تناغم الطبيعة واللون.. المحاكاة والمحاورات الجمالية في أعمال التشكيلي “فاروق محمد”
كتبت.. بشرى بن فاطمة
التوازن بين الإحساس والفكرة يخلق رحلة بديعة في فضاء اللوحة تتعازف وتريات اللون وتداعب المشاعر المنفلتة من تلك التناغمات البصرية برمزية تجرد الواقع وفق تعبيرات الوجود وثبات القيمة الفنية في انبعاثات جديرة بالوصف الإنساني لفكرة الأرض بكل تجاذباتها الانفعالية لتشير إلى الحلم والحقيقة في مفصلية البعث والحضور فتراوغ حكايات التراب.
بتلك التوليفة المرئية التي تتعمق في تفاصيل المشاهد الطبيعية الراسخة في الواقع والذاكرة يقدم الفنان التشكيلي فاروق محمد أسلوبه التعبيري على المحمل التجريدي محوّلا الرؤى إلى ماورائيات غارقة في التفاعل مع توترات الواقع، إذ يصورها متجاوزا الشكل الذي يستعيده في العلامات حتى تصل مخيلته الباحثة.
وفاروق محمد تشكيلي كردي سوري ولد في عفرين سنة 1977 تحصل من كلية الفنون الجميلة بدمشق على الإجازة في الفنون بدرجة الامتياز، يتمتع بأسلوب تشكيلي مميز في تداعيات اللون واشراقاته المتمردة على تطرف الفكرة وفي محاكاة الطبيعة والأرض بتفاعلاتها الحسية.
يحاول فاروق محمد في أعماله أن يركز على الأصالة المتدفقة في الحنين والجذور في الملامح التي تعيده لانتمائه الأول فهو ابن الأرض منها يستنبط ألوانه ويتدرج بها بحثا عن الذات والانتماء في هندساتها الضوئية والوجدانية والذهنية ليدمج الأشكال بتداخلها مع المساحات والفضاء المكتمل للوحة.
فإحساسه بالأرض يحمّل الصور جاذبية تتقصى الحلم وتتجادل مع تداعياته وتوتراته وكوابيسه فالوضوح البارز في اللوحة وما يجسمه عبرها يخلق حميمية بينه وبين الفضاء ما يكسبه اندماجا مترف الحنين والمشاعر.
يبالغ الفنان في ترويض اللون بحميمية تعيده للأرض وتكويناتها في الألوان البني والرمادي والأصفر والبرتقالي والبنفسجي وتدرجاتها وكأنه يمنح تلك الألوان أدوارا للتحاور الدرامي مع العناصر الطبيعية بمواسمها القاحلة والخصبة فالأرض هي الاهتمام الأساسي للفنان ومنها يخلق جدلياته واستفساراته ويرتبها على الذوق الفعلي للإنسان.
فلا ينفصل محمد عن الأرض والطبيعة والتراب الحي في توازناته اللونية فهو المكان والذاكرة والحياة والتكامل والمشاعر المتناقضة فبين الراحة والشقاء يتعاصف المشاهد ويتبارقها فيمطر غزيرا على لوحاته تدفقا ملون التعمق في نبش تلك الأحاسيس وإحالتها على تفاعلاته ليلتقط منها أسراره الغائبة ويستحضرها بألوانه التي تحوّل فكرة التصور والطبيعة إلى علامات بصرية لها حضورها الواقعي التعبيري المرئي المتجاوز لحدود التمازج العفوي بينه وبين الطبيعة والريف حيث الانطلاق الحر والبسيط والتكامل والاندماج المريح لفكرة الأمان والسكن مع الأرض.
إن فلسفة الأرض وعمقها ومطالب الأمان والحضور تحيل رمزيا على المكان بكل تعقيدات الواقع فالمكان والأرض هي فلسطين وسورية والجولان والعراق ولبنان وكل أرض تفجرت من حدودها الأوجاع المستثيرة لتطرف المشاعر البائسة.
فالأبعاد الجمالية التي يعمل على تركيزها غارقة في الفكرة الممزوجة بالعاطفة وفي التكوين البصري المتناغم مع حدود الأرض وانفتاحات الأفق.
فالتمعن في التصورات اللونية يغرق في طبيعة “عفرين” منطقته التي تتفجر من كوامنه الحسية وذاكرته المشحونة بالخيالات وطفولة الحلم والواقع في تشكله وتداخله مع الطبيعة التي تفرض عليه ألوانه الترابية والألوان الباردة لتحاكي التلال والتراب في مواسم مشرقة بالحنين في اللون الأخضر الفضي المنبعث من أشجار الزيتون التي تميز منطقته والأزرق السماوي في تماس الأفق مع السماء.
فمحمد فاروق يداعب ذاكرته الملونة على فضاء اللوحة الأبيض ليستنطقه وهو يتدرج باللون الواحد ومنه يفصل لوحة واحدة تحاكي اختلافات المواسم والانفعالات فهو يحمّل أعماله طابع السرد والوصف الداخلي بشجونه ومتعته لينبعث قصائد متناغمة مألوفة وحيوية التأثير.
فهو لا ينفصل عن جذوره في الأرض والطبيعة والعناصر التي يأنسنها في بعدها التعبيري حتى تلامس حواسه ومنها تداعب جمالية التكوينات التي يختارها ليخلق الألفة والتواصل بينه وبين لوحته ومتلقيه فاللوحة هي خضوع وتمرد بين سطوح ناعمة وأخرى خشنة في مساحات تبحث عن أفقها لتسطع بالتساؤلات المرئية التي تعانق الروح في الطبيعة وفق الصياغات الجمالية التي تسرد الحالات التعبيرية وترمم الفراغ في ذاكرة المكان بتوغل عميق الرؤى.
*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections