خاص|| أفجّر في ذاتي جامَ غضبي من أخطاء الآخرين.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة ٢٣)
وتظهر لدينا مشكلة الكتب. فتأمينُ ما نريد من الكتب صعبٌ في ديرسم. ابتكرَ الرفاق أسلوباً جديداً لتلبية احتياجات التدريب الذاتي أو الجماعي. ذلك أن الاحتفاظ بهكذا كتبٍ في البيوت أمر خطير، ولا يمكن حمايتها. بل إن العائلات كانت أولَ مَن يحظر على الأبناء اقتناء هكذا كتب. أما البوليس، فلا يحظرها مباشرةً، ولكنه يميل دوماً إلى خلق الأجواء والذرائع الكافية لمنعها. وبطبيعة الحال، فالمشكلة الأكبر هي تأمين النقود. إذ رأينا الرفاق عدة مرات يبيعون في الساعات الباكرة من كل يومٍ “الكفتةَ” التي يصنعونها من البرغل ويُزيّنونها ببعض أوراق البقدونس ثم يلفونها بالخبز. وقد دلّ هذا على التزامهم بالكدحِ كبروليتاريين، وزاد من احترامنا لهم.
من جانب آخر، فإننا نفتقر إلى النقود اللازمة لتأمين الاحتياجات الرئيسية. لذا، يضع “حسين غون غوزي” سيجارته في فمه، ليَهمَّ بتجهيز الكفتة بالخبز خلال فترة وجيزة، ويضعها على صينية، ويخرج ليبيعها. وقد عُدَّ نمطُ حياة الرفاق هذا برقيةً لنا جميعاً. فبدأ شقيقاي حسن وعلي ببيع الماء، وباشر “مَتو” باصطياد السمك وبيعه. ذلك أن سمك السلمون معروف بغَلائه وبنكهته الشهية. لذا، كان مَتو يبيعه من ناحية، ويجلب لنا الوفير منه لنأكله من ناحية أخرى. كما كان مَتو يهتمّ بالأمور الكهربائية، فيتكفل بإصلاح الأعطاب في المنازل، هذا عدا عن عمله كحَمّال، وبخاصة في رفع وإنزال الحمولات من وإلى الشاحنات.
خصّصنا النقود التي تعود إلينا من هذه الأعمال لأجل الرفاق، فكنا نعطيهم إياها، أو نصرفها لتلبية احتياجاتهم. كانت هذه الأعمال والمساهمات طوعية تماماً. إذ تنامَت لدينا بنحو طبيعيّ ميزةُ التشاطر في كل شيء، والالتزام بنمط حياة المجموعة، واعتبار أنفسنا جزءاً لا يتجزأ منها؛ دون أن يجري ذلك بنحو ممنهج أو بوضع قوانين رسمية واضحة وعلنية. إذ لكل رفيقٍ يَفِدُ إلى ذاك المنزل قيمتُه عندنا. فجميعهم شكَّلوا دُنيانا وعالَمَ اهتماماتنا.
واجهتُ أموراً غريبةً في المنزل وفي الحيّ، لدى عودتي ذات يوم من المدرسة. إذ قابلَتني أختي “نسيبة” في مدخل الحي، وقالت متوترةً: “سيُداهِمُ عناصر الشرطة ذاك المنزل. وقد كلّفنا أخي متين برَدِّ جماعة العمّ علي كي لا يدخلوه”. لم أستوعب الأمر تماماً. فمن أين ظهر أمر الشرطة؟ وكيف؟ لكن، لقد حلّ بي في نهاية المآل ما كنتُ أخافه. إذ انتباني القلق قليلاً عندما انتبهتُ في الأيام الأخيرة إلى أن جارنا “هاشم البرتكي” يراقب ذاك البيت من شرفة منزله، وأن زوجته طرحَت على أشقائي أسئلة غريبة. كما يعلو دُورَنا منزلُ شرطيٍّ مدني، كان -هو أيضاً- يتذرع بالتنزه مع طفله، ليبقى ساعات عديدة في الشارع يختلس النظر إلى وِجهتنا.
