جماليات الوعي البصري، وعمق الإرث الثقافي، في تجارب الصورة التشكيلية النسائية المعاصرة
كتبت.. بشرى بن فاطمة
يعتبر الفن التشكيلي والبصري من أكثر المنافذ التعبيرية جمالا وتأثيرا وتغييرا للذوق والذائقة وتركيزا على الحضور فكرة ومشاعرا وقد اتخذته عدة نساء مسارا تعبيريا له حساسيته المرهفة التي انعكست ونُثرت بخصوصية أنثوية مميزة وانفعال صادق وتفاعل مكثف المعاني والرموز والمجازات، ولعل الحديث عن التجارب النسائية العربية يحيل إلى عالم زاخر بالتنوع والمواكبة لكل جدليات الواقع ومثيرات الوجود تلك التي تعبر عن قضاياهن أحاسيسهن وأوطانهن ويلامسها المتلقي بعين قلبه وبإحساس عقله كتفاعل متناقض متصارع ولكنه منفلت الجماليات البصرية.
“فلسطين” رؤى الأنوثة تفجر مشاهد الذاكرة
تعددت التجارب الفنية الفلسطينية وتنوعت وتشبعت بالأنثى الرمز وطنا وأرضا ومقاومة وسنبحث في تجارب متنوعة الأساليب.
تجربة “ماري توما” تسرد الذاكرة من وجودية الفكرة في مفاهيمية تستنطق القماش وتخرجه من دوره التعبيري عن الجسد لتعريه وتحمله بعيدا في الجغرافيا في فكرة الفساتين السوداء الضخمة التي اعتمدتها وحولتها إلى مساحة وأفق ووطن صار فيه الجسد تشابك حدود تضيق وتتسع تفتح وتغلق تتمزق وتترتق لتحاول الانفلات بين ثنائية معانقة السماء وملامسة الأرض.
ماري توما “بيوت اللاتي لا بيوت لهن”
فماري توما تعايش متغيرات الجسد وتفاعلاته مع الزمن والأحداث وتجادلاته التي تقسمه إلى روح وعقل وإحساس في ثنائيات الفصل والتمفصل بين هموم الأرض وتقسيماتها الداخلية وضيقها وهشاشة أفقها.
فالثوب هو القيم والمبادئ والتطلعات علامة بصرية تعايش الذاكرة والتراث وتحكي قدم الأرض وعراقة الانسان.
فالأنوثة انبعاثات جادة الرؤى قادرة على إثبات الخصوبة الكاملة والاكتمال في تفاعل الهوية والتاريخ.
في تجربة التشكيلية سامية حلبي يتحدد الوجود من تمرد فكرة البقاء بين الحالات المتباعدة والمتقاربة في تشكيل الإحساس الفني التشكيلي بين الماضي والحاضر حيث الهوية ثبات حي والبقاء وجع دافع وهي جدلية حيوية تخترق من خلالها القالب النمطي لفكرة التشكيل الفلسطيني المدفوع بقضيته.
فهي تطرح فكرتها البصرية من منطلقات متنوعة تقع على التاريخ والتراث على الانسان والحياة بتأثر متوتر بحركة التراكم اللوني والتكاثف الضوئي بين الخطوط.
*سامية حلبي “القدس”
سمر غطاس اختارت التجريب والتفرد بالأسلوب المتوغل في المجتمع وفي قضايا المرأة وعلاقتها بالآخر فقد ركزت على الصورة الفوتوغرافية وعالجتها تشكيليا في واقعية مفرطة سردت القصص اليومية المعاشة ربطتها بالخيال والحلم كما في رؤية جبران خليل جبران للحياة “دمعة وابتسامة”.
*سمر غطاس
فهي تتجاوز المباشرة في الطرح وتخلق علاماتها البصرية من الحكاية فتسردها تشكيليا بتناغم بين الصورة والمعالجة.
ولعل التعامل مع الصورة الفوتوغرافية في التعبير التشكيلي ميز الحركة الفنية الفلسطينية وخلق داخلها ابتكارات تعبيرية لامست الفيديو والصورة كتجربة منى حاطوم مع فن الفيديو وتجربة الفنانة رولا حلواني في ريادية التعامل مع الصورة من خلال النيجاتيف الصورة الصحفية التي تعاملت معها بسوريالية بصرية تدمج التفاعلات الداخلية في ملامح الصور المبهمة كأنها أطياف تصارع الرماد والعتمة داخل مساحات الضوء والنور تتحرك وتحدث صخبا يترك صداه علامات بصرية تخترق الصمت.
*رولا حلواني
ولم تنفصل الفلسطينية الأنثى عن قضيتها وواقعها كما في تجربة الفنانة ليلى شوا التي صارعت عتمة الأحداث برؤى مفاهيمية وبابتكارات لامألوفة صاغتها وفق جماليات مطلقة الرموز سردت تاريخ وحضارة فلسطين وتشابكت ملحميا مع وطنها ترسيخا لفكرة الحياة وجدارتها.
خليج الذاكرة عمق الصورة واتساع المفهوم
التعبير التشكيلي النسوي في الخليج العربي يعتبر حديثا ومعاصرا ولكنه تميز بمتانته التعبيرية وتوافقه البصري الناضج في الأسلوب والعلامة حيث لم ينفصل عن البيئة والتراث الخليجي كما في رؤية التشكيلية البحرينية بلقيس فخرو التي تميزت بتجريد تمرد على النمطية والصور المألوفة وبحث في الألوان وماورائياتها بين التعتيم والتدرج الضوئي حيث بحثت في عمق الصحراء وألوانها تجريدا ولامست بساطة الحياة فكرة بتناغم موسيقي الترنم الداخلي النفسي المتعانق مع الرؤى البصرية.
