تفاصيل مذبحة جسر الشغور في سوريا
إلي البعيد نحو الطريق الواصل إلى قسم “جسر الشغور” كان الصمت ثقيلا، هناك في الفضاء الريفي العابق برائحة الموت القادم، لم يكن لشيء أن يكسر جليد الانتظار سوى صوت الأغنية الأخيرة التي أنشدها رجال المفرزة الأمنية، تحية لوطنهم الماضي عميقاً في حرب إرهابية طويلة لم تنته فصولها حتى يومنا هذا.
في السادس من حزيران/يونيو عام 2011، تلقى عناصر القسم الأمني المسؤول عن منطقة “جسر الشغور” بريف إدلب الجنوبي الغربي معلومات مفادها أن مسلحين غرباء باتوا في طريقهم إلى الموقع، ليتأهب كادر القسم متمترسا فوق سطح المبنى ورجاله يرمقون التل المقابل الذي سينطلق منه التكفيريون في هجومهم.
الفيديوهات التي تسربت فيما بعد، أظهرت حينها إدراكهم أنهم ملاقون المذبحة لا محالة، ليظهر فداء أحمد الملقب “أبو يعرب” والذي يرأس القسم الأمني، في تسجيل شكل في مضمونه أحد أعقد المشاهد الأسطورية خلال الحرب، مردداً بشجاعة فريدة سلسلة من الأغنيات أمام الجنود، تقطيعاً للحظات الانتظار ريثما تصل قطعان التكفيريين القادمين إليهم.
كان رجال القسم على علم تام بما جرى لكتيبة حفظ النظام التي تم إرسالها لمؤازرتهم، وتعرضها لكمين غادر قرب جسر بلدة “أورم الجوز”، لم ينج أي من هؤلاء مع قائدهم المقدم محمد مبارك، تم تصفيتهم جميعا بطلقات قناصات وأسلحة لم يعرف نوعها حتى اليوم، وجميع الرصاصات اخترقت القلب أو الرأس بعد تجاوزها الخوذ العسكرية.
لم يرضخ جنود القسم المتحصنين لتهديد المسلحين لهم بالمصير الذي لاقاه زملاؤهم المؤازروين، كانوا يعلمون أن قطع الرؤوس ينتظرهم بعد أسرهم ليس إلا، وبعد رفضهم الاستسلام، ووفق فيديوهات نشرها مجهولون آنذاك، اقتربت عبر البستان القريب جرافة ضخمة تحمل براميل معبأة بمواد شديدة الاشتعال، وبعد وضعها عند مدخل القسم، تم تفجيرها لتحول أجساد معظم عناصر القسم إلى أشلاء، وليواجه الناجون منهم أبشع طرائق القتل التي أحدثت صدمة في وجدان السوريين ممن لم يعتادوا تناثر الجثث المشوهة والمحروقة بهذا القدر من العنف والوحشية من قبل.
منذ أيام، مرت الذكرى السنوية السابعة للمجزرة التي راح ضحيتها مئات العسكريين السوريين ممن قتلوا بوحشية وقطعت أوصال بعضهم على يد قوى الارهاب التي تخفت مع بداية الأحداث في سوريا منذ أكثر من 7 سنوات تحت شعارات الثورة والسلمية، فمع مطلع شهر حزيران 2011 اخترق الإرهابيون جسر الشغور وحولوها إلى ساحة للقتل والترويع، وهاجموا المراكز الأمنية والشرطية والمؤسسات العامة والخاصة، واستباحوا شوارع وأحياء ومنازل المواطنين الأبرياء، ومثلوا بجثث القتلى، وألقوا بعضها في نهر العاصي وفي مكبات القمامة.
الدكتور زاهر حجو مدير الهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا كان شاهد عيان على كبرى المجازر التي حدثت خلال فترة الحرب على سورية ومنذ عام 2011، حيث كان رئيس الطب الشرعي في إدلب، وكلف آنذاك الإشراف على استخراج وفحص جثامين شهداء رجال الامن والشرطة من المقابر الجماعية التي قامت التنظيمات الإرهابية المسلحة بإعدادها، حيث ظهرت الحقائق ومعها تصورات أولية لأبعاد المؤامرة التي تتعرض لها سوريا منذ ذلك الحين.
وقال الدكتور حجو لوكالة “سبوتنيك” إن هناك أكثر من مجزرة سبقت ارتكاب الإرهابيين لمجزرة جسر الشغور، وللأسف حتى اليوم يتم الخلط بين هذه المجازر على أنها واحدة، موضحا أنه قبل مجزرة جسر الشغور بأيام قليلة ارتكبت الجماعات الارهابية مجزرة راح ضحيتها أكثر من مئة من الشرطة وقوات حفظ النظام كانوا في طريقهم لمؤازرة مفرزة الأمن العسكري المحاصرة في جسر الشغور، كما قام عشرات الارهابيين بقتل ثمانية من حراس مبنى البريد في جسر الشغور ومثلوا بجثثهم وألقوها في نهر العاصي، كل ذلك قبل ارتكاب ما عرف حتى اليوم بمجزرة جسر الشغور.
وأوضح الدكتور حجو: “بتاريخ 5 حزيران يونيو وقعت قوة عسكرية وأمنية تضم أكثر من 100 عنصر، كانت متجهة لمؤازرة مفرزة الأمن العسكري المحاصرة في جسر الشغور، وقعت في كمين محكم ومدروس في منطقة “أورم الجوز” التابعة لـجسر الشغور، قتل على إثره جميع عناصر تلك المؤازرة حيث فتك بهم دون ان يطلقوا طلقة واحدة، فقد تبين من معاينة أكثر من مئة جثة أن الطلقات المستخدمة كانت من نوعية فريدة وأطلقت باحترافية عالية من مسافة 600 إلى 700 متر واستهدف جميعها منطقة القلب والرأس، ما يشير إلى أن “عتاة المحترفين والقناصين من المقاتلين الأجانب، هم من نفذ هذه المجزرة، مستخدمين أسلحة عالية الدقة والقوة”.