إن الأم تونتون يقظةٌ في هذا الشأن أيضاً. فقد طبَعنا بالآلة الكاتبة بعض الأجزاء من عدة كتبٍ طيلة ليالٍ كاملةٍ في منزلنا. إذ استخدمتُ –وكذلك مَتو- إصبعَين فقط في طبع ما نحتاجه عاجلاً بالتناوب. وقد لفتَ الطبعُ على الآلة الأنظار. فمنزلنا قريب من الشارع، ويُسمَع أيُّ صوتٍ فيه من هناك. لذا، وضعنا أشياء مرنة تحت الآلة الكاتبة، وأغلقنا النوافذ بإحكام. بل وكتَبنا أحياناً في الغرفة الخلفية، على الرغم من عدم وجود مدفأة فيها، كي لا ينعكس الصوت إلى الشارع. كانت الأم تونتون تخمّن قيامنا بهكذا نشاطات، وتحذّرنا من الانشغال بالأمور الخطيرة. لكن، وبما أن الآلة الكاتبة هي لنا، فقد قلنا لها بكل راحة أننا ننشغل بواجباتنا المدرسية. إلا إنها لم تقتنع بكلامنا بطبيعة الحال.
أسرعتُ من خطواتي، لأن هذا النبأ مهم. فهي ليست ملاحقة اعتيادية. كما إني لم أستوعب كلام “نسيبة” تماماً. ولم أعرف إن كانت المداهمة قد حصلت أم أنها ستحصل. لكنّ هذا غير مهم. المهم هو أن العدو اشتبه بالأمر، ورصدَ الرفاق.
تُرى، ما الذي لم ننتبه إليه؟ فالكثير من الأشخاص يأتون إلى ذلك المنزل. لكننا كنا نذهب إليهم في ظلام الليل الحالك. يبدو أننا أغفلنا بعض الأمور. ولعل استخدام منزلنا أيضاً بهذا النحو قد لفتَ الأنظار. إذ استخدمنا الآلة الكاتبة، لكن الرفاق كانوا يأتون إلينا ليلاً نهاراً. ومَن يدري، لعلهم رأوا الطعام الذي كنا نعطيهم إياه ليلاً! ثم إننا مددنا لهم سلكاً كهربائياً؟ ولعل البرتكيين لاحظوا ذلك. علاوةً على الكثيرين من أعضاء اليسار التركي، الذين يكشفون الأمر بذكر أسماء الرفاق في المقاهي والمدارس وفي كل مكان، وباستصغارهم إياهم من خلال توصيفهم بـ”القوميين”. لقد كانوا بذلك يُخبِرون عنهم، سواء عن وعي أم من دونه.
فكرتُ في كل ذلك في لحظة، وبنيتُ تفسيري عليه. كانت الستائر الشفافة في المنزل مُسدَلة، حين انشغلَ علي بمراقبة المنزل الذي في الحديقة من النافذة، وانكبّ مَتو على مراقبة الشارع. في حين كانا قد أرسلا حسن إلى الزقاق الذي يمر من أسفل الجامع، وطلبا منه الانتظار هناك حتى المساء، ليُحذّر مَن يأتي من الرفاق من هناك، ويردّهم.
الدنيا شتاء، والثلج يهطل. فإلى أين سيذهب الرفاق عدا ذاك المنزل؟ يشرح مَتو لنا كل جديد فوراً، ويشير من النافذة إلى الشارع العُلوي، مؤكداً أن الرجل المتربص هناك هو “شرطة مدنية”: “كانوا ثلاثة أشخاص في الصباح. وقد أشاروا إلى ذاك المنزل متهامسين فيما بينهم. انتظروا سويةً لفترة، وأشاروا إلى المنازل المحيطة، بما في ذلك منزلنا أيضاً. ثم مرّوا من هذا الشارع ليتأكدوا إن كان هناك أحد في تلك المنازل أم أنها فارغة. كانوا يرغبون في مداهمة المنزل أثناء تواجد الرفاق فيه. اشتبَهنا نحن في الأمر، فدخلنا المنزل فور ذهابهم، وطلبنا من بعض الرفاق المغادرة، ونقلنا كل أشيائهم إلى هنا من الشرفة”.