*بلقيس فخرو
أما الكويتية ثريا البقصمي فأعمالها عكست مراحل متنوعة الرؤى غاصت في تفاصيل وطنها بكل ما يعنيه من هوية وعمران وتراث وحداثة وتطور وعراقة عتقت المشاهد البصرية وساعدتها في التحكم الهندسي في أعمالها.
*ثريا البقصمي
كما تأخذنا التجارب المعاصرة إلى أعمال الفنانة الإمارتية ابتسام عبد العزيز التي قدمت الأسلوب الفني المفاهيمي والتركيب والصورة مقدمة بدائل بصرية للمعنى في استعارات توظيفية بخامات تلامس بيئتها وطبيعتها وأنوثتها بارتكازها على العلم والهندسة والسرد التجريدي والرمزي في العرض المفاهيمي.
أما فتطرح التشكيلية الكويتية مها المنصور تجربة متنوعة الإحساس والذوق والانوثة في تمردها الجمالي مع واقع الحلم وخيال الحقيقة لتجادل الفراغ بحكمة الحضور الفني بعناد البحث والتجريب بين اللوحة والتركيب والتصميم الرقمي والصورة والفيديو بعلامات معاصرة تحاكي الزمن في تدرجات اللون الأحمر لتعكس الانوثة والجمال في الاقبال على الحياة بكل تفاصيلها، ففكرتها في الفن لوحة أو صورة أو فيديو آرت تتنقل بوعي يخترق ماورائيات الصور والاحاسيس.
والحديث عن التجربة التشكيلية النسائية السعودية يحيل على عدة أسماء عميقة التجريب والخوض الفني كما تجربة التشكيلية نور السيف التي عالجت قضايا المرأة وصورتها بصريا فحضورها انطلق من خصوصيات مجتمعها وتفاصيله، أعمالها تراكم الاستفسارات والتساؤلات وتبحث عن التفاعلات لإدراك الأجوبة دون أن تضيع في متاهات العرف والعادات ودون أن تنفصل عن تفردها الذاتي وهويتها فهي تجيد التحكم في الفكرة من خلال التقنية الفنية بين التناقضات الوجودية في التمرد والهدوء لتروض أحاسيسها وانفعالاتها جماليا.
بين المرجعية الأدبية والتراثية وازدواجية الانتماء
التواصل مع التاريخ والتراث والادب وعمق التأصل الحضاري عميق المشاهد والرؤى كما في تجربة الفنانة التشكيلية اللبنانية منى عزالدين التي جمعت صورها من حكايات “كليلة ودمنة” لتدمج المتلقي مع الصور الحيوانية التي شخصتها لتتقمص مشاهد الواقع وأحداثه فتعبر بعفوية حكيمة عن تطلعاتها وتفاعلاتها التي تكثف الخيال في تداخلات الواقع لتخلق عالما مكتظ الرموز يقرأ الصور أدبيا ويحركها في موقف ملتزم يحاول الانفتاح على الإنسانية ويقتحم عمقها النفسي ويروضه فنيا.
*منى عز الدين
التشكيلية الليبية الهام فرجاني قدمت الأنثى الباحثة عن الأسلوب والمتفاعلة مباشرة مع المتلقي من خلال النموذج الفني المعاصر المتمثل في فنون الأداء والفيديو فتعمدت خلق تفاعل حسي بينها وبين العمل المنجز لتسخره لخدمة فكرة الانتماء.
*الهام فرجاني
كما نبشت في التاريخ والحضارة الليبية في مشروعها “أكاكوس” نابشة في الكتابات التي تؤرخ بداية الحضور البشري في ليبيا موظفة تلك العلامات والرسوم البدائية في الفكرة التشكيلية التي تحاكي الحضارة والانسان.
أما تجربة المصرية إيمان أسامة فقد حملت المرأة حاضرا وحضورا في تداعيات صورتها جسدا ووجدانا فهي تراها عنصرا رئيسيا يحتل الفكرة واللوحة ويكتمل مع الرجل في دوران الحياة بحثا عن مفاهيمها معتمدة على المرجعيات الأدبية والفكرية في بحثها التشكيلي حيث تتوغل في الفلسفة والوجود.
وفي تجربة الفنانة التشكيلية التونسية يمينة المثلوثي يتراكم صدى التحدي والعناد في الأشكال والرموز في الفكرة وتبعاتها البصرية فهي تنقب في الأرض عن الذات عن الحضور عن الصوت وصداه عن الشكل وجماله بوطنية غارقة في اللون الأحمر لون الوطن والحياة لون ينعكس أفكارا وأحاسيس مفرطة في التطرف الجمالي فرموزها وكيانها يحتل خصوبة الأرض وتنوعه وإرثه حضارة وتاريخا لتتجاوز الجسد وتنطق الفكرة المستفزة للنفسية مقتلعة تلك صور العبودية والتبعية ومتحررة بذاتها علما واعتزازا وانتماء له جذوره وتطلعاته فتعبير المثلوثي عن الحضور الانثوي تعبير يستنطق الشموخ.
أما التشكيلية العراقية من أم سويسرية ليلى كبة فتحاكي بأسلوب مبالغ في النبش في الذاكرة والحنين العراق أرضا وحضارة فتعتق الماضي بالألوان بإيقاع متناغم الإحساس وتقنية متفاعلة مع توترات الشوق للمكان مزيج تعبيري تجريدي متشبع بالحضارة وأساطيرها ورموزها الانثوية في صورة “إنانا” وأفروديت” و”عشتار” اندفاعا بالحياة وتدفقا في عمق خيالاتها الملونة التي تثير الخصوبة والبقاء وخلود الفكرة.
*ليلى كبة
*الاعمال المرفقة
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections