خاص|| بدأت أجراس الخطر تقرع!.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة 21)
لدى عودتي من المسيرة إلى المنزل، التقيتُ بالعمّ خضر والأم تونتون، اللذَين كانا متشوّقَين لمعرفة وضعي، وحانقَين ومتجهّمَي الوجه. لكنني لم آبَهْ بما قالاه، لأنني كنتُ سعيدةً للغاية، نظراً للحماس والعنفوان اللذَين ولَّدَتهما التظاهرةُ فيَّ، ولتعرُّفي إلى أصدقاء جدد في معهد المعلمين. لقد خطوتُ خطوةً أخرى بالغة الأهمية في ذاك اليوم. فإلى جانب العديد من الخطوات التي خطوتُها في حياتي ذاك العام، فقد غيَّرَت هذه الخطوةُ أيضاً من شخصيتي وحياتي بصورةٍ كلية. إذ ما عاد أي شيء بالنسبة إليّ كما كان عليه سابقاً، ولم يَبقَ لديّ أيٌّ من حالات المحاكاة والتقليد السابقة. فعلى سبيل المثال، بدأتُ أنتعلُ الخفّ البلاستيكي، وباتت ملابسي أكثر بساطة ورخصاً.
وبطبيعة الحال، أغضَبَ هذا التبدلُ في حالي العمَّ خضر والأمَّ تونتون، وأذهلَ الأقارب والجيران. مع أن كل ذلك لم يحصل عن وعي وتخطيط في حقيقة الأمر. بل إنّ بساطةَ المجموعة التي ولجتُ فيها أثّرَت فيّ طبيعياً. لقد أطلقتُ عنانَ ذاتي لدخول حياة جديدة كلياً. وهذا ما يكفيني بكل أبعاده وتداعياته. فردود الفعل على كل شيء قديم قد بَدَّل أحوالي دون وعي مني. والمثير في الأمر أنّه، وفيما عدا العائلة والأقارب، لم يَقُل لي أحدٌ: عليكِ بارتداء اللباس الفلاني أو القيام بالعمل الفلاني. بل تجلّى التناغم التلقائي لديّ مع نمط لباس وحياة تلك المجموعة، والتي شعرتُ أنني أنتمي إليها. فالاهتمامُ والبحث ومستوى العلاقات معهم أعادَ تنظيم عالمي الداخلي أيضاً. أي أن التبدل متكاملٌ ويطال كل شيء. وكلما توثّقَت علاقتي مع أولئك الرفاق، كلما زادت وتيرة التغير لديّ. بل واتّضح نظام حياتي ونمطها بفضلهم.
أضحى تَلَقّي التدريب من أقدس الأنشطة النبيلة التي تجمعنا. إذ لا بد حتماً من التواجد في المكان والتوقيت المحدَّدَين كواجبٍ رئيسي ليس بالسهل، بل يستدعي الجهد والتضحية والانتباه والمسؤولية. أدار “حاملي يلدرم ” لفترةٍ مجموعتَنا التدريبية، التي تألفت من فتيات شابات: كابرة وجميلة وتوركان وآيتان ونورحياة وأنا. إذ يقرأ “حاملي” فصلاً معيناً من أحد الكتب، ليَدور النقاش حوله. لم تَكُن قراءة “حاملي” مؤثرة، ولا شرحُه حماسياً. بل إنه يضجر ويخجل من تدريب مجموعةٍ نسائية. أصبحَت المجموعات مختلطة في بعض الأحيان. وكنا حذِرين في عدم لفت الأنظار، لكنّ وجودَ الجنسَين في المجموعات أثّر إيجابياً من ناحية غنى النقاشات. أما المستوى النظري للرفيقات، فكان جيداً، بل ورفيعاً لدى بعضهنّ.