ورفعَ الأغطية من على الكنبات: واحدة، اثنتان، ثلاث حقائب. وهناك أيضاً أكياسٌ وُضِع بعضُها إلى جانب كومة الحطب في الشرفة، كي لا تلفت الانتباه. ويستأنف كلامه متحمساً: “لم نستطع تفكيك الأسلاك. إذ هناك سلكٌ من قَبل أيضاً. وعليه، فإنّ تفكيكها على الفور قد يلفت الأنظار أكثر. كما إنها ستتدلى حينذاك من منزلنا أيضاً. لذلك تركناها. أرسلتُ “نسيبة” إلى شارع المدرسة، وأرسلتُ “حسن” إلى شارع الجامع. لقد علمَ الرفاق بالأمر، ولا أعتقد أنهم سيأتون. لكن واحداً أو اثنين منهم بقِيا في المنزل: علي ونجات من طلاب المدرسة الإعدادية. فالمنزل لهما، وهما اللذان استأجراه. هذا ما سيقولانه. لكنّ شيئاً لم يبقَ هناك”.
ذهلتُ لوهلة، فلم أعرف ماذا أقول أو أفعل. حضنتُه بقوة لأنني سررتُ بيقظته ومواقفه وطريقة تفكيره. لكنّني قلقتُ أيضاً، فسألتُه إن كانوا حذرين أم لا أثناء جلبهم الأشياء. فإذا لاحظَ عناصر الشرطةِ ذلك، فسيداهمون منزلناً حتماً. لكنّ مَتو أكد أنهم كانوا حذرين جداً، وأنه لا يمكن ملاحظة أي شيء من جانب الشرفة. على الرغم من ذلك، لم أطمئنّْ. جلبتُ الحقائب، وفتحتُها. فيها الكتبُ والهويات ومخازن المسدسات والسلاسل والأسافين وخريطة كردستان وبعض الكتابات المنسوخة. هناك أيضاً ثلاث ناسخات وبضعة آلاتٍ كاتبة وبعض أجزاء المسدّسات. ازداد ارتباكي لدى رؤية كل ذلك. علينا إيجاد حل. إذ لا يمكننا نقل كل ذلك إلى منزل الأم تونتون في تلك الساعة من وضح النهار. ثمة منزل في الأسفل يستخدَم مستودعاً للحطب. ذهب مَتو إلى هناك هابطاً من الشرفة ومعه مفاتيح الغرف ليجرّبها في فتح المستودع بهدف تفحصه. نجح مَتو في فتح باب المستودع. ثمة مستلزماتُ بناء وكومة أخشاب تعود لأصحاب المنزل. حسناً، لن يلفت ذلك الأنظار، لأن المنزل هو مُلكُ أصحابه.
وقفَت حافلة الشرطة في الشارع أثناء استغراقي في التفكير بكل ذلك. نزل العناصر من الحافلة متشدّقين أسلحة طومسون، وتوجّهوا إلى ذاك المنزل وهم يراقبون يمينهم ويسارهم. أتت في تلك الأثناء مجموعةٌ تناهز العشرين فرداً من عناصر الشرطة، من طرف الشارع السفلي أيضاً، لينهمك بعضهم بتفتيش محيط المنزل شبراً شبراً، متعقّبين آثار الأقدام على الثلج. هاهم يفتّشون مستودع الحطب والحمّامات. انشغل أحدهم بالسلك الذي يمرّ بين أغصان شجرة التوت، ونادى زملاءه. ثم قصدَ العنصرَ الذي يحمل جهاز اللاسلكي في يده، وأشار بيده إلى منزلنا. ثم حاولا تخمينَ المنزل الذي تَعود إليه النافذة التي يتدلى منها ذاك السلك. ازداد سخطي وارتباكي، فباشرنا فوراً بوضع خطة.
باشرتُ بالقول: “سآخذ البنات وسنتظاهر أننا نذهب إلى السينما. وأنت يا مَتو، ابقَ في المنزل، وراقِبهم بسرّية. لا تفتح الباب إذا قرعوه. سنجعلهم يظنّون أنه لا يوجد أحد في المنزل. ليذهب علي إلى السوق ويُعلِم الرفاق بالوضع. وحسن موجود أصلاً في الطريق. هكذا، لن يأتوا إلى هنا”. يجيب مَتو: “تمام! وفي حال دخولهم المنزل وعثورهم على هذه الأشياء، سأقول لهم أن الشباب أكدوا لنا أنهم سيذهبون إلى القرية بسبب تسرّب المياه من سقف منزلهم، وأنهم سيتركون كُتُبَهم عندنا، وأننا لا نعلم ما بداخل حقائبهم”.
