تعرف علي قصة كتاب “وصف مصر”
تعد سنوات الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801) بقيادة نابليون بونابرت من أبرز وأهم فترات تشكيل التاريخ المصري الحديث لكونها وضعت البلاد في مفترق الطرق السياسية والعسكرية والاجتماعية والعلمية.
ولايزال الموقف التاريخي من أثر الحملة الفرنسية على مصر قضية خلافية، رغم مرور أكثر من مائتي عام على نزول الجيش الفرنسي أرض مصر. فمع اتجاه يراها غزوا عسكريا استعماريا خلف آثارا سلبية في حياة المصريين، يعدها آخرون “فاتحة خير أدخلت البلاد عصر النهضة الحديثة” بفضل إنجازها العلمي وانتشلتها من “ظلمات” ثلاثة قرون من الحكم العثمانى للبلاد.
جاء بونابرت إلى مصر يرافقه أكثر من 160 عالما وفنانا، اختارهم بعناية بالتعاون مع الجنرال كافاريللي. تألفوا من مهندسين وفنيين وفلكيين ومعماريين وكيميائيين وعلماء في التاريخ الطبيعي والمعادن ورسامين وموسيقيين وشعراء ومستشرقين. وأسس فور وصوله “المجمع العلمي المصري” بغية حل مشكلات الجيش الفرنسي في مصر.
لم يمكث بونابرت قائدا لحملته العسكرية في مصر أكثر من عام واحد بسبب تصاعد الحراك السياسي في القارة الأوروبية ضد مصالح فرنسا. فتخلى عن حلمه بتأسيس إمبرارطورية في الشرق تاركا البلاد ومصير جيشه لواحد من أهم قادته، الجنرال كليبر، الذي واجه مستقبلا مجهولا وتركة ثقيلة خلفها بونابرت.
“بين فشل عسكري ونصر علمي”
أدرك كليبر منذ اللحظة الأولى لتوليه القيادة العامة للجيش فشل الحملة عسكريا. لذا سعى إلى التشبث بمكسب علمي أكثر استمرار والاستفادة من جهود العلماء المصاحبين لحملة “جيش الشرق”، كما تعرف اصطلاحا في الوثائق الفرنسية.
كانت أولى خطوات التجديد البارزة لكليبر تأسيس لجنة علمية إضافية، إلى جانب لجنتين أخريين أسسهما بونابرت، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1799 كلّفها كليبر بدراسة مصر القديمة والحديثة، لاسيما التشريع والأعراف الدينية والمدنية والإدارة والشرطة والحكم والتاريخ والحالة العسكرية والتجارة والصناعة والتاريخ الطبيعي والسكان والآثار والنقوش والأزياء والجغرافيا.
ويقول المؤرخ الفرنسي هنري لورانس، في دراسة متخصصة عن “الحملة الفرنسية في مصر وسوريا” إن الهدف من اللجنة يبرز اهتمام كليبر بالمؤرخين “وعلى اللجنة إعفاء الأجيال القادمة من البحث، تحت أطلال قرون من الاعتقادات، عما كانت عليه مصر في الزمن الذي انتقل فيه الفرنسيون من الحكم الملكي إلى الحكم الجمهوري”.
ويعتبر المؤرخون كليبر مؤسسا لهذا الإرث العلمي الفرنسي، الذي سماه العلماء أنفسهم نصا “وصف مصر أو مجموعة الملاحظات والأبحاث الموضوعة في مصر أثناء حملة الجيش الفرنسي والمنشورة بأمر صاحب الجلالة الامبراطور نابليون المعظم”، وفقا لما ورد في الصفحة الأولى من الطبعة الامبراطورية.
اتخذ كليبر القرار التأسيسي في 22 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1799، وكتب إلى حكومة الديركتوار (الإدارة) بتاريخ 8 يناير/كانون الثاني 1800، حسبما جاء في وثيقة وردت في صحيفة الحملة الفرنسية “كورييه دي لاجيبت” في عددها رقم 54:
“إن هذا المشروع الأدبي الذي سوف ترحب به كل حكومات أوروبا، سوف يكون محل تقدير أكبر بكثير في بلد يشجع حرية جميع الفنون. كما أن الكتّاب الذين يؤلفون هذا العمل الجمعي إنما يتطلعون إلى شرف منح عملهم طابعا قوميا، وهم يعرضون مشروعهم عليكم بشكل محدد“.
وأضافت الوثيقة : “إن الأبحاث المتعلقة بالحالة الراهنة لمصر إنما تقدم موضوعا مهما للفلسفة والسياسة. كما أن القوانين والعادات والتاريخ والحكم والصناعة والتجارة وإيرادات هذا البلد تستحق دراسة أشمل لا يمكن انتظارها من الرحالة الفرنسيين أو الأجانب الذين سبقونا. لقد جمعت الأشخاص الذين بدوا لي أكثر ملاءمة للتنافس في هذا العمل، ومنحتهم كل السلطة والإمكانات التي يحتاجون إليها”.