لا يرفع “حاملي” عينَيه عن الكتاب إلا للضرورة أو لإعطاء حق التكلم لأحدنا. علَّقنا مازحاتٍ على خجله هذا بعد انتهاء التدريب. لكننا علّقنا عليه بالإشارات أحياناً حتى أثناء التدريب. كانت النقاشات حاميةً عموماً، ولا ننتقل إلى موضوع آخر إلا بعد فهمِ الدرس جيداً. وأجملُ ما في هذا السياق وأكثرها لفتاً للأنظار، هو حب الفضول والرغبة في التعلم والمعرفة، والتحلي بالحماس وروح المسؤولية والجدية. فحب التعلم والتعليم لدى رفاق تلك المجموعات قد عزَّز فيهم الوعي والنضوج والعزم الثوري كجَمالٍ روحيّ مشتركٍ أسفر عن اللقاء المعرفي والعمق الفكري. أما احتضانُ القضية وتحمُّل أعبائها ومشقاتها بجماليةِ وعزيمة هذه الروح الثورية، فشكَّلَ إحدى خصائص وخصوصيات وضرورات ثوريتنا.
أَفسَدَ الزائرون علينا الجوَّ عدة مراتٍ حينما كان التدريب في منزلنا. إذ اضطررتُ لاستقبال الضيوف، لأنّ تواجُدَ الغرباء يلفت الأنظار. فبما أن باب المنزل يُطِلُّ على الشارع الرئيسي، فمن السهل على الجيران مراقبة مَن يدخل المنزل أو يخرج منه. وبالطبع، فإن انتباه الأم تونتون مُنصَبٌّ علينا باستمرار. لذا، كانت هي والعمّ خضر أكثر مَن يأتينا لمعرفة ما يجري. وحينها، كنا نتظاهر أن أفراد مجموعة التدريب هم ضيوف عاديون! وهذا ما كان يُشعِرُنا بالضجر والسأم. إذ لم أُطِقُ أن يَهدرَا بهذا النحوِ الفرصةَ السانحة التي وفَّرناها بشقّ الأنفس. في الحقيقة، وعلى الرغم من استعراضنا ذاك، إلا إنهما أدركا ما يجري. وقد أَعربا عن استيائهما عدة مرات، بالإشارة إلى أن منزلنا تحوَّل إلى جمعية، وأن زوّارنا مجهولو الهوية. كما لَم يَغِب عن نظرَيهما عدم كتابتي الرسائلَ إلى ابنهما “متين” كما كنتُ أفعل سابقاً. أي أنهما أدركا أن “أجراس الخطر بدأت تقرع!”.
بعد فترة من التدريب، أصبح ابنُ أحد أغنياء ديرسم الشهيرين مسؤولاً عن المجموعة. كانت أُسرتُه كثيرة العدد، وانتقل الكثيرُ من شبانها من “الحركة الفكرية البروليتارية الثورية” إلى مجموعتنا. كان بعض هؤلاء الشبان معلِّمين، ولكلٍّ منهم خصائص مختلفة عن الآخر. ولَمّا انكشفَ أمرُ منزلنا، اضطررنا لنقل التدريبات إلى منزلهم، الذي يقع في حيّ هادئ للغاية، نظراً لأنّ سكّانه من عائلات المُقاوِلين وأصحاب المتاجر ومن أبناء الطبقة الوسطى في ديرسم. ثم إن ذهاب عدة فتيات إلى عائلةٍ لديها ثلاث أو أربع بناتٍ هو أمرٌ اعتيادي. اتّسم عملنا بالانضباط الصارم. إذ يبدأ في توقيته، ولا يدخّن أحدٌ السجائر إلا في أوقات الاستراحة. كنا نشرب الشاي أحياناً في بداية الأمر، ثم تخلينا عنه لاحقاً، تجنُّباً لكلّ ما قد يتسبب بهدر الوقت. انعكس هذا الانضباط على حياتنا أيضاً. إنه نوع من تربية النفْس: الجلوس الرسمي والاستئذان لأجل التكلم. لم يَفرض أحدٌ ذلك علينا، ولم نُطبّقه بعد جدال أو سجال. بل برزَ طبيعياً كضرورةٍ وكنمطِ حياةٍ وكنظامٍ يُعَبّر عن جدية النشاط وأهميته.