بدأتُ بارتداء ملابسي الأنيقة. فمعطف الفرو وبنطالي الفضفاض يلفتان الأنظار. ثم وضعتُ شعري المستعار، وخرجتُ إلى الشرفة. ناديتُ “بريخان”، ابنة الجيران، من الشرفة: “نحن جاهزات. أيّ طريقٍ سنسلك؟ “نعمت” أيضاً ستأتي. الفيلم شيّق. استعجلي كي نحصل على مكان لنا. تعالي نذهب من هذا الطريق”.
حدّق كل عناصر الشرطة فيّ فور خروجي إلى الشرفة. لكني تظاهرتُ أني لا آبهُ بهم. ردّت بريخان: “لنذهبْ من هنا كي لا تطول بنا الطريق”. أجبتُها: “حسناً”. أمسكتُ بيدَي نسيبة وفريدة، ومررتُ من بينهم بعد أن أقفلتُ باب المنزل من الخارج. حدّق عناصر الشرطة مذهولين. وبعد مروري بهم، سألوا صاحب المنزل: “منزلُ مَن هذا؟” أجابهم: “إنه منزل إسماعيل جانسيز. الأم والأب في ألمانيا. والابن الأكبر في استنبول. كلهم طلاب”. ثم سألوه: “حسناً، وما أمرُ هذا السلك؟”. تأتأ الرجل أول الأمر. ثم أجاب: “هؤلاء أيضاً طلاب يدرسون في نفس المدرسة. وقد أمدّوهم به مقابل المال”. كان ذلك جواباً حسناً. كما إن خطتنا في اللحظة الأخيرة قد سدّت الطريق أمام عناصر الشرطة بشأن تفتيش منزلنا، وبعثَرَت انتباههم. إذ قال أحدهم: “انظروا، ألا ترون لباسَها الأنيق؟ إن مزاجهم مختلف تماماً؟”.
أجل، فألبسةُ المنشغلين بالثورةِ مختلفة في ديرسم. من الصعب طبعاً أن يقتنعوا! سيما وأن الفتيات المنتميات إلى “جيش تحرير العمال والفلاحين في تركيا” وإلى “حزب التحرير الشعبي” يرتدين ملابس غريبة جداً. إذ يرتدين البناطيل تحت التنورات، ويضعن المناديل على رؤوسهن، زاعماتٍ أنه “لباس بروليتاري!”. أما رفيقاتنا، فملابسهن أكثر بساطة: قميص وتحته بنطال أو تنورة، أو فستان. ويُعَدّ هذا النمط من الزيّ أفضل بالنسبة إلى الشعب من ناحية، ولا يلفت الأنظار من ناحية أخرى.
هل بإمكاني حقاً ارتياد السينما في هذه الفوضى؟ كل تفكيري عالق هناك. ذهبتُ بعد فترةٍ من المسير إلى منزل جارنا الذي لا يأبه به أحد. انتظرتُ بفضول، ورحتُ أرسل إحدى البنات في كل مرةٍ لاستطلاع الأوضاع. قالت إحداهن: “اعتقلوا طالبَين، وضربوهما وسألوهما عمّا إذا كان هناك آخرون أم لا، وعمّن يأتي إلى المنزل، وهل سيأتي أحد منهم اليوم أم لا. لكنهما أجابا أنهما يَبيتان لوحدهما في المنزل”. لكننا مانزال نجهل ما يجري في المنزل.