وبعث كليبر رسالة أخرى إلى المجمع العلمي المصري بتاريخ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1799 تلاها العالم جوزيف فورييه على الأعضاء جاء فيها:
“إن المرء لا يسعه إلا أن يظهر إعجابه بذلك النشاط العظيم، وذلك التعاضد الذي ظهر من أعضاء اللجان لتبادل ثمار البحوث العديدة التي أعدوها، ومن دواعي الإعجاب ذيوع فكرة تهدف إلى جمع كل تلك الآثار في كتاب واحد”.
“بداية الرحلة“
تشجع بونابرت للفكرة وانتظر عودة جيش الشرق إلى فرنسا وأصدر قرارا بتاريخ 6 فبراير/شباط 1802 يلزم الحكومة بنشر الكتاب، على أن تتكفل الخزانة العامة بكافة النفقات، مع استمرار صرف رواتب العلماء التي كانوا يتقاضونها في مصر، ومنحهم حق الحصول على أرباح طبع الكتاب.
شكل جان-أنطوان شابتال، الكيميائي البارز ووزير الداخلية في ذلك الوقت، لجنة من ثمانية أعضاء مهمتها نشر “وصف مصر”، برئاسة برتوليه، وكلفت فورييه بتحرير مقدمة الكتاب، كما كلفت اللجنة العالم كونتيه وفريقه باختيار وتجميع النصوص ومراجعتها وإجراء التعديلات اللازمة.
ويشير روبير سوليه في دراسة خاصة عن “علماء بونابرت في مصر” إلى أنه: “وفقا لما كان يتمناه كليبر، فإن وصف مصر يجب أن يكون منقطع النظير ولا مثيل له. بل ويرقى على كل ما تقدم قبله. لذا كرست ست آلات طبع خاصة، يتوافر لها نوع خاص من الورق لا يصنع في أي مصنع ورق في أوروبا”.
بدأ العمل في عام 1803 ولم ينته إلا عام 1828، توقف خلالها خمس مرات بسبب اضطرابات سياسية ومالية، فضلا عن وفاة كونتيه، مندوب اللجنة والمباشر للعمل في عام 1805. أما العالم لانكريه، سكرتير اللجنة، الذي خلفه فقد توفي أيضا بعده بعامين، فحل محلهما جومار، أحد أبرز العلماء، وعهد إليه بمهمة التحرير حتى الانتهاء من العمل.
ظهر وصف مصر في طبعتين، الأولى يطلق عليها الطبعة “الإمبراطورية” والثانية طبعة “بانكوك”، وثمة بعض الفروق بين الطبعتين، إذ جاءت الطبعة الأولى مكونة من 9 كتب نصفية للنصوص، يصل كل منها إلى 800 صفحة، و 11 كتابا للوحات، تتضمن إجمالا أكثر من 3000 رسم، بعضها ملون، فضلا عن خريطة لمصر وفلسطين جاءت في 47 صفحة، وطبع من هذه الطبعة ألف نسخة فقط ما بين 1810 وحتى 1826، وهي مهداة إلى “الإمبراطور نابليون المعظم”، لاسيما الأجزاء الأولى.
أما الطبعة الثانية وهي طبعة “بانكوك”، التي أصدرها ناشر حصل على تصريح إصدار طبعة تتميز بسهولة الاستعمال وأقل ثمنا، فقد تكونت من 26 كتابا للنصوص أصغر حجما من الطبعة الإمبراطورية، و11 كتابا نصفيا للوحات، ولم يصدر منها أكثر من ألفي نسخة فقط خلال الفترة من 1821 إلى 1826، وهي مهداة إلى الملك “لويس الثامن عشر”، وحل مكان تمجيد نابليون، لوحة تتسم بالحيادية، كما حذفت من مقدمة العمل إيماءات عن بونابرت.
واحتلت مقدمة فورييه كتابا كاملا وصورت فيها مصر باعتبارها “أكثر متاحف الدنيا ثراء في العالم أجمع”، أما الحملة الفرنسية فوصفها بأنها “المشروع الذي أرجع إلى ضفاف النيل، العلوم التي أبعدت عنه منذ زمن”.
“عيوب وسقطات”
يقول سوليه في دراسته إنه لا يمكن اعتبار وصف مصر عملا مكتملا، إذ يشوبه عدم التنسيق بسبب ظروف الإعداد فضلا عن افتقاره لوجود فهرس وعدم وجود قائمة بالموضوعات.
ويضيف : “إن هذه الدراسة الموسوعية تبدو ناقصة، لأن العلماء والفنانين لم يكن لديهم الوقت الكافي لاستكشاف البلد بأسره، أو دراسة الواحات النائية وكافة الحيوانات والنباتات، كما ارتُكب خطأ كبير عند تحديد تعداد سكان مصر بـ 2.5 مليون نسمة، في حين أن بعض الدراسات الدقيقة للفترة تقدره بنحو أربعة ملايين نسمة”.
