جينات العائلة العراقية تنتفض في تشرين
باستثناء المشاركة الرمزية في المظاهرات المليونية التي شهدها العالم في فبراير 2003، معلنا بصوت واضح الرفض الشعبي، لشن الحرب على العراق، لم يساهم عراقيو الخارج، باستثناء قلة، وفي حالات نادرة، في مظاهرات او اعتصامات تساند وتدعم اي فعل شعبي، ينفذ داخل العراق، مهما كانت شرعيته القانونية والاخلاقية، وخاصة اذا كان يدعو الى اجراء تغيير حقيقي في هيكلية « العملية السياسية» أو اسقاط النظام. أسباب الصمت العلني كثيرة، أهمها ان معظم العراقيين المقيمين في اوروبا وأمريكا وصلوها لأسباب سياسية، وفق درجة القمع في حقب مختلفة، وليست اقتصادية كما في عديد البلدان العربية.
وقد نقل العراقيون معهم في رحيلهم الى بلدان الاقامة الجديدة حقائب ثقيلة من العقد والخلافات بالاضافة الى الولاء الايديولوجي الضيق والمحدود للأحزاب التي ينتمون اليها. ومع صعوبة التأقلم مع المجتمعات الجديدة، خلق كل حزب لأعضائه منظمات مجتمع مدني، جمعيات او منتديات او حسينيات او نواد، مهدت الأرضية منذ انشائها، لمأسسة غيتوات الطائفية سواء كانت علمانية أو دينية، خارج البلد استعدادا للعودة اليه بعد «التحرير».
حصلت معظم هذه المنظمات والمنتديات، منذ تسعينيات القرن الماضي، على التمويل من بلدان الاقامة. فكان من الطبيعي، ان يتعاملوا مع قضايا العراق، غالبا، وفق سياسة البلد وجهة التمويل. وازداد التحكم «الناعم» بهذه المنظمات والمنتديات، بعد اعلان أمريكا سياسة «الحرب على الإرهاب» وفرض السياسة على دول اخرى. فمن يتم تمويله من قبل مؤسسة بريطانية، مثلا، ليس من مصلحته وضع الاحتجاج على سياسة الحكومة البريطانية في العراق، واستفادتها من عقود النفط والسلاح الشركات الأمنية ضمن برنامجه. المنفعة الاقتصادية لصالح بريطانيا أرض محظور مسها. وتوجيه الاتهام الى استخدام التعذيب من قبل القوات البريطانية وهي ذاتها التي تدرب القوات العراقية على «حقوق الانسان»، ارض محظورة هي الأخرى، ومفهومة ضمنيا بدون الحاجة الى وضعها على الورق ضمن البرنامج المعلن لمنظمة المجتمع المدني. فبات معظم نشاط هذه المنظمات/ الجمعيات/ المنتديات يقتصر على تنظيم السفرات والحفلات وعروض الازياء ومناسبات الاعياد وذكرى تأسيس الحزب صاحب الجمعية، واستشهاد الامام الحسين، ومجالس العزاء. ولا تخلو البرامج من محاضرات تمس، بحذر، ما يجري في العراق وبشرط ألا تؤثر، بأي شكل من الاشكال، على «طمأنينة ورضا» عقول الحاضرين. واذا كان هناك ما يثير الغضب والحزن حول ما يدور في بلدهم الام فهو وجود «الإرهابيين» وانقياد «المتخلفين»، من ابناء الشعب، لهم.
وكان لظهور تنظيم الدولة الاسلامية «داعش» واعلانه مدينة الموصل، شمال العراق، عاصمة له، الحد الفاصل لدى الكثيرين، لتناسي او التعامي أو غسل جرائم المحتل الانكلو أمريكي، بدءا من الاعتقال والتعذيب الى القتل المنهجي البطيء باليورانيوم المنضب وابادة مدن المقاومة. وفر تنظيم داعش الاداة الأفضل لمسح كل ما تم ارتكابه قبله، لتقتصر المطالبة بتحميل المسؤولية والعقاب عليه. ومع تشغيل الماكنة الاعلامية المحلية والاقليمية والدولية، بات تنظيم «داعش» التيزاب السائل لإذابة او غسل الذاكرة من كل ما حدث قبل حزيران 2014، واعادة تركيبها حسب المطلوب. انعكس ذلك على عراقيي الخارج سواء كانوا في البلاد العربية، المكممة لأفواه مواطنيها، اساسا، أو في اوروبا وأمريكا.