استقرّ بعض عناصر الشرطة هناك لفترة. ولَمّا لم يأتِ أحد، ذهبوا. ولجتُ المنزلَ بعد تأكدي من خلوّ المكان تماماً منهم. بدأ مَتو بسردِ كل تحركات الشرطة بحماس: “عثروا في المنزل على بعض الأوراق، ومنها بيانٌ يبدأ بعنوان عريض: “إلى شعبنا الأبي!”، وقد كُتِبَت منه بضعةُ سطور فقط. لكنها دليل مهمّ بالنسبة إلى الشرطة. كما عثروا على بعض أوراق الكربون. لقد تأكدوا أن ذاك المنزل يُستَخدَم لأمور معينة. لكن، ما من دليل آخر. لم يأتِ أحد إلى المنزل في ذاك اليوم. وعليه، ذهبَت معلوماتهم ومراقبتهم سُدى: “كيف ذلك؟ مَن الذي أخبرَهم كي لا يأتوا؟ إنهم يقظون. لعلهم أدركوا الأمر فلم يأتوا”. لقد أربكَ هذا الوضعُ عناصرَ الشرطة كثيراً: “إنهم رجال أشدّاء وأذكياء. أما أعضاء “جيش التحرير الوطني”، فهم مختلفون”.
حلّ المساء علينا رويداً رويداً. الفصل شتاء، والنهار قصير. هذا أمر جيد. وصل علي متقطع الأنفاس، وذكَرَ لنا أن الرفاق قالوا له: “انتبهوا، وتخلصوا من الأشياء التي في المنزل. فالبوّاب أخبرَنا أنه قد يداهم عناصرُ الشرطة منزلكم”. لكن، إلى أين يمكننا نقلها في هذه الساعة؟ بدأ مَتو بالحراك على الفور. إنه يتمتع بسرعة البديهة والذكاء العملي. إذ هبط من الشرفة إلى أسفل، وأنزَلَ الحقائب والأكياس سريعاً إلى مستودع الحطب السفلي. نزلتُ من بعده. أضأتُ المصباح اليدوي، وتعاونّا في نقل الأشياء إلى آخر المستودع، قافزين على الحطب المتراكم. خرّبنا إحدى كومات الحطب الخلفية، ووضعنا الأشياء، ثم راكَمنا الحطب فوقها. ارتحنا قليلاً بعد ذلك. لكن، فكرتُ بعد فترةٍ أن هذا المكان أيضاً ليس آمِناً، وأنه قد يُفتَّشُ دون بد في حال حصول أي مداهمة في الصباح. خطرَت الأم تونتون ببالي. ناقشتُ الفكرة مع مَتو.
وثب علي منبّهاً: “العم خضر جبان جداً”. مَتو أيضاً غير متحمس كثيراً للفكرة. في الحقيقة، أنا أيضاً لا أخالفهم الرأي. لكني، مع ذلك، أقول: “علينا أن نجرّب. فبكل الأحوال لن يكسرا بخاطري. وأياً يَكُن، فلن يخاطرا بالإخبار عنا ما داما يُعِدّانني عروساً لابنهما. ثم إنه لا شباب لديهما. إنهما مجرد عجوزَين في المنزل. والعم خضر يرتاد الجامع، وعلاقاته طيبة مع الجميع، بل وممتازة مع البرتكيين. بالتالي، فلن يلفت أنظارَ أحد”. على رغم ذلك، لا أجرؤ على أخذ الأشياء إليهما مباشرةً: “في حال رفضا، فسيَرانا أحد ما، وسينكشف أمرنا، وستزداد الأمور سوءاً”. قررنا أنه من الأفضل زيارتهما وشرح الوضع لهما أولاً. ذهبتُ مع مَتو. ذهل العجوزان من زيارتنا لهما في هذه الساعة المتأخرة من الليل. سألتنا الأم تونتون بقلق: “عساكم بخير؟”.
أتى العم خضر مرتدياً البيجامة. باشرتُ الكلام: “ثمة بعض الكتب في منزلنا. لقد داهم عناصر الشرطة منزل الطلاب هذا اليوم. وقد يأتون مجدداً. كنا مددنا سلكاً كهربائياً إلى منزلهم. وقد يولّد هذا الشبهات”. استأنفتُ الشرح لسدّ الطريق أمام الانتقادات التي قد يوجّهانها: “إنكما تَعلمان أننا أعطيناهم الكهرباء مقابل المال. هذا أمر طبيعي. لكن، قد تربطُ الشرطة الكثيرَ من الأمور ببعضها بعضاً. ثمة كتب وآلة كاتبة وغيرها من الأشياء في منزلنا. لنأتِ بها إلى هنا عن طريق الشرفة. سننقلها غداً أو بعد غد إلى مكان مناسب”.