استطاع الرسامون نسخ آلاف الرموز والعلامات المستخدمة في الكتابة المصرية القديمة، الهيروغليفية، دون أن يفهموا معناها، لذا أحيانا كانوا يضيفون علامات لملء فراغ غير مستعمل أو زخرفة جزء معماري، أو استعارة بعض الكتابات من معبد مجاور، لذا عندما انتهى العمل بوصف مصر، كان العالم جان-فرانسوا شامبليون قد انتهى في نفس الوقت من حل لغز الكتابة المصرية القديمة فأبطل الكثير من تفسيرات العلماء بشأن الآثار المصرية واعتبرها طرائف وأخطاء.
“أهمية غير مسبوقة”
من أجل تنظيم وترتيب الكتب فائقة الضخامة للطبعة الإمبراطورية، صممت اللجنة المعنية قطعة أثاث خاصة، رسمها جومار بنفسه، ونفذها أحد نجاري الأثاث المشهورين وهو موريل، كما تكفل بزخرفة الخشب النحات دانتان، وألحق بها ركائز ذات أعمدة مصنوعة من خشب البلوط الهولندي، وزينت بإفريز مصري الطراز، وهي مكونة من 14 رفا، توضع كتب اللوحات أفقيا، مع إمكانية تحريك الجزء العلوي.
ويقول سوليه إنه على الرغم من بعض الأخطاء، فإن هذا المؤلف الهائل الضخامة، يعتبر غير مسبوق في مجال تاريخ العلوم، ويطرح سؤالا : هل كان الفرنسيون قادرين على دراسة بلدهم بجهد مماثل لهذا الجهد الذي بذله علماء بونابرت في مصر؟ مشيرا إلى أن “وصف مصر يبدو وكأنه الإنجاز الفعلي لعصر التنوير”.
ويجيب فورييه عن السؤال، في مقدمة كتاب “وصف مصر” في الطبعة الثانية “بانكوك” للكتاب:
“لم يسبق لأي بلد آخر أن خضع لأبحاث بمثل هذا الشمول والتنوع، كما أنه لا توجد بلاد أخرى جديرة بأن تكون موضوعا لأبحاث كهذه. فمعرفة مصر أمر يهم كل الأمم المتحضرة في حقيقة الأمر، نظرا لأن هذه البلاد هي مهد الفنون والنظم الدينية، وبإمكانها اليوم أن تصبح مركزا للعلاقات الدولية وتجارة الإمبراطوريات، كما ترك الشعب الذي كان يسكنها آثارا تدعو للإعجاب بعظمتها وقوتها ونفوذها”.
ويقول جون-ماري كاري في دراسته “رحالة وكتّاب فرنسيون في مصر” التي نال عنها جائزة الأكاديمية الفرنسية التي تحمل اسم جائزة “جوبير” الكبرى عام 1933:
“قبل ظهور وصف مصر بنحو قرن، كانت مصر مدفونة غارقة في ظلمات آلاف السنين، وكانت بلاد فارس والهند والصين معروفة أكثر منها، ولا يوجد من الرحالة إلا نحو 12 فردا خاطروا بركوب النيل وكتبوا كتابات غير مكتملة عن رحلاتهم معظمها تقريبية. الآن تغير كل شيء في عام واحد، وأضاءت العبقرية الفرنسية أعماق التاريخ وأخرجت لأوروبا بقايا تاريخ تليد غامض. أصبحت بفضلها مصر محور دراسة علمية للباحثين في المستقبل”.
حرص بونابرت على اختتام حملته ببيان ورد في مراسلاته بتاريخ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1801 يذكّر فيه بذلك “المطمح الحضاري” لحملته أورده هنري لورانس في نهاية دراسته قائلا:
“لقد تركوا (أي الفرنسيون) لمصر ذكريات لا تموت، لعلها تفضي يوما ما إلى بعث الفنون والمؤسسات الاجتماعية هناك. وعلى أية حال لن يورد التاريخ موارد النسيان ما فعله الفرنسيون لنقل حضارة ومعارف أوروبا إلى هناك. وسوف يروي (التاريخ) بأية درجة من الانضباط حافظوا عليها طوال تلك الفترة وقد يأسف على ضياعها كنائبة أخرى ألمت بالجنس البشري”.
ولعل التركة الأساسية لتلك الحملة الفرنسية على مصر تتلخص في ذلك الإرث العلمي والفكري والإيدولوجي الذي خلفه الفرنسيون، ويدين تاريخ مصر الحديث بلاشك لهذا الإرث وذلك الأثر المهم المتمثل في موسوعة “وصف مصر” التي تعد ثمرة جهود دؤوبة لعلماء جاءوا من فرنسا مع حملة عسكرية، أثمرت على نحو غير مباشر بإرث علمي لمصر.