تضاعَفَ تدريجياً عددُ أفراد مجموعتنا، التي تعاظمَت وعياً وارتفعت مستوىً مع مرور كل يوم. بل كنا أول مجموعة نسائية. ازداد مع الوقت تركيزُنا اليومي على تلافي الأخطاء وانتقادها والعمل على تصحيحها. هكذا تشكَّلَ لدينا “وعي المجموعة”. إذ تمّ التشديد بصورة خاصة على ما ينبغي الانتباه إليه أثناء التواصل أو النقاش مع المجموعات اليسارية الأخرى. وتَجدَّدَ التأكيد في كل مرةٍ على ضرورة تجنُّب التصرفات الاستفزازية أو المُنَفِّرة، والنأي بالنفس عن المواقف الاستفزازية أو التحريضية للمجموعات الأخرى، وتطوير العلاقات بنحوٍ بنَّاءٍ وعلى أساس الإقناع.
لكنّ المجموعات الأخرى اختارت أسلوباً غريباً بعيداً كل البعد عن الثورية. إذ منعَت مناصريها ومؤازريها عن النقاش معنا، وعرقَلَت استماعَهم إلى رفاقِنا النافذين في النقاش والخطابة. بل وفَضّلَت أوساطَ الأفراد الذين تستطيع التأثير عليهم أو تستعرض قواها الديماغوجية أمامهم، للتمكن من كسب ولائهم واستمالتهم إليها. بالتالي، فإن رغبتهم في إفساد أوساط النقاش بهذا الشكل كانت سلوكاً سيئاً. إلا إن كل أساليبهم ظلت عاجزة عن سد الطريق أمام انتشار أيديولوجيتنا. فعزيمةُ مجموعتنا، ودخولها في كل الأوساط دون الاعتراف بأي عائق، وثقتها بذاتها، وحماسها العنفواني، نسفَ كل الأخطاء والسلبيات، وقضى على كل فكر بالٍ. لم يستطيعوا عرقلتنا، على رغم كل المشاحنات الكلامية والاستفزازات وعدم التحمّل. إذ ما من أحد بمقدوره صَدُّ أو الوقوفُ أمام هذه العزيمة والإرادة الصلبة. لقد آمنّا بذلك في الصميم، وسَيَّرنا نشاطنا بموجب ذلك.
حقاً، كانت مجموعتنا أقرب إلى القوة الإلهية. فأكثر مناصِري أو مؤيدي هذه المجموعةِ بساطةً، كانوا قادرين على الولوج في كل الأوساط، والنقاش مع الأفراد من كل المستويات بكل هيام ودون تردد أو خوف. هذا ما أذهل الجميع. إذ ليس لمجموعتِنا اسمٌ، ولا تملك جريدة أو مجلة أو جمعية! إلا إن سلوك جميع أفرادها متقارب متكامل. فإبرازُ الذات في كل مكانٍ يقتضي الصراع أو الدفاع ضد الظلم والغبن، قد نمَّ عن روحٍ مختلفة تماماً. فنَعَتونا في البداية بـ”حفنة من الكُردَويين” استهزاءً بنا. ثم لقَّبونا بـ”ثوار كردستان” فـ”الآبوجيين”.
تضاعفَ عددنا تدريجياً، وتعزَّز وعيُنا القومي الكردي. وبدأنا المساءلة في حقيقة مصطلحات “الوطن” و”الأمة” و”الشعب” و”المعايير الثورية”. وتساءلنا بالطبع: مَن هو العدو أو الأعداء؟ كيف سنكافح ضدهم؟ وبأي نمطٍ من الحزب أو الجيش أو الجبهة سنخوض النضال؟ كانت كل هذه الأسئلة ستَجدُ أجوبتها بأكثر أشكالها شفافيةً وواقعيةً ضمن إطار الممارسة الثورية الكبرى لهذه المجموعة الصغرى التي استهزأ بها الجميع. وكان سينخرط في مجموعتنا كل مَن شعروا بذلك، ولو بأقل المستويات، أو أدركوا هذه الحقيقة وخصوصيةَ بدايتِنا.
ترجمة: بشرى علي