ردّا عليّ بتذمّر بدايةَ الأمر: “إننا نحذّرك، لكنك لا تستمعين إلينا. إن ذلك المنزل يعمل كالجمعية. ولا نعرف مَن يدخله أو يخرج منه. أنتم طلاب. فماذا عساكم فاعلون بالكتب؟ ارموها في المدفأة. لا يلزمكم ماركس ولا لينين. هذا مستحيل يا ابنتي. إن والدَيك غير موجودَين. ومتين ليس هنا. فما الذي سيجري إن حصل لك مكروه؟”.
قاطعتُ حديثهما ثانيةً، محاوِلةً إقناعهما: “لتبقَ عندكم هذه الليلة فقط. أجل، علينا توخّي الحذر في الأمور الأخرى. لكنّ الوضع الآن سيئ، وعلينا أخذ الاحتياطات. فماذا تقولان؟ أنأتي بها؟”. رَدّا على مضض: “حسناً، اجلبيها، لكن….”. لم أنتظر دوام كلامهما، ووثبنا سريعاً لجلب الأشياء. وبطبيعة الحال، لم يَكونا ينتظران هذا الكمّ من الأشياء. ارتبكا كثيراً لدى رؤية كل هذه الحقائب والأكياس. وتذمّرت الأم تونتون بلا انقطاع. لكننا لم نأبه، واستودعناهما قائلَين: “طابت ليلتكما”.
بدأنا بتفسير موقفهما. قال علي بإلحاح: “لا أثق بهما”. مازحَه مَتو: “ومَن يدري؟ فقد نرى العم خضر يذهب بالأشياء إلى الشرطة ليُسلّمهم إياها!”. إني غير مرتاحة. بل غاضبة من مواقفهما المتذبذبة. فهما لا يعترفان بأني عروسهما عندما يتناقض ذلك مع مصالحهما. لقد تعشش لديهما الخوف من الدولة حتى النخاع. شعرتُ حينها بالغضب من متين لأنه لم يغيّر مواقف والدَيه اللذَين لا يباليان إن قامت القيامة حولهما.
حسناً، كيف لي أن أحبهما بهذا الشكل؟ كيف لي أن أعيش معهما؟ إنهما ينتظرانني كخادمة، ولا يريدان لي أن أكون امرأة مختلفة. وأحاسب نفسي: لو نظرا إليّ بهذا النحو، فسأُنهي هذه العلاقة. لأول مرة أفكرُ بجدية في فحوى العلاقات. ما الذي يحبونه فيّ حقاً؟ ما الذي أعجبهم فيّ؟ ماذا عساي أحب فيهم؟ وأستشيط غضباً من أمي. لكنها، على الأقل، تفكر بنا في هكذا حالات. أما هما، فلا يفعلان حتى هذا. كيف يكون ذلك؟! إنهما لا يغامران أبداً، ولا يحبّان وجع الرأس والهموم.
أتانا نبأ آخر من الرفاق في الليل بوساطة قرويّ شاب: “لا تقلقوا علينا. خبّئوا الأشياء جيداً، وسنُخرِجها غداً مساءً”. إن هذا النبأ هو وسيلة تواصل في نفس الوقت. لقد كان يوماً سيئاً جداً. وكأن هذه المنطقة خلَت من سكانها فتجمّدت الحياة فيها. بدأنا نشعر وكأننا أصبحنا وحيدين وندور في فراغ. لذا، أصبح هذا النبأ سلوى لنا، فأسعدنا جميعاً.
ذهبتُ في الصباح إلى المدرسة وأنا أكثر ارتياحاً. كان على مَتو ألاّ يبقى في المنزل طويلاً. حاولنا التظاهر بأننا في المدرسة. فإذا لم يحصل شيء إلى أن نتمكن من إخراج تلك الأشياء إلى إحدى القرى، فما بعد ذلك سهلٌ يسير. لكنّ ذعرَ العم خضر يتماهى مع توتُّر الأم تونتون. فقد طلبا منا نقل تلك الأشياء في وضح النهار. وفشلت محاولات مَتو في إقناعهما. كما إن حفيدهما كان أتى لزيارتهما من حي “ديميرولوك”. فطلبا منه ومن مَتو حمل تلك الأشياء إلى منزلنا. فحملاها على ظهرَيهما ونقلاها في وضح النهار، مما لفتَ أنظار الجميع. استشاط مَتو غضباً، وبكى قهراً. إذ لا حيلة له.