وأضاف الدكتور حجو: “كنت برفقة قاضي التحقيق الأول بإدلب (والذي أعدمه الإرهابيون عند احتلال إدلب عام 2015) وفوجئ حينذاك بقراري تشريح بعض الجثامين، وسألني عن سبب إصراري على القيام بعمليات التشريح بالرغم من الخطر المحدق وكثرة الضحايا وضيق المكان، فأجبته دون تردد بأنني سأفعل ذلك لأجل الحقيقة وللتاريخ ولأثبت حجم المؤامرة التي تحاك ببراعة ضد سوريا.
ولفت الدكتور حجو إلى أن نتائج التشريح أكدت ما ذهب اليه الفحص العياني المباشر، حيث أن الطلقات المستخدمة في الهجوم هي من نوع متطور جدا، وأن من استخدمها هم قتلة محترفون، ومن خلال تشريح جثة أحد رجال قوة المؤازرة من السويداء، تبين ان الطلقة القاتلة قد اخترقت الخوذة والعظم الجبهي والدماغ وعظم الصخرة والعظم القفوي والخوذة مرة اخرى، وكل ذلك من مسافة بعيدة وسلاح فتاك.
كان نحو 120 عنصرا في مفرزة الأمن العسكري المحاصرة يقاتلون ببسالة ويتصدون لأكثر من 700 مهاجم، في معركة محسومة النتائج، حيث يفوق عدد الارهابيين المهاجمين أعداد المدافعين بأضعاف، وحيث موقع المفرزة لا يسمح لها بالدفاع، إذ تقع في منخفض تحيط به التلال.
وبحسب اعترافات إرهابيين شاركوا في المجزرة بثها التلفزيون العربي السوري عام 2011 ، بلغ عدد المهاجمين نحو 800 شخص تم توزيعهم على مجموعات بمحيط المفرزة مزودين بالأسلحة وبكميات هائلة من الذخيرة، واستمرت المعركة خمس ساعات سيطر خلالها اليأس على المهاجمين نتيجة صمود المدافعين وبعد سقوط عدد كبير من الارهابيين خلال المعركة، قام المسلحون بتفخيخ مبنى المفرزة ببراميل من المواد المتفجرة باستخدام جرافة، وتم تفجير البراميل ما أدى إلى سقوط عدد كبير من عناصر المفرزة، وبالتالي إلى حسم المعركة وارتكاب مجزرة وحشية بحق من بقي على قيد الحياة من العناصر.
بقيت المدينة لمدة 5 أيام بلا أي وجود لأي سلطة حكومية، وبتاريخ 10 حزيران/ يونيو 2018 دخل الجيش لتوفير الأمن في المدينة، ليتم بعد ذلك العثور “تباعا” على ثلاث مقابر جماعية ضمت جثث الشهداء وأشلاءهم، وبتاريخ 20 من الشهر نفسه تم استخراج عشرين جثة من المقبرة الجماعية الثالثة بموقع نهر الأبيض، بحضور وسائل إعلام محلية وخارجية، ونحو 70 من الدبلوماسيين العرب والأجانب بينهم ممثلين عن الولايات المتحدة الامريكية وتركيا والاتحاد الأوروبي وإيطاليا والصين واليابان وروسيا والإمارات العربية المتحدة والصومال وفنزويلا.
وكان الدكتور زاهر حجو مكلفا بالإشراف على استخراج الجثث ومعاينتها، حيث كشف لوكالة “سبوتنيك” أن وسائل إعلامية وسفراء عرب وأجانب بينهم السفيران البريطاني والامريكي وسفراء خليجيين حاولوا تحريف الحقيقة وحرف الوقائع والتأثير في نتيجة التقارير الشرعية وجربوا في سبيل ذلك كل الوسائل بما فيها التهديدات بالقتل، موضحا: “كان هناك جثث متفسخة اكثر من الاخرى في المقبرة الجماعية الثانية، أرادوا القول إنها جثث أشخاص قتلهم الجيش السوري في درعا وتم نقلها إلى جسر الشغور، ولكن وقتها شرحت للجميع ان هذه الجثث الثمانية “المتفسخة بشدة” هي جثث حراس مبنى البريد التي رميت في نهر العاصي، وحيث أن التفسخ يحتاج الى رطوبة وأوكسجين، والجثث كانت مغمورة بالماء، توافرت لها الرطوبة ولكن لم تتعرض للأكسجين، وبعد اخراجها من الماء وتعرضها للهواء تمت عملية التفسخ بسرعة هائلة لأنها مشبعة بالرطوبة، وهنا تحصل ظاهرة “رأس العبد”.
وبعدما حررها الجيش العربي السوري وأعاد إليها الأمن والأمان، قامت قطعان الإرهابيين باجتياح مدينة إدلب ومعها جسر الشغور في العام 2015، وحولتها تركيا إلى مدينة مستوطنات خاصة بـ (المهاجرين) من المقاتلين الصينيين (التركستان) وخاصة ريفيها الشمالي والغربي الذين يتصلان حدوديا مع الأراضي التركية، وهي لا تزال حتى اليوم ترزح تحت نير الارهاب.