين. وعلى الرغم من أن كِلَينا كنا بجانبه، إلا إنه، مع ذلك، لم يَكُن مرتاح البال. وكثيراً ما ينهض عن طاولة الطعام بعينَين دامعتَين قائلاً باستياء: “تُرى، ماذا يأكل أولادي الآن؟ هل وصلَهم المال؟ هل لديهم مصروف؟ هل تقشّفَت زينب عليهم؟”.
ويغضب أخي الأكبر مراراً من هذه الحالة، ويتحامل على أبي بقساوة، مما كان يهدّئ من روعه قليلاً. لكنني بدل ذلك كنتُ أبكي مع أبي، أو في حال غياب كلَيهما. إني أتأسف لحال أبي بخاصة. فعندما كنتُ في ديرسم، كنتُ أفهمُ موضوعَ “التحول إلى إنسان ألماني” بشكل مغاير. إذ كان يعني لي الثراء والمال الوفير والهدايا الكثيرة. إذ يعود أبي كل مرة محمَّلاً بشتى ما يلبي احتياجاتنا من هدايا جميلة. ولم يبخل علينا بكل ما يؤمِّن غذاءنا طيلة شهرٍ أو ما يقارب. أما أمي، فكانت تستاء من ذلك جداً، وتَصفُه بـ”المُسرِف والمبذّر”، وتتحسر على عدم امتلاكنا منزلاً أو ما شابه، مشيرةً إلى أنّ مَن ذهب إلى ألمانيا من أصدقائه بات يملك الفنادق والمباني في إستنبول أو ألازغ، هذا عدا عن منازلهم التي في ديرسم. أما نحن، فما زلنا مستأجِرين، ولم نَبنِ حتى منزلاً في أرضنا. ويردُّ أبي على ذلك محاوِلاً إقناع أمي: “مُلك الدنيا يبقى في الدنيا. فليَعِشْ أولادي في نعيم. يكفيني أنهم لا يحتاجون أحداً. لا أريد امتلاك الفنادق أو المنازل أو غيرها”.
طرحَت أمي موضوعَ خروجها من ديرسم وذهابها إلى مكان آخر للتصويت ذات مرة. وفيما عدا أمي وأخي الأكبر، أيّدَ الجميع موقف أبي. إذ لم نرغب في الذهاب إلى أية مدينة أخرى. أما بالنسبة لأخي الأكبر، فالأمر عنده سيّان، لأنه دائم التجول. لقد كان أشبَهَ بالسائح، وطالما اعتقدتُ أنه محظوظ بسبب ذلك. لقد كان بالِغ الحساسية والأناقة. وقد تعلَّمتُ الكثير من العادات منه في هذا الخصوص. أذكر أني تعلّمتُ منه تفريش الأسنان ثلاث مرات في اليوم، وأني بدأتُ بمحاكاته في تفريش الأسنان قبل النوم بخاصة.
ترجمة: بشرى علي