ترَكَ مَتو الأكياس أمام مستودع الحطب السفلي، ونقل الحقائب إلى المنزل، لأن نقلَها مجدداً إلى المستودع السفلي في القبو يُعدّ مجازفة، وسينتبه صاحب البيت إلى وجودها. وإذا أتى عناصر الشرطة وسألوه، فسيكرر إفادته السابقة بشأن الحقائب، مؤكداً أنه لا يعلم ما بداخلها، وسيقول عن الأكياس أنه لا يعلم مَن تركَها هناك بما أن المستودع موجود في الحديقة وبابه مفتوح دوماً.
ثارت أعصابي لدى عودتي من المدرسة وعلمي بهذا الأمر. ما معنى ذلك؟ إني لا أستوعب أبداً إرسال كل هذه المستلزمات إلى المنزل في وضح النهار. إن هذا إخبار صارخ. جنّ جنوني فتفوّهتُ بما خطر على بالي، وصرختُ كالمجانين: “لم أَعُدْ عروساً لكم. لقد أخطأتُ عندما وثقتُ بكم. أيها المنفعيون! إنكم بحالكم هذه ستُخبِرون حتى عن ابنكم. لن أقبل أن يطأوا هذا المنزل بعد الآن إطلاقاً”. وبالأصل، كانوا يرسلون الرسائل إلى كل صوب وحدب، ويستفزّون الجميع بها. فرسالة أبي الأخيرة كانت غريبة. إذ كتبَها باسم أمي، وملأَها بالتحذيرات. كذلك كانت رسالة متين المليئة بكمٍّ هائل من النصائح. ماذا يَحسبُني هذان العجوزان الغريبان؟! هل ينتظران مني أن ألزَمَ المنزل وأخدمهم بخنوع؟ هذا مستحيل!
لم أستطع تقبُّل الوضع إطلاقاً. وبكيتُ من قهري. فماذا لو استولى عناصر الشرطة على تلك الأشياء؟! وأفكر ملياً: “هل نفرز تلك الأشياء ونخبّئ المهمة منها بنحوٍ آخر؟”. علينا أن نخبّئ تلك الهويات والكتابات وخريطة كردستان على الأقل. أما الكتب، فليست مهمة كثيراً. ويمكننا تخبئة الطلقات والسلاسل أيضاً. كان مَتو أكثر هدوءاً، ويحاول تهدئتي: “علينا ألاّ نفعل شيئاً. لا يمكننا إخفاؤها في المنزل ولا إخراجها الآن. وأفضل شيء هو أن نخرج من البيت لزيارة أحد المعارف”. إنها فكرة حسنة. ذهبنا إلى منزل نعمت. حاولنا إشعارهم بخطورة الأمر. شرحتُ الوضع لـ”نعمت”، التي عقّبَت على ذلك بأنها لم تُدهَش من موقف العم خضر والأم تونتون، بل وأنها كانت تخمّنه. هذا ما زاد من استفزازي إزاء مقاربتهما.
أفضى كل ذلك إلى إعادة مساءلتي لعلاقتي مع متين. إذ علق في ذهني عدم مجيئه إلينا البتةَ بعد سفر أمي، وعدم تطرقه إلى ذلك كثيراً في رسائله. يبدو أنه لم يرغب في طرح الموضوع بسبب غروره وتكبّره. إذ مُنِعَ –على ما يبدو- من المجيء إلى ديرسم، بسبب غياب أمي “زينب”. لقد سرّعَت مقاربةُ عائلتَينا في هذا الخصوص من بُعدِنا عن بعضنا بعضاً، بدلاً من أن نتقارب. مع ذلك، كان ثمة روابط بيننا باتت رسمية. بالتالي، كنتُ أتأثر ضمناً، وأغضب أحياناً، عندما يحاول البعض تفسيرها بنحو سلبي.