الا أن هذه الصورة، تغيرت تماما منذ الاول من اكتوبر، العام الحالي. اذ شهدت العواصم الاوربية وأمريكا عديد المظاهرات والاعتصامات المساندة لانتفاضة الشباب العراقي، الذي قرر أن يأخذ زمام الامور بيده، وألا يعتمد على الساسة والبرلمان والاحزاب، وان ينزع عن رجال الدين، من أصغرهم الى أكبرهم، رداء القدسية المذهبية. مطالبا بصوت واحد «نريد وطن»، مشخصا، بعيدا عن الولاءات الحزبية التقليدية، وبحكمة، توصل اليها عبر سنوات الصبر على الفاسدين، وانتظار صحوة ضمير المستحوذين على ثروة العراق باسم الدين ووجهه الطائفي البشع، ان من ينحني بخنوع امام «السادة» يستحق الركل.
فمن لندن الى جنيف الى موسكو وبرلين ومن باريس الى أثينا ومدريد وواشنطن ومن كندا الى استراليا وجميع بلدان اللجوء والهجرة، نظم شباب الخارج، المولود معظمهم خارج العراق، ولأول مرة، عديد المظاهرات المساندة لأخوتهم بالعراق. وقفوا أمام السفارات العراقية وفي الساحات العامة ومقرات الحكومات احتجاجا وتنديدا بسياسة النظام الفاسد، مطالبين بالتغيير، وبجرأة تجاوزت مخاوف آبائهم، مؤسسي جمعيات ومنتديات احزاب الخارج، باسقاط النظام. انبثقت المظاهرات، أكثر من كونها نظمت، بشكل عفوي، مشحون بالعواطف، اختلط فيها الغضب بالأسى، من قبل شباب بأعمار تماثل اخوتهم المتظاهرين بالعراق، ولم يحدث ان انخرطوا بأي حزب أو شاركوا باية مظاهرة سابقا.
خرجوا، اليوم بعد الآخر، مؤكدين تضامنهم، بشعارات أعدوها على عجل، وسهروا الليل لطباعة صور شهداء الانتفاضة بأنفسهم، تصرفوا وكأنهم يسابقون الزمن، في صياغة هتافات واعداد منشورات بعدة لغات، ليوصلوا اصواتهم الى مواطني اوروبا وأمريكا، ويتواصلون، في الوقت نفسه، مع اخوتهم المعرضين لخطر الموت قنصا، وهم يحملون راية الحرية لعراق خال من الاحتلال الأمريكي ـ الإيراني. كسروا حاجز الخوف من الاتهامات الجاهزة بالبعثية والداعشية والطائفية والإرهاب.
وهذا، بحد ذاته، انجاز كبير سيبقى رمزا لانتفاضة الشباب وان تمكن النظام الفاسد من دفعها جانبا الى حين. الانجاز الآخر هو نجاحهم في دفع منظمات وجمعيات الاحزاب التقليدية على الخروج من قوقعة مواقفهم الخجولة أو الانتهازية لئلا يفوتهم قطار الحرية.
فشباب الانتفاضة، سواء كانوا داخل أو خارج العراق، هم حاملو جينات العائلة العراقية، المعتادة، المكونة من كل القوميات والاديان والمذاهب في آن واحد. أراد الاستعمار الجديد وحكامه بالنيابة، تفكيكها، بذرائع مختلفة، ليتقاتل افرادها فيما بينهم، بينما يقف جانبا ملتذا بانتصاره، ففشل. وانتفاضة تشرين، سواء استمرت أم تأجلت الى حين، هي افضل دليل.