كنتُ أقول في قرارة نفسي أحياناً: “ليت متين يأتي لنناقش كل هذه الأمور سويةً، ولنذهب إلى مكان بعيد عن عائلتَينا”. لكنني لم أُعرِب له عن رغبتي هذه. بل اقتصرتُ على عكسِ ردود فعلي السلبية عليه. إذ كنتُ أنتهل قوة معنوية من هذه العلاقة لإيماني بأنها ستمكّننا من الابتعاد عن العائلتين. إلا إن الإحباط والجمود يسيطران عليّ، بسبب جهلي لمقاربة متين في هذا الشأن. لم يَقُل الرفاق شيئاً يذكَر عن هذه العلاقة ولا عن متين. وحينما كان الحديث يدور عن متين، اكتفى بعضهم بالقول أنه ليس شخصيةً نافذة، وأنه يركزُ فقط على الدراسة والمطالعة، إلى غير ذلك من الأحاديث التي لم تؤثّر فيّ.
ترسَّخت في اللاوعي لديّ مخاوف وأفكار مفادها: “لن يستمر الأمر في حال ظلت أفكارنا متناقضة”. إذ ما من روابط أخرى أكثر تأثيراً عليّ. فلو أن علاقتنا تطوَّرت بصورة طبيعية وضمن ظروف اعتيادية، لَما أولَيتُ ذلك أية أهمية. لكن هذه الأيديولوجيا تؤثر فيّ وتحدد وجهتي وتزيد من صراعاتي في الحياة. وعليه، لا يمكن لعلاقتنا أن تخرج عن هذا الإطار. بتُّ أفكر فيه بهذا النحو وأقول في قرارة نفسي: “ليتَه كان –هو أيضاً- مثل رفاقنا أولئك، لنتشاطر معاً نفس الأمور”.
لكنّ مقاربات عائلته أضفَت الجمود على علاقتنا، وحطّمَت كل شيء في لحظة. أخرجتُ خاتم الخطوبة من إصبعي في ذاك اليوم، وقررتُ ضمناً: “سأرميه وسأرمي كل مجوهرات الخطوبة في وجهَيهما إن جاءوا إلينا!”. لكن، وبعد أن هدأَت أعصابي وزال توتري، اقتنعتُ بضرورة التفكير بآفاق أوسع وببرودة أعصاب، كي لا أقع في المغالاة. وعندما زارانا ليلاً، اكتفيتُ بالقول لهما أنّ فِعلتَهما تلك كناية عن إخبار سافر، وأنهما استغلاّ حفيدهما اليافع، وأن سلوكهما غير سليم على الإطلاق!
كنتُ أودّ أن أطردَهما من بيتنا. لم أَعُد أتحمل جلوسهما ونقاشاتهما. لقد استحالا في تلك اللحظة إلى إنسانَين مختلفَين تماماً. إذ لم يَعودا عجوزَين ينبغي تقديرهما وحبّهما كأبٍ وأمّ. بل باتا في نظري إنسانَين ماكرَين ومزيّفَين. حنقتُ من كون متين ابنهما، واعتقدتُ أنهما لا يفكران به أيضاً. لقد بات ذلك الموقف معياراً أقيسُ به كلّ شيء.
لم ينفّذ الرفاق خطتهم في تلك الليلة. لكني لم أَعُد متوترةً مثلما كنتُ عليه في اليوم الأول. كما زال قلقي وتبددت مخاوفي بعد موقف العم خضر وزوجته بصورة خاصة. بل وفكرتُ أنه: “ليت أن البوليس يأتي ويعتَقلني، كي يُدركِا تداعيات موقفهما ذاك”. أجل، إنها فكرة غبية وساذجة للغاية. لكني لا أستطيع ضبط غيظي منهما، فأُلحِق الضرر بذاتي من خلال هذه المقاربة الطفولية. فتلك الأشياء مهمة لي. ومن السيئ أن أُعتَقَل معها أو أقبع في السجن بسببها. وبالمقابل، فما الذي سيدركه العم خضر والأم تونتون في حال وقعَت هويات الرفاق وكتبهم في قبضة الشرطة؟ منذ تلك الأيام وأنا أتميز بخاصيةِ الغضب من أخطاء الآخرين، وبتفجير ذلك الغضب في ذاتي، وبإلحاق الضرر بذاتي. يا للغرابة!
ترجمة: بشرى علي